عندما تزهر الأفراح في عتمات السواد
اعتبارا لكون العنوان هو إشهار للنص وإعلان مكثف عنه، كما جاء في دراسة الباحث كلود دوشي، الذي خصص بحثا شاملا عن العنوان في كتابه « الفتاة المهملة والوحش البشري»، معتبرا العنوان أساسيا لجسم أي نص، لما يحمله من دلالات بليغة تجعله قريبا من القارئ، وفي نفس الوقت محط تساؤلات وتأويلات وفق دراسته لمحتوى النص، وتأسيسا على ذلك تقدم لنا الشاعرة والكاتبة حسنة أولهاشمي مجموعتها الشعرية «من عين البومة … مرَّ فرح صغير» الذي يضم بين دفتيه خمسا وسبعين قصيدة نثرية، تنوعت من حيث الشكل وتوحدت من خلال الرؤيا والحمولة الفكرية، مكونة عِقدا سعت من خلاله للسعي والبحث عن سبيل أو وصفة للفرح في ظل مجموعة من الإكراهات والظروف التي بات يعيشها المرء، سواء مع نفسه – الذات – التي بات لا يعرفها حق المعرفة وهو ما أشارت له في بداية مجموعتها من خلال قولة بول فاليري «أسرار المرء الحقيقية، تخفى عليه أكثر مما تخفى على الآخرين « أو مع الآخرين، قصائد استطاعت من خلالها الشاعرة كسر ذاك الجمود العمودي للقصيدة، مستحدثة نمطها المشبع بالصور الإبداعية والبلاغية الرائعة، فاتحة شهية القارئ عبر امتداد لغوي ودلالي لا نهاية له. وانطلاقا من قراءتنا المبسطة لغلاف هذا الديوان، نستشعر ذاك الصراع الداخلي الذي تختزله الشاعرة، محاولة إشراكنا ومقاسمتنا ذاك الهم، من خلال لوحة الغلاف التي تتوسط السواد، لوحة مدينة بدون معالم مبحرة بين الغيوم، تبحث عن مرفأ آمن ينجيها ذاك الطوفان الغيمي، فيما يأتي العنوان في أعلى الصفحة بلونه الأحمر القاني الذي يرمز في حد ذاته للتمرد والاستجداء من أجل الانعتاق من براثين السلطة والجبروت والألم وزحمة الحياة، وفي نفس الوقت فهو يوحي بالفرح والحب و السلام من خلال تلك الخطوط البيضاء التي تؤطره، وهو ما يتماشى مع رمزية عنوان الديوان، الذي استأثر بنا وحملنا على مكاشفة ما بدواخله، كما سبق أن أشرنا إليه في استهلالنا لهذه القراءة « حيث أنه برغم أوجه التناقض الذي يعتري رمز ودلالة البومة في المأثور الشعبي العربي أو الغربي، كونها مخلوقا يرمز لسوء الحظ والخراب كما ذكرها شهاب الدين الأبشيهي في كتابه ( المستطرف في كل فن مستظرف) وكذا في ترجمة ابن المقفع لـ»كليلة ودمنة» ووليام شكسبير في مسرحية ( ماكبث). فعلى نقيض ذلك فقد اعتبرها اليونانيون رمزا للحكمة، كما عبرت عن ذلك الأديبة أمل عبد الرحمن حين قالت « إن هدوء البومة يوحي بالحكمة فهي لا تؤذي» وقد قاسمتها في ذلك الشاعرة غادة السمان حيث أن ترى أن البومة طائر يتطلع إلى الكون بعينين فاحصتين، يرقب العالم من بعيد ويعري العيون بنعيبه ويفضح التزمت و الجمود، و لربما على أساس هذه الأخيرة يمكننا قراءة هذا العنوان المستفز و المبطن في نفس الوقت، فرمزية البومة هنا تعود للمعاش اليومي و لتلك المدينة أو الوطن المغبون، على أساس أن ساعة الفرج والفرح لا محالة قادمة ومطلة من عين(ها).
وبخلاف ما يطالعنا من إهداءات بعدد من الكتب والمراجع، والتي غالبا ما تكون بشكل مباشر، إما تكون للأم أو الوالدين معا، أو للحبيب أو الحبيبة، أو الأبناء أو الأصدقاء، فقد جاء إهداء حسنة أولهاشمي من نوع خاص لما يحمله من دلالة ورمزية عميقة، مستندة في ذلك على بلاغتها البيانية معتمدة المجازات الحارقة، المفتوحة على التأويل، إهداء للجدران التي أهمل الزمن يدها لكنها لا تتردد في دعوتها للعناق، وحيث أن رمزية الجدران توحي للمكان فيمكن أن تكون هنا بمثابة ذلك الوطن أو المدينة التي رغم ما آلت إليه من ضياع وإهمال فما زالت تجذب محبيها والمتعلقين بهويتهم ووطنيتهم، مما يجعلنا نربط رمزية هذا الإهداء برمزية لوحة الفنان محمد سعود التي تؤثث غلاف الديوان.
