يشهد المغرب، منذ سنوات، تطورات هامة في مختلف الميادين الاقتصادية، رافقتها إصلاحات هيكلية كبيرة بفضل التوجيهات الملكية التي تهدف إلى تحقيق تنمية شاملة ومستدامة. من بين المبادرات الملكية المهمة، تندرج تلك المتعلقة بتنزيل مضامين الدولة الاجتماعية التي تهدف إلى تحسين الأوضاع المعيشية للسكان وتقليص الفوارق الاجتماعية والمجالية. ورغم الجهود المبذولة والمشاريع الكبرى المنجزة في مجالات البنية التحتية والتنمية الاقتصادية، لا يزال واقع التفاوتات المجالية ومرتكزات التنمية الجهوية يعاني من اختلالات كبيرة تعيق تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة بين جهات وأقاليم المملكة.
من هذا المنطلق، يمكن القول بوجود إشكال رئيسي يتعلق بالبون الشاسع بين ما تم إنجازه من مشاريع مهيكلة وبرامج تنموية وبين ضعف الانعكاس الاجتماعي لهذه المشاريع على مختلف الجهات. فرغم التقدم الملحوظ في تطوير البنية التحتية وتعزيز الاقتصاد، فإن تأثير هذه الجهود على التنمية البشرية يبقى محدوداً.
ومما لاشك فيه أن من بين العوامل التي ساهمت في وجود هذا الفارق، غياب رؤية لدى الحكومات المتعاقبة، منذ الحكومة التي ترأسها حزب العدالة والتنمية في نسختيها 1و2 ووصولا إلى حكومة التي يترأسها حزب التجمع الوطني للأحرار حول كيفية التنزيل الأمثل للبرامج الاجتماعية، حيث لم تتمكن من تفعيل الدولة الاجتماعية بما تعنيه من مضامين تهم الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية. في ظل هذه الحكومات، ظلت الدولة الاجتماعية شعارا أكثر من أي شيء آخر، وهو أمر ليس بالغريب إلى حد ما لأن القائمين على هذه الحكومات، رغم اختلاف مشاربهم الفكرية غلبت عليهم الاختيارات الليبرالية، وبالتالي فاستمرار، بل اتساع الفوارق الاجتماعية والمجالية وتفاقم التحديات التنموية أمر لا يدعو للاستغراب.
لفهم هذه الإشكالية في عمقها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، يجب التطرق إلى أسبابها وانعكاساتها، ومدى أهمية التوجيهات الملكية في مجال الجهوية والتنمية المجالية، بالإضافة إلى تقييم نجاح السياسات الحكومية في تنزيل الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية. سنحاول في هذا المقال الوقوف على أسباب التدهور الاجتماعي، ومنها إلى معالجة الإخفاقات الاجتماعية من خلال استعراض القوانين المرتبطة بالمنظومة الصحية الوطنية، لما يرجى منها من إخراج قطاع الصحة من الاختناقات والاضطرابات التي تعيشها الشغيلة الصحية في هذه الأيام.
وقبل الخوض في مدى نجاح الإصلاحات الأخيرة التي أتى بها القانون 06/2022 والقوانين المصاحبة له، سنحاول الوقوف في مرحلة أولى على أهمية التوجيهات الملكية التي تصب في تنزيل مضامين الدولة الاجتماعية. كما سنعمل في مرحلة ثانية، على إبراز الاختلالات المجالية وانعكاساتها على نجاح أي إصلاح اجتماعي يفتقد إلى أرضية صلبة، حيث يمكن أن تشكل الجهوية المتقدمة مدخلاً رئيسياً لإنجاح المشاريع التنموية في الأقاليم والجهات، وسنختم المقال بإبراز أوجه فشل الأغلبية الحكومية الحالية عن تنزيل المنظومة الصحية الوطنية في شقها المتعلق بالوحدات الصحية الترابية كما ينص عليه القانون 08/2022.
التوجيهات الملكية والتنمية البشرية في المغرب: بين الطموح الملكي والتحديات الحكومية ومتطلبات الدولة الاجتماعية
منذ اعتلاء الملك محمد السادس العرش، شهد المغرب سلسلة من التوجيهات الملكية التي تهدف إلى تحقيق التنمية البشرية والمجالية والحد من الفوارق الاجتماعية. ركزت هذه التوجيهات على ضرورة تحسين الأوضاع المعيشية للسكان وتقليص الفوارق بين الجهات والأقاليم، وذلك عبر مجموعة من البرامج والمبادرات الطموحة.
