ضمن أُفق انشغالات الإبداع والبحث عن التعويض، تستوطن مساحات واسعة من رصيد الحزن والفقد والأسى. تعويض ماذا؟ وبماذا؟ التعويض كما تصوغه الأنا الشعرية للشاعرة المراكشية رشيدة الوجداني يُدلِّلُ معنى الاستبدال. استبدال معنى بآخر، وجود بآخر، رؤية بأخرى، وبالأحرى نسق بآخر…في تجليات كُليَّة تُجدد البحث عن سؤال المعنى المتضمن في النظام العام للأشياء، الرمزي منه والمادي…إلى المدى الذي يحكم على الحرف والتشكيل بالتلازم الوجودي، ويَضعُ الأُفق مُتدفِّقًا بسيولة شاعرية جديدة تمدح المعنى وتعيب تشظيه وانشطاره…
بهذه الخلفية تنهجس الكتابة الشعرية عند الشاعرة رشيدة الوجداني…كتابةٌ تأتي مُضمَّخة بِحُرقة الإبداع في مواجهة أجندة الصمت، ومُمارسةً لفعل الفضح والكشف. طيب. ما جدوى أن نكتب في عالمٍ مُنتشٍ بتفاهته حدَّ الثمالة وغير مُنتبه إلى رمزياته؟ هل نكتب لنتعرى أمام الجميع؟ أم لنتخفى أمام الذات المعاتبة والمُعذبة دوماً؟ هل نكتب لنتطهر من الجروح أم لنتقنع أمام الذات والآخرين؟
لِسؤال الكتابة حضور قوي في مصفوفات قصائد الشاعرة رشيدة الوجداني. يَظهر كثيرا، ويختفي قليلا، لكنه حينما يعود يأتي بسيولة قويًّة ليذكرنا أن الكتابة لا تعدو أن تكون إلا تمريناً للعبور من ضِفَّة الحُزن نحو ضِفَّة الأمل…وأننا ماضون جميعاً في رحلة بحث دائمة ومُتعبة عن الروح التي انكسرت وهي تَجدُّ المسعى نحو أناها المفقود وسط الزحام وفي ذاكرة العبور…هنا، تتوسل الشاعرة بتجربة العبور من خلال البوح؛ العبور من إحساس لآخر، ومن حُزن لفرح، ومن فرح لحزن في دورة تتناوب بانتظام قاتل…فما العُمر إلا يومٌ، أنت فيه تكون! (ص 19). وما الحياة فيه إلا وجعٌ مستمر…حيث الرحيل صعبٌ وقاسٍ…لأن الرحيل بالنهاية يوجع الأحياء لا الأموات…
يُستعمل البوح من أجل التخفف من ثِقل الفراق…ومن أجل الضيافة والسكن في عالمٍ سوداوي لكنه مُنسابٌ بتدفقات المعنى وفائض المعنى ليُقدم نفسه على أنه سريع الحركة، لا ينتظر أحداً ولا يُمهل أحداً…وفي سُرعته يَطلب من الناس فهم نواميسه والخضوع لقوانين تطوره…العمر حزنٌ طويل، والحُزن عمرٌ قصير…حينها، تتشفع الذات دوماً بسلطة الاحتماء؛ الاحتماء بالماضي، لا كماضٍ معاش، بل كماضٍ يقع عليه الحنين بعد أن راقبت الشاعرة مُستقبلاً مجهولا بمتعدد كما في عالم الرياضيات…وفي حِكمة الأُفق ينتصر الأنا الشعري إلى تمجيد الصَّمت. فمتى يصير الصمت حكمة والثرثرة ضجيجاً؟
بين فجوة الغياب والحضور، الاختفاء والتجلي تراود الشاعرة ثنائيات، إبدالات، ومتواليات…تفيد عُمق التمزق الوجداني. لكن، كيف ينفلتُ البوح من عِقال الذات ليعانق الإحساس بفداحة الفَقد؟
واضح، أن هناك استثماراً مُربحاً في أسهم البوح قصد تحقيق رغبة التحلل من مرايا الذاكرة وعِناد النسيان…فصاحبة الخمار الأبيض، وهي تقرأ دفتر الأيام تسكنها روح الاشتياق، وتتشوف نحو وصل الزمن، بماضيه وحاضره، بقِصره وبُعده…يتعلق الأمر، بتمجيد النسيان ولعبة التخفي في الماضي وذاكرة الأمكنة وشواهد العبور الرمزية التي تصدح بها كل الفضاءات الرمزية…وعبر التمجيد يَتمُّ الاحتفاء بالحكمة لرسم الأمل من قسوة الألم. فبين الحزن والفرح هناك حِكمة تنتظر الالتقاط…