يتجلى بوضوح من خلال الديوان، النهج الذي سلكته الشاعرة والمتميز بالأسلوب الواعي المتسم بجماليات النص الشعري، ومحاولة رصد الصورة الشعرية في شكلها الرمزي والدلالي تجاه الآخر أو تجاه الذات، وذلك بشكل لافت لما تتضمنه قصائدها من تراكيب فكرية وشعورية منبثقة من حمولة داخلية مشبعة بالأحاسيس والحس المرهف، شأنها شأن غالبية النساء اللواتي امتطين صهوة الشعر واعتلين مقاماته لما يتميز به من أسلوبهن وتعبيرهن المركز والمشحون بالمعاناة، لتبقى المقاربات الجمالية التي أسست عليها قصائد الديوان، وما تحتويه من علاقات وظواهر نفسية وشعورية تجاه ما يحيط بالشاعرة في عالمها الداخلي – الذات – والخارجي – الآخر – لتتوحد الصور والرؤيا معا في حالة واحدة، صور للتراكيب المتناقضة والظواهر والأحاسيس الشعورية، وكذا حيز الإيحاءات والتأويلات التي بنيت عليها، مما يتطلب منا عند قراءة أو فهم شعر الشاعرة حسنة أولهاشمي، الإحاطة بكل هذه العوالم النفسية، سيما أنها خلقت تفاعلا ما بين ما هو شعري وسردي في أغلب قصائدها، فهي تكتب الشعر بطريقة القصة والقصة بأسلوب الشعر، وهو ما يبين أننا أمام كتابات للنص المثقف المليء بالإحالات والإيحاءات، وكذا بعض الأسماء والأماكن التي تحتاج من القارئ البحث عنها ومعرفة مرجعياتها وخلفياتها، مما يبرز سفينة الشعر التي تمتطيها شاعرتنا، سفينة حركة التجديد في الشعر العربي التي تستخدم الرموز والإيحاءات بتعبير مركز ومشحون بالمعاناة، والكلمة عندهم عالم منفصل، مليئة بالأحاسيس الفياضة والصادقة النابعة من دواخلهم.
يتجه الوعي في قصائد الديوان إلى تصعيد الحس بالرغبة في عالم جميل يسوده الحب والأمل مع إيقاظ جذوة الحلم عبر الألفاظ والدلالات المشعة، وهو ما نلحظه من خلال قصيدتها الأولى التي يحمل الديوان عنوانها، والتي تسعى الشاعرة من خلالها إيقاظ الإرادة والحلم بالأمل والفرح، و التي ترمز لها بـزهرة الحناء « في حارتنا / وحدها الدمى / من احتفظت بوشم زهرة الحناء / على كفها الناعم / وحدها / من استلت شعرة الفجر/ من جديلة الظلام « ص: 19 مما جعله نصا مفعما بلغة التحدي، وتجسيدا لرؤى ومعاناة وأحاسيس الشاعرة في علاقتها بما تحس به ويحس به الآخرون، وهو ما نلمسه في قصيدتي « حين أقشر جلد العالم» و «صباح آخر» إذ تسعى الشاعرة الى البحث عن الوصفة الأنجع لمعالجة ما يتخبط فيه الآخرون من هموم و مشاكل « لا تنسوا / أن الليل الذي يسيح من قبضتكم / هو طين نهارات عصية / به أخاتل الموت عند مطلع النفور/ أسوقه بدلال / إلى آخر نقطة ضئيلة / في مغبر الحب « ص: 40 « أتقفى بغير حذر / طريقا ضالا/ لأتعثر بدلال/ أرشف سهو وجودي / و أتذوق / صباحا آخر» ص:57 .إنه إيمان الشاعرة وثقتها بذاتها من خلال بلوغها لمرحلة محاورة النفس بكل صدق مما جعلها تبوح بلغتها الصافية والخالية من كل سوء فهم أو تبديل لدلالات النص، وهو ما نلامسه في قصيدتها « أنا المشاءة بين فلجة الموت»، إذ أنها تضفي على ما يحيط بها في هذا العالم الشاسع بكل شيء، كلمة الموت ببعدها الاستعاري، موت الضمير والأخلاق والقيم والمبادئ، آملة انقشاع هذا السواد الذي يخيم على العالم بما فيه ذاتها واستعادة الحب لموقعه ومكانه بيننا، حتى يستوي الكلام وتزهر الحياة من جديد « أيها الجدار/ اليوم لا تخبرني/ عن قصاصات وطن/ ضاعت أرواحها بين شقوق/ … « إلى