في عام 2005، تم إطلاق المبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي جاءت كاستجابة مباشرة لمحاربة الفقر والهشاشة وتعزيز الإدماج الاجتماعي. تهدف هذه المبادرة إلى تحسين مستوى المعيشة في المناطق الفقيرة وتوفير فرص عمل جديدة من خلال دعم المشاريع الصغيرة والمتوسطة وتعزيز البنية التحتية الأساسية في المناطق النائية. وقد انعكست هذه التوجيهات بشكل إيجابي على العديد من المجالات، حيث تم تحسين خدمات الصحة والتعليم والإسكان، مما ساهم في تحسين جودة الحياة لعدد كبير من المواطنين.
رغم الأهمية البالغة للتوجيهات الملكية، فإن تنزيلها على أرض الواقع واجه تحديات عديدة، خاصة في ظل الحكومات ذات التوجهات المغيبة لأي نفس اجتماعي . غالبًا ما تركزت الجهود الحكومية على تنفيذ المشاريع الكبرى والبنية التحتية دون إيلاء الاهتمام الكافي للبرامج الاجتماعية التي تستهدف الفئات الهشة والمناطق المهمشة. سعت الحكومات إلى تحقيق نمو اقتصادي من خلال الاستثمار في المشاريع الكبرى مثل الطرق السريعة والموانئ والمناطق الصناعية. ورغم أهمية هذه المشاريع، إلا أن تأثيرها على تحسين الأوضاع المعيشية للمواطنين في المناطق النائية كان محدودًا.
ورغم التوجيهات الملكية بضرورة تحسين الحماية الاجتماعية والتغطية الصحية، فإن الحكومات ذات الاختيار الليبرالي الموغل في الجشع فشلت في تحقيق تقدم ملموس في هذا المجال. الفجوة بين الخطابات الملكية الطموحة وما يتم تنفيذه على أرض الواقع كانت واضحة، حيث استمرت الفوارق الاجتماعية والمجالية دون حل جذري. افتقدت البرامج التنموية غالبًا إلى التخطيط الشامل والتنسيق الفعال بين مختلف القطاعات الحكومية. كان هناك نقص في الاستثمارات الموجهة إلى القطاعات الاجتماعية مثل الصحة والتعليم والإسكان الاجتماعي، مما جعل هذه البرامج غير قادرة على تحقيق الأهداف المرجوة منها.
وفي نظر المتتبعين للشأن التنموي بالمغرب، تعتبر الجهوية المتقدمة مدخلاً رئيسياً لتحقيق التنمية المتوازنة والشاملة. من خلال نقل السلطات والموارد إلى الجهات، يمكن تحسين استجابة السياسات التنموية لاحتياجات السكان المحليين وتعزيز الفعالية والكفاءة في تنفيذ المشاريع التنموية. وبدون أدنى شك، تعد الجهوية المتقدمة ركيزة أساسية لإنجاح التوجيهات الملكية وتحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية للمملكة.
ساهمت التوجيهات الملكية في تعزيز اللامركزية ومنح الجهات صلاحيات أكبر، مما مكنها من إدارة شؤونها بفعالية وتحقيق التنمية المحلية. ركزت التوجيهات الملكية على ضرورة تحقيق تنمية متوازنة بين الجهات من خلال تحسين توزيع الموارد وتعزيز الاستثمار في المناطق النائية. جاءت التوجيهات الملكية لتؤكد على أهمية تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال تحسين الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة والبنية التحتية في جميع الجهات. دفعت التوجيهات الملكية إلى تشجيع الاستثمار المحلي من خلال تقديم الحوافز والدعم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، مما ساهم في خلق فرص عمل وتعزيز الاقتصاد المحلي.
رغم التوجيهات الملكية الواضحة والطموحة لتحقيق التنمية البشرية والمجالية المنشودة، إلا أن الحكومات المتعاقبة لم تتمكن من ترجمة هذه التوجيهات إلى واقع ملموس بشكل كامل ومستدام. وتظل الفوارق الاجتماعية والمجالية تحدياً كبيراً أمام تحقيق التنمية الشاملة، مما يستدعي ضرورة تبني سياسات أكثر شمولية وفعالية في المستقبل.
