أُنطولوجيا الجسد (33)

مفهوم الجسد عند هايدغر (7)

 

يعمل هايدغر على ابتكار كلمات خاصة تمكّنه من الإحاطة بمعنى الجسد الذي يحتل المكان حتى يعطي «أصالة» (originellité) خاصة لتفكيره. فعند الحديث عن العلاقة بين الجسد والمكان أو الفضاء يقول «إن الجسد يجسد» (Le corps corporéise) بمعنى أنه يمثل مادته، أمره في ذلك أمر «الفضاء يُفَيّض» (L’espace spatialise) بمعنى أنه يتسع أو أن «الفضاء يخلق الفضاء» إذا صح التعبير. ولا يمكن التمييز عنده بين (corporéiser) و(corporéifier)، «لأن تجسيد الجسد يتحدد حسب الكينونة[47]».
Le corporéiser du corps se détermine selon mon être
Das Leiben des leibes bestimmt sich aus der Weise meines Seins.
كما يستعمل عبارة «التفعيل» (Verbifier/ verbification)[48] (بمعنى أنه يجعل الشيء فِعلاً أو عمليّاً)… إلى جانب أسماء أخرى مرادفة للدازاين ليعبر عن حالات الإنسان كأمثال: «الكائن في العالم» و«الكائن المنفتح» و«الكائن إلى» و«الممتلك للعالم»…
هذه الكلمات التي وضعها من أجل الحاجة الفلسفية لا يمكن في أغلب الحالات نقلها إلى لغة أخرى إلا بالمقاربة بسبب العجز الديناميكي بنقص أو غياب الحركية الداخلية للعبارات نفسِها في لغة معينة.
نفسه الفاعل الديناميكي نفسه نجده في الجسد وهو الذي يجعله يتحرك بوجود أمر من الداخل استجابة لإرادة الفرد كإشارة اليد إلى البعد. هذا النشاط أو الفاعل التنشيطي لا يمكن أن يكون مُحتَوىً في الغلاف الجسدي، بل هناك ديناميكية تنشيط تجعله يقوم بأشياء بمحض إرادة المرء فنسميه «الفاعل»، عكس العملية العفوية التي تأتي طبيعيا كدقات القلب. هذا النشاط الجسدي يشارك الفاعل في أفعاله بحيث ليس الجسد (Leib) لوحده هو الذي يرى أو يفكر أو يسمع إلخ… بل «الأنا» (je) أي (ich) حتى إن كان بالفهم الديكارتي. فالأنا هو الذي يجمع العناصر المشارِكة في الفعل، يضمن علاقة الشخص بالعالم وهو أساس كونه الدازاين أو أنه «دازاينيتة» (daseinité). بعملية «تجسيد الأنا» يصل هايدغر إلى القول «إنني أقف بجسدي في المكان/ الفضاء» (Se-tenir de mon corps dans l’espace)، هذا المكان الذي هو العالم لأن الدازاين هو «الكائن في العالم» (L’être-au-monde) كما أنه «المنفتح على العالم» لأنه يحتل فيه مكانا، فيقول: «إن التجسيد ينتمي للكائن في العالم، يشارك دوما وفي الوقت نفسه في تحديد «الكائن في العالم» و«الكائن المنفتح» (être ouvert) و«الممتلك للعالم» (l’avoir-au-monde) [49]. تعبر هذه المفردات الخاصة عن صعوبة الإحاطة بحدود الجسد. وهذه المسألة، في رأيه، وإن كانت تجريبية، فهي ليست «تجربة الحدود» في الجسد بقدر ما هي «تجربة بلا حدود». بهذا الرأي المتعدد المعاني يمكن القول أن هايدغر ابتعد تدريجيا عن الفكر اليوناني حيث كان للأشياء مَعَانِ أحاديةٌ تٌحدَّد في أماكن حسب ثقلها، فلا تكون الأجسام في علاقة مع العالم أو الفضاء حسب إرادة الشخص بل حسب كيانها، الثقيلة منها في درجة أدنى والخفيفة في الأعلى[50]».
