ثمّة تاريخ طويل يخصّ الجسد في مفهومه الإنسانيّ حصراً، ولكن أيّ تاريخ تمّ التوقف عنده أو تقديمه؟
الأهمّ من ذلك: ماذا قُدّم في نطاق الجسد؟ وهو الذي يستحيل حصره، عبر القيام بعملية مسح ميدانية، بما أنّ الواقع في المدى المنظور يتجاوزه، بما أنّ الذي يقوم بهذه ” المهمّة” الذاتية وحتى إن تكلَّف بها، يجد نفسه في مواجهة جملة من صادّات رياح المكاشفة، إن من جهته وهو المعرَّف به في حيّز ثقافة شخصية ومعتقدية معيّنة، أو من جهة من يعمل باسمهم: طرفاً ما لا على التعيين يستحيل التذكير به وبنظام معرفته الداخليّ، إن جاز التعبير، بعيداً عما يميّزه حدودياً بتلك الطرائق المنهجية، أو أساليب البحث والاستقصاء أو الخطوط الواجب سلكها، وما يجب التذكير به أو التكتّم عليه لأسباب مختلفة وجاهياً أو ترفيهياً وبحصانة محروسة أو استقوائياً بطريقة ما، وكيف يمكن ضبط المفهوم ، مفهوم الجسد، والسماح بتداوله والمعتمَل شعورياً في ظلّه…الخ.
أنكون مجانبين للصواب في نسَبه الجسديّ، إن قلنا وبنوع من التشديد، على أنّ كل ما جرى ويجري تدوينه حتى الآن في هذا المضمار، لا يمثّل إلا نسبة ضئيلة ممّا يمكن وليس مما يجب أن يُعرف بخصوص الجسد( ما يجب مواجهةٌ لما هو عُرفيّ، من عائدات أخلاقيات التحكّم وتحوير القيمة الواحدة مهما ضؤلَت مكانة)، وهذا ليس تبخيساً لما وضع من دراسات متفاوتة حوله وفي مسارات مختلفة أيضاً، إنما هو الانشغال بالمنتظَر وقيد النظر دون التحوّل إلى المكاشفة الأوسع، وما في ذلك من تعارض بين السعي الكشفيّ إلى المضمر والمتحفَّظ عليه، وما يسفر هذا الإجراء من ذلك التشوّه القاعديّ المنشأ للنظام” السيستام” البحثيّ التاريخيّ، إذ السياديّ فيه يكون المجاز أو المسموح به، وكيف أنّ لعبة الفوارق التاريخية تمارس سؤددها في إبقاء المرغوب فيه تبعاً لميكانيزم نمطيّ إيعازيّ ضارب، أكثر تلبية للرغبة المُحكمة حتى إلى ما وراء الميتافيزيقيّ( لنتذكر هنا الجسد في حاضرة الإسلام المتخيّلة والمفعَّلة مادون سدرة المنتهى أرضياً، ومردود التفعيل الأرضيّ فضائياً، بوصفها واقعة قيد التحقّق إنما ما بعد سفر الموت في زمن مختلف مقدَّر إلهياً!)، وإقصاء الجاري الحكم عليه في زمكان محدّد، وكيف تقرَّرت اللغة في نطاق الرصد والقصد المعرفيين، سواء في سياق الاسم وكيف يجري تداوله نصّياً، أو الجملة الاسمية وكيف يتمّ تأصيلها وتبعاً لأيّ قاعدة أخلاقية دينية أو مذهبية ووسط اجتماعيّ معيّن، وتلك المناسبات المدشَّنة في التاريخ وتلك القابلة للاستعادة الدورية أو للمؤانسة بحسب المستجدّات…الخ، وسياق الفعل وما يكون أكثر اعتماداً، بما أنّ إرادة اللغة ذاتها غير مؤمَّمة من الوصائية أوالآبائية، إنّما هي إرادة أولي أمر اللغة والذين كانوا ذات يوم، ثم حرّروا رموزاً اعتباريّة وجرى تمثيلهم وكأنّهم حاضرون في اللغة ذاتها عبر من يحيلون إليهم أو يمارسون تجديداً مستمرّاً لهم، لأجسادهم التي لا يصيبها البلى إنما ينوبها الثواب الدائم، كيف أنّ الفعل الواحد يتحدّد باسمه بالمزيد من اليقظة العُرفية المعقلنة، ليكون للفعل الناقص وسواه والأحرف المشبَّهة به تنوّع الأدوار الفولكلورية المهابة ومرهوبة الجانب، ما يخصّ الخدم والحشم في الربط أو طبيعته، في التجميل أو التحميل قيمياً، في الضمير المتّصل أو المنفصل أو الظرفيات وأدوات الشرط…الخ، وكلّها ذات صلة مباشرة بشئون الجسد وكيفية تركيبه، بالمفتَّت فيه والجاري تعزيزه، بالكتابيّ وأيّ كتابيٍّ فيه، والشفاهيّ وجنسه…الخ.