الأسباب التي قلصت من تدخل الدولة في خلق التوازنات الترابية والاجتماعية في المغرب
المشكلة الرئيسية تكمن في سياسة التخطيط المتبعة التي تعتمد على التخطيط القطاعي بدلاً من التخطيط المجالي المدمج للقطاعات الحكومية والخاصة في المجال الترابي. هذه المقاربة تفتقر إلى التنسيق المسبق اللازم للمشاريع التي سترى النور في تلك المجالات، مما يؤدي إلى عدم تحقيق التوازنات المطلوبة.
ركزت الحكومات المتعاقبة على تحقيق نمو اقتصادي شامل من خلال تنفيذ مشاريع كبرى مثل البنية التحتية والمناطق الصناعية والموانئ. رغم أهمية هذه المشاريع في تعزيز الاقتصاد الوطني وزيادة فرص العمل في المدن الكبرى، إلا أنها غالبًا ما كانت موجهة نحو المناطق الحضرية الكبرى. هذا التوجه أدى إلى تهميش المناطق القروية والنائية التي تعاني من نقص الاستثمارات والبنية التحتية الأساسية، مما جعل الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم في هذه المناطق محدوداً، وعزز الفوارق المجالية وعمق التهميش الاقتصادي والاجتماعي.
افتقرت السياسات الحكومية إلى تخطيط شامل وتنسيق فعال بين مختلف القطاعات الحكومية، مما أدى إلى تنفيذ مشاريع تنموية غير متوازنة، حيث أن الاستثمارات غالبًا ما تكون غير متكاملة وتفتقر إلى رؤية استراتيجية لتحقيق التنمية المتوازنة. على سبيل المثال، قد يتم بناء مدرسة جديدة دون توفير الطرق اللازمة للوصول إليها أو دون تحسين الخدمات الصحية في المنطقة نفسها، مما يؤدي إلى تشتت الجهود وضياع الفرص لتحقيق تنمية متكاملة وشاملة.
غالبًا ما كانت السياسات الحكومية موجهة لتحقيق أهداف قصيرة الأمد للنمو الاقتصادي، مثل زيادة الناتج المحلي الإجمالي أو جذب الاستثمارات الأجنبية، دون مراعاة كافية للتوزيع العادل للموارد والخدمات بين المناطق. هذا التوجه أدى إلى تعميق الفوارق المجالية وزيادة التهميش في المناطق الأقل حظًا، حيث تبقى العديد من الجهات محرومة من الاستثمارات الضرورية لتحسين البنية التحتية وتوفير الخدمات الأساسية، مما يعرقل تحقيق العدالة الاجتماعية والتنمية المتوازنة.
تعاني العديد من الجهات من نقص حاد في الموارد المالية والبشرية الضرورية لتنفيذ المشاريع التنموية، مما يؤثر بشكل مباشر على قدرة الجهات على تحسين الخدمات الأساسية مثل الصحة والتعليم والبنية التحتية. في المناطق النائية، قد يكون هناك نقص في الأطباء والمعلمين والمهندسين، مما يجعل من الصعب تقديم خدمات ذات جودة عالية، مما يحد من قدرة الجهات على تحقيق تنمية مستدامة ويزيد من الفوارق المجالية.
ضعف القدرات الإدارية والتخطيطية للمجالس المحلية والجهوية يؤدي في الكثير من الأحيان إلى عدم فعالية التدخلات التنموية. في كثير من الأحيان، تفتقر المجالس المحلية إلى الموارد والخبرات اللازمة لتنفيذ المشاريع التنموية بشكل فعال، مما يؤدي إلى تأخير أو فشل العديد من المشاريع. ينضاف إلى ذلك ضعف المشاركة المجتمعية وعدم وجود آليات فعالة للشفافية والمساءلة، مما يساهم في تقليص تأثير السياسات التنموية على المستوى المحلي.