نعيُ الراحلين…الظلام، الصمت، الحداد، النزيف…روزنامة من كيمياء المشاعر والأحاسيس السوداء… بيد أن هناك حياة في نهاية النفق، تستمر باستمرار الانسان، لكن، برؤية مختلفة جِدًّا، وبِنضج أكبر…وتستمر الحياة في الغياب (ص 29). بموت الراحل، تنشط الذاكرة وتُستعاد الذكريات برضاءٍ تام على قضاء الله وقدره، وبروح مُستكينة، مُطمئنة غير معارضة ولا مجادلة عل الفقد والفقيد…
أيدري الأحياء معنى الرحيل؟
لكن بعد الريح
هناك رياح
هناك نسمات
وهناك مطر
ينثر على الأرض
لتنبت حبات زرع
تعيد إلى الحياة وضاءتها…
الجُرح الغائر لا يُلطِّفه السلوان، والقلب بفطرته لا يقوى على الاستقواء أمام الحزن العنيد…الجرح غائرٌ وعميق، والانسان لا يملك إلا أن يُناجي نفسه لطلب مُهلة، أو تعطيل زمن؛ مُهلة لترتيب أو توضيب المشهد وتدريب العقل والقلب عل الصبر والتذكر…ففي طلب المُهلة تفرغ إلى الحب، إلى الاحتضان، إلى التقاط لحظات الدفء المفقود في تفاصيل الحياة الخانقة…لأن دموع اليُتم تُمطر وجعاً طول العمر (ص 37)، وتستوجب تعلم الصبر على البُعد والفراق، ويزيدها مجهول يتبدى دَوماً في هيئة الغريب والمُلغز…
أما علمت أنك الشفاء
أنك الترياق
أنك ريحان السنين
المعتقة بلهيب
الشوق والحنين (ص 46).
الموت تجربة أنطولوجية لا تُحكى في سَمرٍ، أو تُنشد في سَفرٍ…بل تجربة تعاش بتفاصيلها الخاصة. فبعد أن غادر الجميع الديار…لا يعود للحياة طعم ولا رائحة ولا لون ولا معنى ولا ولا…لكن، بعد الموت والحزن، يأتي الصباح بنسماته ليلطف من عِناد النسيان “كلاَّ لن أنسى” (ص 54)…لن أنسى أحلاماً مُكبَّلة بحبل الرجاء… فكيف يَتعوَّد الإنسان على الغياب؟
بعد الفراق، تعود الذات إلى نسج أسئلتها الوجودية المُلفَّحة بالحيرة والغموض، وتعود معها الأطروحات الكبرى والسرديات والجدالات والسجالات…تستمر الحياة بمنظور مُختلف ومُغاير، وبهدنة سلام، لأن “على الأرض ما يستحق الحياة” كما قال محمود درويش حيناً، لكن، يجب علينا أن نبحث عما يجب أن نحيا من أجله…أَوَ ليست معارك الانسان في الحياة تُدار بوكالة عنه حتى في تشكيل المعنى؟
هي دعوةٌ إلى المصافحة والعناق، إلى الحب والأمل…قد نفقد الشغف مع الأحياء، ونتحسر عليهم بعد الفراق. حقًّا، مُؤلم ورهيب جدًّا لهيب الفراق (ص 68). ما إن تُرسم فجوة للأمل والفرح حتى تعود الذاكرة إلى لحظة الفقد مثل لحظة مُؤسسة للإشتغال…
لا مكان لي
فالمكان أنت وأنا
وما زلت أقيم
بمتاهات العودة واللقاء
بلا زمان، ولا مكان (ص 69).
بالنهاية، هي صَرخة مُنبعثة من قسوة الفَقد، ومُستوجبةٌ لتبصر المعنى في سديم حافلٍ بالغموض، وإبصارٌ لذُرَّة النور المتجدد من وسط الظلام…إعلاناً باستمرارية الحياة من قلب الانكسار، ومن هاجس القلق ومتاعب الحزن…لا يُقرأ طيف الرحيل إلا في صمت الأمكنة، وفي ملامح الأحياء ووجنات المُعزين…حكايةٌ مستمرة، بلا نهاية، وألمٌ يأبى الترويض والخضوع…
وفي البيان والتبيين أصدرت الشاعرة رشيدة الوجداني بحر سنة 2024م ديواناً شِعريًّا اختارت له عنوان: “إليك أيها الحاضر الغائب”. وقد صدر الديوان عن مطبعة وورَّاقة بلال في مدينة فاس، في مُجملٍ وصل إلى 97 صفحة…
إليك أيها الحاضر الغائب! .. تجربة العبور النفسي واقتناص المعنى

الكاتب : ذ.عبد الحكيم الزاوي
بتاريخ : 13/10/2025