إدغار موران والقضية الفلسطينية

إن إنجاز ملف حول مُفكر بحجم إدغار موران (سِنَّا وفِكرا) هو بمثابة المغامرة المحفوفة بشتى أنواع المخاطر، بما أن الرجل يكاد يكون مُحيطا بكافة صنوف المعرفة. فهو أولا أنثروبولوجي قد سبق له الاشتغال على موضوع الموت، وهو سوسيولوجي يملك دراسات مرجعية حول الثقافة الجماهيرية والشباب، وهو صاحب مشروع فلسفي-بيولوجي-أنثروبولوجي كَرَّسَ له مُعظم فترات حياته: التعقيد، دون نسيان اشتغاله على السنيما وتحولات المجتمع الفرنسي وطبيعة الاتحاد السوفياتي وحياة الأفكار، قبل أن يتحول إلى مُنْذِرٍ بأزمات العالم ومُنادٍ بخلاص يمر عبر تطبيق سياسة حضارية جديدة.
كما أن مساره الحياتي لا يقل تنوعا وغنى، فقد بدأ بولادة عسيرة واستمر بأشكال نضالية واكبت تقلبات التاريخ ومنعرجاته،ولم تنته حتى اليوم كما يشهد على ذلك موقفه الأخير المندد بالعُدوان على غزة.
التمرين صعب كما سبق القول، لكنه ليس مُستحيلا، ومصدر ثقتنا هو فكر موران المُركب نفسه، الذي وضعناه قيد العمل في إنجاز هذا الملف. أليس من مبادئ هذا الفكر «احتواء الكُل على الجزء، والجزء على الكُل؟ . وهكذا فقد جاءت مُحتويات هذا العدد مُتكافلة ومُتآزرة بشكل يُساعد على فهم شامل لُمُفكر حكيم ينطبق عليه أكثر من غيره تعبير: «عَيْشُ الفِكر وبَعْثُ الحياة في الفِكر.»

 

«يصعب تصور أن أمة من الهاربين، منحدرة من الشعب الأطول اضطهادا في تاريخ البشرية، الذي تحمل أسوأ الاهانات وأسوأ الاحتقار، تكون قادرة على التحول، خلال جيلين، إلى شعب مُسيطر وواثق من نفسه وباستثناء أقلية جديرة بالإعجاب، إلى شعب مُحْتَقِر يجد ارتياحا في الإهانة.»
هذا ما كتبه إدغار موران في أعمدة جريدة لوموند الصادرة بتاريخ 4 يونيو 2002 احتجاجا على السياسات القمعية لرئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أرييل شارون.
المقال الذي حمل عنوان «إسرائيل – فلسطين: السرطان»، أثار ضجة عارمة في ذلك الوقت، وكلف موران الوقوف أمام القضاء الفرنسي بتهمٍ من بينها «التشهير ذو الطابع العنصري» و»معاداة السامية»، بما أنه، في نظر الجهة المُتابعة (جمعية محامون بلا حدود وجمعية فرنسا-اسرائيل)، يخلط بين يهود إسرائيل وبين الطائفة اليهودية عموما بصفتها تنتمي إلى أمة أو دين.
من التّهَم التي جَرَّهَا المقال أيضا على إدغار موران، نجد «تمجيد الإرهاب»، ذلك أن موران يرفض اعتبار عمليات المقاومة الفلسطينية إرهابا، وهذا ما جاءت تعبر عنه هذه الفقرة من نفس المقال: «لا يجب الخوف من التساؤل حول هؤلاء الشبان والشابات الذين تحولوا إلى قنابل بشرية. صحيح أن اليأس حَرَّكَهُم، لكن هذا العامل لا يكفي. هناك أيضا دافع قوي للثأر، الذي في منطقه البدائي العميق جدا، خاصة في البحر المتوسط، يستدعي توجيه الانتقام، ليس بالضرورة نحو مرتكب الجرم وإنما نحو طائفته. إنه أيضا فعل تمردي مُطلق، من خلاله يشعر الطفل – الذي رأى اللاإنسانية اللاحقة بأبيه وأقاربه – بأنه يستعيد شرفا ضائعا ويجد أخيرا في موتٍ قَاِتلٍ كرامته الخاصة وحريته الخاصة.»
في نهاية المطاف، تمت تبرئة موران وشَرِيكَيه (الفيلسوف سامي نعير والكاتب دانيال سنيلاف اللذين شاركاه كتابة المقال) بتاريخ 12 يولويز 2006 من التهم المنسوبة إليهم، وكذا تغريم الجمعيتين المذكورتين. وقد أكدت المحكمة أن الأمر يتعلق فقط بفقرتين منزوعتين من سياقهما العام الذي يحميهما من تهمة الكراهية.
خرج إدغار موران من هذه القضية بكتاب شهير حمل عنوان العالم الحديث والمسألة اليهودية، فيه تطرق إلى تاريخ اليهود ال»كَوْنيين»، أي أولئك الذين يحملون هوية مزدوجة: الانتماء إلى التقليد اليهودي، والانفتاح الإنساني على باقي الحضارات. إدغار موران يدعوهم باليهود-الأغيار: فهم يهود لأنهم يحملون ذكرى الشعب اليهودي، وهم أغيار لأنهم تشبعوا بحضارات أخرى ساهموا هم أيضا في إغنائها.
إن مونتاني واسبنوزا وماركس وفرويد واينشتاين وغيرهم، كلهم يُمثلون، في نظر موران، يهودا – أغيارا ساهموا في ازدهار الحضارة الإنسانية الحديثة بما يتوفرون عليه من تنوع هوياتي، ساهم في دعم قيم الحرية والتسامح عندهم.


الكاتب : يوسف اسحيردة

  

بتاريخ : 06/09/2024