من جهة أخرى، تواجه بعض المناطق تحديات بيئية وجغرافية تعوق تطوير البنية التحتية وتقديم الخدمات، فالتضاريس الوعرة والمناخ القاسي يمكن أن يزيدا من تكلفة المشاريع التنموية ويجعلانها أكثر صعوبة في التنفيذ. على سبيل المثال، قد يكون بناء الطرق أو توفير المياه الصالحة للشرب في المناطق الجبلية أكثر تحدياً مقارنة بالمناطق الموجودة بالسهول، وهو الأمر الذي يزيد من تعقيد الصعوبات التي تعترض تحقيق التنمية المتوازنة.
علاوة على ذلك، يمكن القول إن اعتماد العديد من الجهات بشكل كبير على الدعم المركزي لتنفيذ مشاريعها التنموية، يعوق القدرة على التخطيط المستقل وتنفيذ المشاريع المحلية بفعالية، حيث تكون الجهات غالبًا محكومة بسياسات وإجراءات الحكومة المركزية. في بعض الأحيان، قد تكون الأولويات المحلية مختلفة عن الأولويات الوطنية، مما يؤدي إلى تنفيذ مشاريع قد لا تلبي الاحتياجات الفعلية للسكان المحليين.
وتساهم الهجرة من المناطق القروية إلى المدن الكبرى بحثًا عن فرص عمل أفضل في تفاقم التفاوتات المجالية. هذه الهجرة تؤدي إلى تزايد الضغط على البنية التحتية والخدمات في المدن، في حين تظل المناطق القروية تعاني من نقص في الكفاءات البشرية والخدمات الأساسية. هذا النزوح السكاني يعمق الفوارق المجالية ويزيد من التحديات الاقتصادية والاجتماعية في المناطق القروية.
أهمية اللامركزية والجهوية المتقدمة لإنجاح الوحدات الصحية الترابية
لفهم الحاجة إلى اللامركزية والجهوية المتقدمة لإنجاح الوحدات الصحية الترابية، التي تراهن عليها الدولة للخروج بقطاع الصحة من النفق، سنسلط الضوء على ورش التغطية الصحية والوحدات الصحية الترابية. تعتمد هذه الأوراش أساساً على نجاح اللامركزية الإدارية والجهوية، وتحويل السلطات والاختصاصات من وزارة الصحة والحماية الاجتماعية إلى مديري الوحدات الصحية الترابية في كل جهات المملكة. بدون هذه الخطوات، ستظل الجهود المبذولة لتحقيق التنمية المستدامة في القطاع الصحي غير كافية، وستبقى الفوارق المجالية والاجتماعية قائمة، مما يشكل أكبر حاجز في وجه الإصلاحات المنتظرة.
إن إنجاح ورش التغطية الصحية والوحدات الصحية الترابية يعتمد بشكل كبير على قدرة هذه الوحدات على إدارة وتنفيذ المشاريع الصحية بفعالية، وضمان توفير الخدمات الصحية والطبية والتمريضية لجميع المواطنين في مختلف المناطق. لتفعيل هذا الأمر، يجب تبني سياسات تخطيط مجالي مندمج تأخذ في الاعتبار التنسيق المسبق للمشاريع بين القطاعات الحكومية والخاصة، مع تحويل الاعتمادات المالية الضرورية من المركز إلى المحيط الجهوي.
يجب أن يركز التخطيط على تحقيق توزيع عادل للموارد وتحسين الخدمات الأساسية في جميع المناطق، مع تعزيز القدرات الإدارية والمالية للوحدات الصحية الترابية لتحقيق تنمية متوازنة ومستدامة. من هذا المنطلق، تعتبر الجهوية المتقدمة أداة أساسية لإنجاح التوجيهات الملكية وتحقيق الأهداف الاجتماعية والاقتصادية للمملكة.
إذا كنا نريد بالفعل تحقيق الأهداف المتوخاة من الإصلاح الترابي كأولوية وطنية ومسؤولية مشتركة، فإننا نحتاج إلى:
تيسير الولوج إلى الخدمات الصحية والرفع من جودتها.
إعادة تنظيم مسار العلاجات الوقائية والاستشفائية.
تعزيز التأطير الصحي وتثمين الموارد البشرية العاملة في قطاع الصحة.
تشجيع البحث العلمي والابتكار في الميدان الصحي.
إعادة تنظيم مسار العلاجات ورقمنة المنظومة الصحية وطنياً وجهوياً.