مكاشفة هاوية الجسد
رغم أنّ سرداً موسوعياً ألفبائياً ووصفياً ودلالالياً، يمكن التوقّف عنده بصدد التاريخ المتعلّق بالجسد في طابعه العامّ وما يجري تمييزه الجزئيّ عن سواه: الجسد المعتبر إسلامياً، وأيّ إسلاميّ هو هذا الذي يمكن تناوله في نطاق معرفيّ ما: فقهيّ، كتاتيبيّ، مدرسيّ، جامعيّ…الخ، بما أنّ الإسلام ” وما أكثر إسلامياته!” حاضر بقوّة في تنوّع قواعده الفقهية ومذاهبه وفرقه وتنوّع أعلامه، إلا أنه من السهل تماماً استشراف وخامة هذا السرد نظراً للتفاوت المريع بين جسد وجسد، لأنه ليس هناك جسد حقاً رغم كلّ الإطناب في هذا المجال، رغم وحدة حال الجسد تاريخياً، إذ إننا لحظة الدخول الفورية إلى متحف تاريخ الجسد ومن يعيله ويدير أموره، نجد أنفسنا في مناخ صقيعيّ في متاهة التسميات وهي لا تعدو أن تكون تعميات تقوم على قاعدة تبذيرية للجسد في حقيقته الواحدة، جسد يُنظَر إليه باعتباره قادراً على إظهار غناه في مقومات نشوئه وهو الموزّع جندرياً بين الذكر والأنثى، وحتّى في إهاب النوع الواحد وكيف تتمّ بعثرة المفهوم الطرفيّ( جانب الذكر الذي هو في العتيد المميَّز له مضخَّم بإحالة أوليائية أو تزكية طرفية ما أو أضحوية بعيداً عن محضر الضبط المعنيّ بواقعته زماناً ومكاناً).
تاريخ دون تاريخ، لحظة إجراء المقارنة! وكأننا في فعل مقايضة القائم بالعائم، الطليق دون اسمه الفعليّ، بالمحلَّق به خارج اسمه المناسب، أقلُّه التاريخ المسجَّى دينياً، ومن يشرف عليه، من يتقاسمه باعتباره تاريخ الجسد الكلّيّ، ونحن نعلم ببؤس مكانته، حيث الجسد الآدميّ والحَوَّائيّ في واجهة الذاكرة الجمعية للمعنيين به سيادياً!
ثمّة تاريخ أوسع، أرحب، أعمق، أكثر قدماً وعراقة، وأن المدوَّن يقدّم الجانب الأهلي فيه برعاية إلهية معينة، بمواكبة نخبة من طليعة الميدانيين المرفَّه عنهم من مقتفي أثر الجسد، وواضعي رموزه، وراسمي إحداثياته، وما يمكن الشعور به بحسب مقتضيات الظروف، هي الطليعة المتجددة لا ينال منها التقادم، بما أن العراقة محفوظة الحقوق سرمدياً، كون الزمن المعرَّف به يلغي الزمانية، وبالتالي فإنّ الأفعال ذاتها، وهي تجمع بين الماضي والحاضر والمستقبل، وحتى ما يخصّ المشتق أو الجامد في الاسم، صيغة إنشائية كرنفالية لا أكثر ولا أقلّ، بما أن المقرَّر لحفظ الجسد وما يجب أن يكون عليه الجسد، وكما عرّف به بعلاماته التاريخية في برزخه المعلق بين السماء والأرض، ولنكون نحن أبناء اليوم كما كان أسلافنا في مجملهم محمولين بأعباء مسمياته دون أسماء قواه الفعلية، طوع أمر المقرَّر فيه في التجنيس ومتخيَّله، كما تقول أدبيات تاريخه المقررة كثيراً إلى يومنا هذا كثيراً!