أن تقول « تبا لك أيها العالم المريض/ تتورم أخبارك في حلق الحقيقة/ … أيها الجدار/ ضع يدك على فمي/ ليستوي الكلام/ وتزهر أقدامي على ناصية بياضه «. أما في قصيدة « للدموع نشيد» فقد جعلت من الطفل رمزا للفرح والسعادة التي تأملها في وطنها، ذاك الوطن الذي يؤلمها ما به من معاناة، كأنه ذاك المعشوق الذي تحن إليه وإلى طلعته البهية ذارفة عليه دموع الشوق «من يوصد أبوابا / يطرقها العشق/ لن تفتح غرف روحه/ إلا يد الموت/ ودبيب خلاص/ … « ص: 128، حنين، أمنيات وآهات ودموع على هذا الوطن هو سمة قصيدتها « غداة حزن»: غداة حزن/ دفنت جدتي ضفيرتها/ عند قدم بئر معمرة/ في قريتنا الأطلسية/ الآن … أريد خصلة منها/ أشيد بها جسر أمان في دمي.. « ص: 140 و يبقى الأمل في كل شيء كما تقول في « أنا دمعة الريح الأولى»: «يا رفيق الجرح/ ارفع رأسك قليلا/ تعال لنهيئ معا من عجين الطين/ سلالم هشة/ تكفينا لنصعد معا/ إلى شهقة الفناء/ لشرب نخب الوجود/ ونقطر من فم العشق/ موتا. « ص:173. لتبقى قصائد حسنة أولهاشمي قصائد تحمل رونقا تصويريا وتعبيريا متميزا وسلاسة وشفافية بليغة، عكستها عناوين الديوان التي جاءت بنبرات متوزعة بين الحزن والفرح والشكوى والحنين، معبرة عن أبعاد الشاعرة التي قضَّت مضاجعها كونها تدرك تمام الإدراك الرسالة الفكرية والأخلاقية والتوجيهية التي تحملها تجاه وطنها وتجاه أبناء هذا الوطن «.
ومن الظواهر البارزة في هذا الديوان ظاهرة التكرار بألوانها المتعددة، سواء من خلال حروف معينة كحروف العطف أو ألفاظ معينة « العالم- شوق- الدمار- الفراغات- الموت- الفرح- الريح- الأم- الطفل- السواد- دمي- فمي- المسافات .. « تكرار يعكس إلحاح الشاعرة على تأكيد ما تريد إيصاله للمتلقي، كما أنه يعكس ترابط البنية النصية وتماسكها، إلى جانب اعتمادها على المحسنات البديعية التي أيقظت قصائدها من خلال نهج أسلوب الانزياح الذي منحتها خصوصية خاصة وتوهجا ومتعة، كما أشار إلى ذلك الناقد الأمريكي وليام بلومفيلد « إن الانزياح متأصل في الكتابة والتفكير، فلولا هذه العملية لكان الأدب جامدا والفكر الإنساني متكلسا». ومن محسنات هذا الكلام التي جمعت بين التشبيه والاستعارة والدلالة و الخيال، ندرج « ثغر النهر/ جيد الربوة/ شفاه الأرض/ عيون السنابل/ عشب ضرير/عين الريح / أجنحة النسيان…». ومن الملاحظات التي يجب التركيز عليها أيضا في الديوان هو جنوح الشاعرة للقصائد التي تميل للطول، حيث كلما طالت القصيدة إلا و امتد معها فكر المتلقي وتاه أحيانا، ويختفي معها ذاك الإيحاء، وتتزاحم الدلالات والرموز، وبالتالي ينفرط عقد الصورة الشعرية، بعكس القصائد المتوسطة أو القصيرة المكثفة، وهو ما جعل بعض الشعراء يلجأون إلى نهج البناء الدائري والمقطعي والدرامي، بتقسيم القصيدة المطولة إلى مقاطع يحتوي كل مقطع على رؤية أو فكرة بشكل مختزل، لها ارتباط بالفكرة الرئيسية للقصيدة.
أخيرا لا يمكننا إلا أن نشير أن ديوان « من عين البومة … مرَّ فرح صغير « يعتبر نموذجا لما يتمنى وينتظر كل عاشق للشعر وجمال الكلمة وجزالة اللفظ وروعة الأسلوب، مما يعكس تمكن الشاعرة حسنة أولهاشمي وثقافتها الواسعة ومواكبتها لمسار الحياة الأدبية والحياة عامة، جاعلة من الشعر ملاذها الذي وجدت فيه ضالتها للتعبير عن ذاتها وآمالها و أحلامها المرتبطة بهموم الوطن ومواطنيه.