غياب الحوار وتصعيد العنف: الحكومة تمرر القانون 08/2022 في وجه احتجاجات قطاع الصحة
في خطوة تعتبر مدروسة ومثيرة للجدل، اجتمع مجلس الحكومة للمصادقة على مراسيم تطبيق القانون 08/2022 المتعلق بالمجموعات الصحية الترابية. جاء هذا القرار في توقيت حساس، تزامناً مع الوقفة الاحتجاجية التي نظمتها الشغيلة الصحية أمام البرلمان. لم تكتف الحكومة بتمرير المرسوم في هذه الظروف، بل لجأت إلى استخدام العنف لتفريق المتظاهرين، حيث استخدمت خراطيم المياه واعتقلت العديد من المحتجين.
أثار هذا التصرف استياءً واسعاً، خاصة وأنه يتزامن مع احتفال المغرب بمرور 25 سنة على حكم الملك محمد السادس نصره الله، وهو الذي بذل كل الجهود لإرساء دولة الحق والقانون وحل النزاعات بالحوار والابتعاد عن العنف. تجاهل الحكومة لهذه القيم واللجوء إلى القوة في مواجهة مطالب الشغيلة الصحية يعد خطوة خطيرة تهدد استقرار المجتمع وتناقض المبادئ التي يسعى الملك إلى ترسيخها في المملكة.
بدل إعمال العنف في مواجهة احتجاجات العاملين في قطاع الصحة، كان الأجدر بالحكومة أن ترفع من الميزانيات المخصصة لقطاع الصحة، وأن تبحث عن شراكات استراتيجية لتمويل البرامج الصحية. إضافة إلى ذلك، يجب عليها تعميم الاستفادة من التغطية الصحية لتشمل أكثر من 22 مليون شخص، خاصة وأنه في الوقت الحالي يتحمل المواطنون ما يزيد عن 50% من مصاريف العلاج من أموالهم الخاصة.
أما بمثل التصرفات الصادرة عن الحكومة حيال مطالب شغيلة قطاع الصحة، فيبدو وكأنها لا تعترف بأهميته وبمكانته ضمن القطاعات الحيوية، ولا تدرك ضرورة القيام بإصلاح جذري للنظام الصحي في جو من التوافق الناتج عن الحوار. وكل ما يمكن التأكيد عليه هو تنصل الوزارة الوصية على القطاع الصحي، ومعها الحكومة، من تحمل مسؤولياتها كاملة لإخراج القطاع من الشلل.
من حقنا أن نتساءل أمام هذا الوضع، كيف يمكن أن يؤثر تنصل الدولة من مسؤولياتها المباشرة وتحميل عبء الإصلاح على القائمين على تدبير الوحدات الصحية الترابية على نجاح إصلاح النظام الصحي في المغرب؟ وهل ستتمكن التجربة الجديدة لإنشاء الوحدات الصحية الترابية من تحسين الوضع الصحي في المغرب وتجاوز التحديات التي واجهتها المحاولات السابقة؟
للإجابة على هذين السؤالين، يجب استحضار مجموعة من المتطلبات وفتح حوار بشأنها مع العاملين في قطاع الصحة. من بين هذه المتطلبات:
زيادة الميزانيات المخصصة لقطاع الصحة والتي تعد ضرورة لتلبية احتياجات القطاع بشكل فعال. حاليًا، تبلغ ميزانية وزارة الصحة حوالي 16 مليار درهم، وهو ما يمثل حوالي 6% من إجمالي الميزانية العامة، وهي نسبة غير كافية مقارنة بالمعايير الدولية التي توصي بتخصيص 10% من الناتج المحلي الإجمالي للقطاع الصحي. زيادة الميزانية ستتيح تحسين البنية التحتية الصحية، شراء الأجهزة الطبية الحديثة، وتوفير الأدوية اللازمة، مما يسهم في تقديم خدمات صحية عالية الجودة للمواطنين.
في سنة 2024، بلغت ميزانية وزارة الصحة والحماية 30.7 مليار درهم، بزيادة قدرها 9.1% عن العام السابق. ورغم هذه الزيادة، فإن نمو ميزانية قطاع الصحة يظل محدوداً نسبياً ولا يتماشى مع الأهمية الاستراتيجية للقطاع والحاجة الملحة لمواجهة التحديات الصحية الكبرى. الهدف من هذه الزيادة هو تعزيز برامج المنظومة الصحية الوطنية، إلا أنه لا تزال هناك حاجة ملحة لمزيد من الاستثمارات لضمان تحسين صحة ورفاهية السكان بشكل فعال.
