إكرام عبدي..شاعرة النوارس .. قراءة في ديوانها الأخير : «وعتمتك وسعت كل شيء»

للشاعرة إكرام عبدي في ديوانها الأخير «وعتمتك وسعت كل شيء» بطلة شعرية، أسطورية، ذات شخصية ونصية، ليلية ليليثية، أو ليليثية ليلية، بارزة ومبارزة ومتميزة، تطالعنا منذ العتبة النصية الأولى، المفضية إلى داخل البيت الشعري ومحتويات تحفه ودرره، المتلألئة في الليل النصي والنص الليلي الليليثي.
على فضاء الغلاف، تتسع العتمة الليلية، حتى كادت أن تسع كل شيء وتغطي وجهه كله، تماما كالعنوان، الضخمة فيه العتمة، اسما وظلاما، مخيما على وجهي الديوان، الذي تكاد عتمته تحجب حتى دائرة الشمس ، بحيث تبدو بحروفها نورانية بيضاء، أكبر من حجم اسم الشاعرة إكرام عبدي فوقها ومن حروف «وسعت كل شيء» تحتها، بارزة ومبارزة، وطاغية بسوادها وظلامها وليلها على دائرة الشمس وصورة المرأة الليلية الليليثية المقرفصة «في مدار الشمس رغم النفي» واضعة يديها حول رجليها ومتطلعة نحو أعاليها، كأنها تقول للمخاطب الذكوري: «وعتمتك وسعت كل شيء» ولكنها عتمة نورانية بيضاء وحمراء الليل كدائرة الشمس الملتهبة، المتطلعة نحوها بإباء تلك المرأة الليلية الليليثية الحسناء.
ويؤكد ظهر الغلاف المتشح بالسواد والمنير الحروف البيضاء، كبطلة الشاعرة الشعرية الأسطورية، الليلية المغرية والليليثية المغوية، والمضللة والهادية والبصيرة والضريرة القائلة «أمضي بعماي» والمتنفسة «حلكة الهواء» والماضية في «سمائها الليلية» نحو «بيتها القصي عن الليل»، وفي «جهاتها تضل البوصلة» كما تضل بغواياتها الذكورة والفحولة والرجولة، وهي الشاعرة والبطلة الشعرية الليليثية الساحرة القاتلة والقائلة في خاتمة المقطع المثبت في ظهر الغلاف:
أضلل الخطأ ليهتدي
وأغوي الحواس لتصيب.
وقد وسعت العتمة كل شيء في النص الذي يحمله الديوان عنوانا : «وعتمتك وسعت كل شيء» فهو – كاف الخطاب-»المتن» وما سواه « هوامشه» وهو «السكن» وما عداه «منافيه» وهو «الصدفة» وما خلاه «لآلئه» وهو «الضفة» وما تلاه «تيهه».
وما هو هذا الاسم الذي وسعت ظلمته وعتمته كل شيء؟ ليس رجما بالغيب ولا تخمينا بظاهره أو حاضره و «قد يرجم الغيب راجم» على حد قول ابن الرومي ولكنه بتعبير الديوان عينه وبعض عناوينه وبلسانه :»قل هو الليل» ص 64 و68 وهو ليل ليليث المرتبط اسمها به وتقول عنه الشاعرة إكرام عبدي على لسان بطلتها الشعرية الأسطورية: «لست ليلية بما يكفي» ولكنها تقول كذلك «الليل يدل علي» وأكثر من ذلك «أنا مكتظة بالليل» بل الليل مرشدها إليها ودليلها عليها كقولها عن ليلها :
«لا شيء يرشدني إلي
غير هذا الليل
هو الدليل وأنا السفر
وما أنا بالغافية ولا المسهدة ص70
وهو بالتالي ليل تلك المرأة الليليثية التي لم ينجل بعد ليلها الطويل، ولا تزال راحلة فيه متشحة بسواد الحداد، كأنها أرملة، قاتلة بعلها، أو قتيلة رجلها، وهي مثل «عيشة قنديشة، شيطانة الليل، بل معشوقة الشيطان، تنجب له في كل ليل مائة طفل،ومصاصة الدماء، وآكلة الأطفال، من أبناء ضرتها حواء، عوجاء الضلع وعلى عكس هذه الخنوع لرجلها الأول، ساخطة عليه ولا تعده إلا بالحديث عن «فضيلة الصمت» لأنها تعرف ولا تكشف عن نفسها ما لا يعرفه ولا يكتشفه غيرها، كقولها عن ليلها الطويل في خاتمة «قط ليلي»:
وليلٍ طويلٍ أحدثك فيه،
مسهبا عن فضائل الصمت» ص45
ولليليات الليليثيات شتى التجليات:
والليل إذا تجلى ص 54
ومن تجلياته أنه سماؤها وهواؤها :
_»الليل سمائي»
_ و « أتنفس حلكة الهواء». ص50
وهناك أوجه تشابه كثيرة بينها وبين الليل:
_ نمضي معا
بين خطوة وأخرى
يلتفت إلي
يخبرني أن بيني وبين الليل
وجهَ تشابه «ص44
ومن أوجه التشابه «الليلي» أنها كبطلتها الشعرية الأسطورية تلك المرأة الاولى، ذات الاسم السامي السومري، التي شوهت صورتها وكيل لها على مر الليالي ومدى الأيام والآلام ما لا يحصى من اللعنات. لذلك لم تلبث أن طارت إلى حيث لا يدري أحد، رغم مطاردة ملائكة الرب الثلاثة: سينوئي، وسنسنوئي، وسامينجيلوف، الذين اقتفوا أثرها دون جدوى، ونسجت حولها أساطير مرعبة وأخابير كاذبة، بينما هي رمز الأم العظمى، واهبة الحياة، وصورة الأنثى الثائرة المتمردة، من أجل تأكيد حقها الوجودي في المساواة، والمهدوية المنتظرة الواعدة العائدة، من ماضي الأيام «المشاعية» الآتية إلى عليا الحياة الدنيا، كي تملأ الأرض بالحرية الكاملة والشاملة.
ولكنها حتى هنا والآن الليلية الليليثية، والليليثية الليلية، الداخلة والخارجة والقائلة من «باب ما راودني في الليل»:
_ ما أضيق الليل لولا سعة العشق ص 27
_ أتطهر بالعتمة، أفيض بها ص28
_ أيهذا الجسد، ها أنت تعشق الليلة، ببراح السماوات السبع ص33
_لا ذاكرة لليل، إلا في حضن العاشق ص48
_ مهرة أنا، أخب في سهول الليل ص 55
_ الليل هايكو، لم يكتب ترفاً ص 56
_ نبع نابض أنت أيها الليل ص 59
_لم أبصر نرسيس ، بل ليلا برحابة الكون ص62
_بين الموسيقى والليل، صداقة بطعم التلاشي، الموسيقى آهات ليلنا ردت إلينا ص 63
_ الليل مصفاة الروح ص 65
_ لليل خطايا، وللخطيئة سحر ص 75
غير أنها لم تخرج من ضلع الرجل الأول، المحول عن اسم ألولم الذي معناه الرجل وهو أول ملك لأول مدينة أنشئت على وجه الأرض باسم أريدو، وكان له حكيم اسمه أدابا، فتم الربط بينهما وبين اسم ديموزي، بمعنى ديمو الإنسان و زي الذي يعلو ومع نينتي الإلهة السومرية، التي من اسمها تي الذي هو ضلع أو حياة، بمعنى أنها سيدة الضلع أو سيدة الحياة، وهي إلهة الطب والشفاء، وتسمى الإلهة التي تحيي أي حواء، وبالتالي اكتملت الأسطورة العبرية من خامات سومرية.
بينما خرجت البطلة الشعرية الأسطورية الليلية الليليثية للشاعرة إكرام عبدي من «ضلع» ظلام الليل الليليثي:
_ خرجتُ من ضلع ديجور،
حتى لا تغيب ملامحي ص 32
وقد ومضت ومضت «عكس الليل» :
_ أمضي عكس الليل،
أنصب له فخاخ الأرق ص47
ولم تمض إلا إليها صامدة وسط الأعاصير:
_طالما طوحتني الرياح بعيدا
وما اقتلعتني الأعاصير ص 85
ومبتهجة بانبعاثها الجديد:
_ علمتني الريح أن أترنح بفرح الانبعاث ص86
وكربة الريا ح ليليتو تطير بكم من جناح:
_ يكفي أن أمسك بريشة فرح مهملة
لأصير أجنحة ص87
وكسيدة الهواء ليليتو بدؤها منها:
_لا ماضي قبلي ولا آتي .ص 105
_ قبلي كانت الأرض بكراً