نعم، يمكن أن أتحدث عن الجنس ومدى صلته بالجسد الذي يعنيني أمره وهو في أنسيكلوبيديته المدهشة وكيف عُني بهذه الأنسيكلوبيديا الجسدية اختزالاً وتعطيلاً لجملة القوى التي تجعلني على تماسٍّ مباشر أكثر تفعيلاً لها بها، أكثر ميكانيزمية في تحفيز قواي، حيث الجسد يكون أكبر من تاريخه دائماً، وفي انتظار ما يجعله أكثر حضوراً وسفوراً عما يتضمنه كونياً، لأشعر كحامل له ومحمول باسمه، أن ثمة خلقاً مستمراً له في معاودة النظر والتفاعل الدائمين مع كل مستجد، كما هو التداخل مع ما قيل فيه أو أُسند إليه، جسد محرَّر من اسمه وما يعزى إليه داخل إطار مؤمَّم من كل احتكار طرَفي، ليكون جديراً بحقيقته والرفع من سويته ذات المنشأ الكوني العريق كما يقال.
نعم، يمكنني أن أتحدّث عن الكثير مما كتِب عنه( أقول الكثير، ليس في باب إنجازات المنسوب حقيقة إلى الجسد الذي يهمنا، وإنما في حيّز المساءلة عن ضعف أمر الكثير هذا مقارنة مع الغفل من الاسم داخل هذا الجسد)، عندما أستحضر تاريخه الدينيّ وما الذي أُطلق العنان له، من خلال الكتب التي تخندقه في صور أو مشاهد تكوين دينية تماماً، تمارس تقطيعاً للحدود الجغرافية تفضيلاً لجانب على آخر، حرب حدود تجزأت على بعضها بعضاً، بعثرة للتاريخ الواحد ومعاودة تعزيز صدام التواريخ داخل التاريخ الواحد، والجسد الواحد هو الممثَّل فيه، وكيف تتم فهرسة الجسد بقواه القابلة للتسمية لها صلة بالنفس، أو بالغرائز، أو بالمشاعر، وكيف يمكن توجيهها أو ما يجب دوام الاتصال به، باعتباره المرجع الواقع في المستقبل وليس في الماضي والاستماتة من أجله، ولكن اللحظة الدينية في ألفها ويائها المعزَّزين في فسحة تاريخية مجتباة، هي طرفة عين تاريخية في جسد الزمان الكوني، مثلما أن المنسوب إلى الجسد يمثل وجهاً جرى الاقتصاد التقشفي في تقديمه، ليس أكثر من بورتريه، من بين وجوه لا تتوقف عن التناسل والتنوّع لهذا الجسد الذي يُعصى على الضبط، كون الحياة تعلِمنا بذلك.
نعم، يمكنني أن أتحدّث هنا عن أدبيات التاريخ الإسلاميّ، وكمثال عينيٍّ، وكيف جرى تعليم الجسد، أو وضعه في حيّز بانورامي معتقدي، وأطلِق في فضاء التاريخ ليكون في مقدوره، بثُّ ما يجب العمل بموجبه، وهو يمارس دوراناً مستمراً حول محور قاعدي يوجَّه بموجبه، إنه الجسد النموذجي المتجدد دائماً، ولكن الذين دوّنوا التاريخ كانوا طرفاً من بين أطراف، وحتى طرفيتهم لم تنقذهم من جملة المعتقدات التي تحدد مواقعهم وظيفياً وقيمياً.
نعم، يمكنني أن أتحدث عن أسماء لها حضورها الفقهيّ أو الأدبيّ( أتحدث هنا عن أدبيات السنّة وخلافهم والذين حاولوا شرعنتها وتهذيبها في أصولها وكيفية العمل على دوام فعلها والحراسة عليها)، ولكنه حضور هو رهينة تاريخه الخاص المرحلي أو العصري أو المصري( نسبة إلى مكان محدد)، أو الجماعي أو الفِرقي…الخ.
نعم، يمكنني أن أتحدّث عما يفيدني في مكاشفة بنية الجسد إسلامياً مجدداً، من خلال ما دوّن عنه تاريخياً، من قبل الجاحظ، وأبي حيان التوحيدي، وابن سيده الأندلسي، والثعالبي النيسابوي، والنفزاوي والتجاني، والتيفاشي، والسيوطي( مجموعة كتبه عن الجنس)، ولكن الذي يُتلمَّس هنا يفتقر إلى وضوح الرؤية من ناحية التكامل والتفاعل بين عموم مكوّنات الجسد، خارج التفريق المعتقديّ والمذهبي جنسانياً، حيث الجنس ليس الجسدَ حسابياً، إنما هو حساب نظريّ وعمليّ، مقارنة بالجسد الذي هو ذخيرة رياضية تشمل المنظور واللامنظور فيه.