توفير التمويل اللازم لتنفيذ الإصلاحات يمثل تحديًا كبيرًا، خصوصًا في ظل الحاجة المتزايدة إلى ميزانيات أكبر لتحسين الرواتب والأجور، وتطوير البنية التحتية، وتوفير المعدات الطبية وبرامج التدريب للأطباء والممرضين والتقنيين والإداريين. ويتطلب هذا الأمر التزاماً حكومياً مستمراً وربما دعماً من شركاء التنمية لمواكبة النمو المطلوب في هذا القطاع الحيوي الذي يحتاج لدعم من قطاعات التشغيل والفلاحة والسكن …
(*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات للحزب
النص الكامل على موقع
www.alittihad.info
ووفقًا للإحصائيات الرسمية، يعاني النظام الصحي من عدة مشاكل هيكلية تؤثر على جودة الخدمات الصحية للمواطنين. من بين هذه المشاكل، النقص الكبير في الموارد البشرية المؤهلة، حيث لا يزال هناك حوالي 7 أطباء لكل 10,000 نسمة، بينما توصي منظمة الصحة العالمية بوجود 23 طبيبًا لكل 10,000 نسمة. بالإضافة إلى ذلك، تعاني البنية التحتية الصحية من تقادم وعدم توفر المعدات الطبية الحديثة بشكل كافٍ في العديد من المناطق، خصوصاً النائية منها. يبلغ عدد الأسرّة في المستشفيات حوالي 10 أسرّة لكل 10,000 نسمة، مما يعكس ضعف القدرة الاستيعابية للمستشفيات. بالنسبة للتغطية من حيث الممرضين وتقنيي الصحة، فهي تتراوح حول 0.7 لكل ألف نسمة، وممرض واحد لكل 13 سرير استشفائي.
ومما يزيد من تفاقم هذه المشاكل، غلاء الأدوية والمستلزمات الطبية وضعف الوصول إلى العلاج، بالإضافة إلى ضعف التحكم في دائرة التسويق نتيجة خوصصة مجال صناعة وتوزيع الأدوية، مما يحول دون حصول العديد من المواطنين على الأدوية الحيوية للعلاج.
البحث عن شراكات مع جهات محلية ودولية لتمويل البرامج الصحية. يمكن للشراكات مع المنظمات الدولية مثل منظمة الصحة العالمية والبنك الدولي والأبناك وشركات التأمين توفير الدعم المالي والتقني اللازم لتطوير القطاع الصحي.
تعميم التغطية الصحية : ضمان وصول التغطية الصحية لأكثر من 22 مليون شخص. حاليًا، تغطي التغطية الصحية حوالي 60% من السكان، لكن يجب أن تصل هذه النسبة إلى 100% لضمان حصول الجميع على الرعاية الصحية اللازمة.
تحسين ظروف العمل وتعزيز التأطير الصحي وتثمين الموارد البشرية في قطاع الصحة أمر ضروري لتلبية الطلب المتزايد على الخدمات الصحية في المغرب. وفقًا لإحصائيات وزارة الصحة، يوجد حوالي 40,000 ممرض وطبيب، مما يستدعي زيادة هذا العدد بشكل كبير.
تعاني الوزارة من مشكلات في التواصل والتفاوض مع النقابات المهنية، حيث يبدو أن هناك تنصلًا من بعض الاتفاقات السابقة، مما يؤدي إلى تآكل الثقة ويزيد من صعوبة تنفيذ الإصلاحات بشكل فعال، ولنا مثال حي في الطريقة التي تعاملت بها الحكومة مع الوقفة الاحتجاجية لمهني الصحة أمام البرلمان.
الجميع يدرك أن النصوص والتشريعات وحدها لا تكفي لضمان نجاح الإصلاحات؛ يجب تحفيز العاملين في القطاع الصحي بشكل كافٍ من خلال تحسين ظروف عملهم وتوفير الدعم والتقدير اللازمين لهم، حتى يتمكنوا من تقديم خدمات صحية عالية الجودة تتماشى مع الطموحات الوطنية.