من الهواء ابتكرت بدئي ص 106
وتحلق مثلها مرفرفة شفافة و»كثيفة»:
_ لكن تحليقي لم تنهكه السموم
أمضي بكثافة الفرح في الهواء ولا أطأ الأرض ص89
وعلى الأرض تعلو وتحلو وتوغل كالذهب في الرغام:
كلما توغلت في التراب
تجوهرت أكثر ص 91
وتماما كسيدة الرياح تتلقى منها رسائل لا تنتهي وتهفو إلى «السماء الثامنة»:
راحتا يدي المشرعتان إلى السماء
أكبر من يأسي
رسائل الريح إلي لا تنتهي ص 91
وإذا كانت النظرات البطريركية قد وصمتها بروح العالم السوداء، فهي جوهر العالم والحياة والوجود:
_ في قلبي يخبئ العالم كنهه
ومن حلمتي يرضع النهر ص108
هي الأم العظمى ومن نسلها الجنس الناعم اللطيف والخشن العنيف ولكن ذراعيها مشرعتان دوما على الكون كله:
_ذراعاي فارعتان
على امتداد الكون
لا أتذكر جسدي إلا إذا شقته الزوابع ص97
بل هي المخلوقة من الأرض بل هي الأرض واهبة الحياة وجالبة الموت:
_ من نقطة فوق نون «كن»
انبجست
نطفة أودعتها السماء
في رحم الأرض
كنت بذرة ككل البدايات
أينعت في أجمة الألم. ص83
ولكن، مهما قيل عن تلك العفريتة السومرية والجنية الأثيرية الساحرة، المغرية والمغوية، فهي _ كما في مقال لي عن التحرش الجنسي، في كتاب «متى نخرج من مقدمة ابن خلدون ص 96_ المركز الثقافي للكتاب 2019_ تظل تلك المهدوية المنتظرة الواعدة العائدة من ماضي أيامها _المشاعية_ الآتية كي تملأ الأرض بالحرية الكاملة والحقوق الشاملة.
ولا تزال هذه البطلة الشعرية الأسطورية الليليثية والليلية البشرية للشاعرة إكرام عبدي خفية التجلي وجلية الخفاء تصلي صلاتها الأبدية بانتظار عليا الحياة الدنيا وتبتهل في الفيافي والمنافي وحضيض «السماء الثامنة»:
_ من الهواء ابتكرت بدئي
وكصلاة أبدية أبتهل في الفيافي
أراقب الزمن من السماء الثامنة ص 106
وعلى مذهب الشيخ الجليل ابن عربي:
وما الوجه إلا واحد غير أنه
إذا نحن عددنا المرايا تعددا!
فإن البطلة الشعرية الأسطورية الليلية الليليثية واحدة ومتعددة، وامرأة في جميع النساء، لم تخرج من «ضلع ديجور» ولم «تعاكس الليل» إلا لتعانق النور والضياء ولم تتعدد إلا لتتوحد روحا وجسدا:
جسدانا نحن على ذمة المساء
توحدنا العتمة ص71
وذلك وفق هذه الرباعية الحكيمة للشاعرة والكاتبة المفكرة إكرام عبدي:
لأن مبدأ العتمة بالعتمة
قد يردي الوجود مكفهراً
فكلما رماني الليل بالحلكة
رميته بالكثير من الضوء. ص79
وعلى حد قول الشاعرة إكرام عبدي من قصيدة «عناد» :
لأحلامي عناد الجبال
أتعدد وأصنع ضوئي. ص55
فإن شاعرة النوارس إكرام كم كانت كريمة كاسمها مع النوارس إذ أعلنت أنها لن تقايض بها وأفردت لها قصيدتها وعنوان ديوانها وخفضت لها أجنحتها لتحلق بها وتدثرها من عراء الوقت المستلقي على شط أصيلة الأصيلة.
ومن خلال عنوانها وجمال ديوانها الأخير «وعتمتك وسعت كل شيء» فإن الشاعرة إكرام عبدي على وعدها وعهدها ووفائها لقولها :
أتعدد وأصنع ضوئي ص 55
وقد صنعت إكرام عبدي وأبدعت ضوأها وخرجت من العتمة التي وسعت كل شيء إلى ضوئها الذي يسع كل شيء، ويشع في كل العيون والقلوب.

 

 

 

 

 

 


الكاتب : إدريس الملياني

  

بتاريخ : 11/07/2025