إضافة إلى هذه التعريفات، عمل «مارك جونسن» في كتابه «The boby in the mind» على تكملة مسألة الحدود وتنقل الجسد عبرها. فيرجع إلى علاقة الجسد بالعالم ليبين أن الثاني يتغذى من تجربة الأول لكونها تجربة جسدية (corporelle) على الأقل إن لم تكن تجربة بدنية (charnelle). فيقول أن الجسد يوفر خريطة جغرافية تسمح للمخيلة بإنشاء شبكات مكانية لفهم العالم، وهي تهيكل الفهم المادي للعالم طبعا، بل والفهم المجرد كذلك[51].
هكذا ندرك أن مسألة حدود الجسد عند هايدغر لا ترتسم في قضية فصل الروح عن الجسد كما هو معتاد في الفلسفة التقليدية ولا اعتبار الجسد مادة بحتة من خلال مجموعة وظائفه البدنية كما يرى الفيزيولوجيون، بل هي تركيب معقد فيه أشياء مرئية وأشياء مخفية وأخرى منسية[52]. لقد حدثنا مسبقا عن النسيان لما اقترح العودة إلى سؤال الكينونة الذي طُرح في العهد اليوناني ونُسي مباشرة بعد طرحه. وهو يقصد بهذا النسيان نوع من التناسي التدريجي للكينونة بعد أن كانت محور الفكر وتعويضها بالميتافيزيقا التي أصبح الفكر الإنساني يحوم حولها. ولَما اقترح إعادة النظر في كل ما كان منسيا أو تجاوزه الزمن، كان يقصد استرجاع السؤال الأنطولوجي أي السؤال حول الكينونة والإنسان الذي يتضمن الجسد بكل عناصره وأبعاده وشروطه. أسئلة رئيسية مهدت لفكر جديد يدعو فيها بالعودة إلى موضوع قديم يقتضي تقديم «الجسد» في علاقة انسجام تامة مع العالم. في حديث عن الجسد الشاعري تعمق هايدغر في تحليل عبارة «شعر» (poésie) وتفسير «الشاعرية» بالرجوع إلى الأصول اللغوية. وهو يفضّل بالألمانية عبارة (dichterisch) عن (poetisch) لأن (poetisch) كلمة يونانية الأصل يقترب معناها من «الإنتاج»، بينما يبقى (dichterisch) في المعنى الشاعري الأولي. فيستعمل عبارة «يسمح للكينونة أن تكون» (Laisser-être)، ويقصد بها الضمان أو على الأقل الشرط الأساسي الأولي للسكن الشاعري، لأن الشاعر يحترم الكينونة و«يسمح لها أن تكون»[53] فيه بكل ضمان. كما أنه يحترم بصفة شاملة الوعود أو الوعد (acte de parole) ما سماه «حكم كلمة» أو «فعل كلمة» الذي يجعل من حس الشاعر نوعاً من القرار والضمان والاطمئنان يسكن إليه الدازاين أو فيه، كما لو كان مسكناً له وكأنه «قرار مسكن» أو «حكم مسكن» (acte d’habitation) لأن الجسد بكل حركاته وأفعاله يسكن في الكلمات التي تعبر عنه، وهو أي الدازاين يعطي الأسماء للأشياء حتى يجمعها ويوحدها. إن هذه العملية الفكرية توسع وتمدد حدود الجسد ليؤثر في العالم بمعنى «التفعيل» أي أنه يفعل فيه (agir). وفي هذا الإطار يصبح الجسد شاعريا ويسكن المكان بحدود تتجدد باستمرار، في علاقة دائمة مع العالم[54] كجواب له، لأن الفعل (verbe – entsprechen) بهذا الاستعمال يعني الإتفاق (correspondre) أو الجواب (répondre).
هذه الديناميكية الوجودية لفهم الدازاين للكون، وهو جزء منه، تجعله يتمتع بنوع من راحة البال (bien-être) لأنه ينسجم مع محيطه في السكن الشاعري الذي يجعل من الأجزاء كلاّ متكاملاً ومتجانساً ومتوازناً.


الكاتب : ويزة غالاز

  

بتاريخ : 19/08/2021