تشجيع البحث والابتكار دعم البحث العلمي والابتكار في الميدان الصحي. يجب تخصيص جزء من الميزانية لدعم الأبحاث الطبية والتكنولوجية لتحسين جودة الرعاية الصحية وتطوير علاجات جديدة.
حل النزاعات مع طلبة كلية الطب: السهر على عدم ضياع السنة الدراسية والاعتراف بأن أساس المشكلة هو غياب الحوار المسؤول مع الطلبة واستحضار المصالح العليا للوطن. منظومة الصحة في حاجة إلى أطباء لتغطية الخصاص المهول في الأقاليم والجهات، حيث تقدر الحاجة بحوالي 32,000 طبيب إضافي لتلبية المعايير الدولية.
الوظيفة الصحية المتوافق حولها تضمن الحقوق وتعزز القدرات المهنية وتحفز العاملين في قطاع الصحة
وسعيا منا لفهم الدور الأساسي للوظيفة الصحية في المغرب، وللأسباب التي جعلت هذا القطاع يعيش على توتر غير مسبوق، يتجلى من خلال الوقفات الاحتجاجية والإضرابات المتكررة التي تشهدها المرافق الصحية، ومن خلال منسوب الإحباط الذي يعاني منه العاملون في هذا المجال، سنحاول رصد انتظاراتهم التي لم يتم الالتفات إليها في العرض الحكومي.
المنظومة الصحية، التي كان من المفترض أن تعمل على تحسين الرعاية الصحية وتوفيرها بشكل متساوٍ لجميع المواطنين، تواجه انتقادات بسبب عدم تلبيتها للتوقعات المرجوة. يشعر العاملون في القطاع الصحي بأن الإصلاحات المطروحة لم تعالج القضايا الأساسية مثل نقص التمويل، ضعف البنية التحتية، التوزيع غير المتكافئ للموارد، وضعف الدعم للمهنيين الصحيين. ويؤدي هذا الوضع إلى تدهور جودة الخدمات المقدمة ويعرقل محاولات تحقيق تحسين ملموس في النظام الصحي.
الإضرابات والاحتجاجات التي ينظمها العاملون في القطاع الصحي تعبير عن عدم الرضا عن كيفية تنفيذ الإصلاحات وطلب لمزيد من التغييرات الجذرية لتحسين بيئة العمل وتقديم رعاية صحية عالية الجودة للمواطنين. كما هي تعبير عن رفض النقابات المهنية لصمت رئيس الحكومة وتجاهله لمطالب الشغيلة الصحية، واستنكار لعدم تقديره لمخرجات الحوار الاجتماعي القطاعي واتفاقاته الموقعة مع النقابات في 26 يناير 2024.
والجدير بالذكر أن العديد من الالتزامات لا تتطلب ميزانية إضافية من الخزينة العامة، ومع ذلك، تنصلت الحكومة من تنفيذها على أرض الواقع. تشمل هذه الالتزامات، وفقاً لمحضر اجتماع بين وزارة الصحة والحماية الاجتماعية والنقابات المهنية، ما يلي:
الحفاظ على جميع الحقوق والمكتسبات لمهنيي الصحة في الوظيفة العمومية مع إضافة مكتسبات جديدة في إطار الوظيفة الصحية، وتنزيلها بمقاربة تشاركية بعد التوافق مع النقابات.
تخويل القانون المتعلق بالوظيفة الصحية الحفاظ على صفة الموظف لمهنيي الصحة مع منحهم كافة الضمانات والحقوق الأساسية التي يكفلها الدستور والنصوص التشريعية.
أداء أجور مهنيي الصحة من الميزانية العامة للدولة طبقاً للنصوص التشريعية، مع ضمان مناصب مالية قارة.
الحفاظ على الوضعيات الإدارية الحالية وفق النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية، وضمان استمرارية تدبير المسار المهني.
الحفاظ على النظام التأديبي والضمانات المكفولة في النظام الأساسي العام للوظيفة العمومية.
الاستفادة من جميع الرخص الإدارية، بما في ذلك الرخص لأسباب صحية، رخصة الولادة، الأبوة، والرخص الاستثنائية.
إعداد مشروع مرسوم لانتقالات مهنيي الصحة وفق مقاربة تشاركية، مع ضمان منصب تعيين قار وتحفيزات تنفيذ البرنامج الطبي الجهوي.
الحفاظ على التدابير المتعلقة بالانقطاع النهائي عن العمل، مثل الاستقالة، الإعفاء، العزل، والإحالة على التقاعد.
اعتماد المباراة كآلية أساسية لتوظيف مهنيي الصحة.
منح موظفي الإدارة المركزية نفس الحقوق والمكتسبات الممنوحة للعاملين بالمجموعات الصحية الترابية والهيئات ذات الصلة.
تخويل تعويض خاص عن المهام المنجزة من قبل طلبة المعاهد العليا لمهن التمريض وتقنيات الصحة.
إخراج الهيئة الوطنية للممرضين وتقنيي الصحة في إطار إعادة هيكلة المنظومة الصحية الوطنية.
إخراج الدليل المرجعي للوظائف والكفاءات ومصنف الأعمال قبل متم سنة 2024.
وفي بلاغ صادر عن التنسيق النقابي لمهني الصحة يتضح منه أن مهنيي الصحة يواصلون إضرابهم المفتوح لمدة 15 يومًا القادمة، مع مقاطعة البرامج الصحية، الفحوصات المختصة، العمليات الجراحية غير المستعجلة، وتحصيل المداخيل، مما سيؤدى إلى تعطيل الخدمات الصحية وإلغاء المواعيد.
الحكومة فشلت في إقناع النقابات بإيقاف البرنامج النضالي رغم إعلان وزير الصحة عن موافقة الحكومة على مضامين الاتفاق، والنقابات أصرت على تطبيق جميع بنوده ومتابعة المحاضر الموقعة، وطلبت رد الحكومة على النقاط العالقة، وقررت مواصلة الإضراب ومقاطعة الخدمات الصحية حتى تنفيذ الاتفاق بشروط تضمن حقوقهم.
هذه الالتزامات التي وافقت عليها الحكومة تهدف إلى تحسين بيئة العمل وضمان توفير رعاية صحية متكاملة وعادلة لجميع المواطنين التي لن تتحقق إلا بالرفع من قيمة التمويل وتخصيص الميزانيات اللازمة لتوسيع نطاق التغطية الصحية، وتعزيز فعالية النظام الصحي وضمان استفادة جميع المواطنين من الرعاية الصحية التي ستشرف عليها مستقبلا الهيئة العليا للتقنين المندمج للصحة.
مجموع هذه المطالب يجب أن يلتفت إليها أولا اعتبارا لمحورية الدور الذي يقوم به العاملون في قطاع الصحة، وثانيا لأنه توجد إرادة ملكية في وضع أسس دولة اجتماعية تتحقق فيها العدالة الاجتماعية، وتتحسن فيها الأوضاع المعيشية للمواطنين، حيث يكفي التذكير بأنه منذ تولي جلالة الملك محمد السادس تدبير شؤون الدولة، منذ 25 سنة، ظل يعطي توجيهات السامية بشكل متواصل من أجل التصدي للهشاشة بجميع أشكالها. وفي هذا السياق، يبرز الدور الحاسم للحوار البناء والتواصل الفعال بين الحكومة والنقابات الصحية كآلية ضرورية للقضاء على التوترات والاحتقان الحاصل في قطاع الصحة.
تعتبر الوظيفة الصحية، التي يجري العمل على إخراجها بالتشاور والحوار البناء مع النقابات المهنية الصحية، خطوة أساسية في تحقيق طموحات المواطنين، فهم يطالبون بتحسين وضعهم الصحي، وتوسيع التغطية الصحية، وتعزيز التمويل لقطاع الصحة. هذه المطالب تتماشى مع التوجيهات الملكية الهادفة إلى تحقيق تنمية شاملة ومتوازنة.
ومع تطور النظام السياسي والاجتماعي نحو مزيد من الدمقرطة والانفتاح، من الضروري أن تستجيب الحكومة لهذه الطموحات بإجراءات ملموسة، وتجنب الحسابات الضيقة التي لا تخدم البلاد. وهذا الأمر يتطلب التزامًا حكوميًا حقيقيًا، وإرادة سياسية قوية للعمل على تحسين جودة الخدمات الصحية، وضمان استقرار النظام الصحي، مما يعزز من ثقة المواطنين في مؤسساتهم، ويحقق الأهداف التنموية للمملكة.
(*)عضو اللجنة الوطنية للتحكيم والأخلاقيات للحزب