«ازدراء الغابة» لمحمد العرابي شعرية إدانة عالم الكبار

لأن عالم الكبار غير بريء مهما راوغ بأقنعته، كي يقنعنا بطريقة أو بأخرى، أنه ثمرة أخطائنا وثغراتنا الوجودية،وأنه إفراز شيطنتنا وتوحشنا وبربريتنا، جاءت مثل هذه الصرخة مختنقة بمعاني الدونية والاستصغار، منصرفة إلى ما يدين صور اغتيال مكامن الميثولوجي والإنساني في الكائن.
هذه البصمة هي الخامسة في مسار الشاعر المغربي محمد العرابي، والذي ينتقي مفردات معجمه بعناية ودقة وحساسية زائدة، ويولي التيمة المدغدغة بفلسفة البياض، أهمية خاصة.
الجدير بالذكر أن هذه المجموعة الصادرة حديثا عن مؤسسة “مقاربات”، شأن السالف من أخواتها، أتت في سياق تاريخي معين، يفضح أكثر أوراق انتكاسة العالم الإنسانية، ويعرّي نظير هذه الملامح في التناقصية التي غرّبت الروح وجنت على معطياتها.
خطاب المجموعة صريح للغاية، وإن شابه التلكؤ في بعض المحطات التي تبدي المواقف رمادية نوعا ما.
قد ينجذب المتلقي إلى عتبات الدواوين في تجربة الشاعر محمد العربي، الذي نستشف من تراكماتها، أي هذه التجربة التي تنبثق من الذات، باعتبارها مركزا ، لا هامشا ، كي تؤوب إلى أفيائها في دورة كاملة ، ونستخلص حجم الغرائبية التي يتم تفخيخ العتبات بها، كنصوص موازية، باعثة على مقامرات مغرية في الاستقراء والتأويل.
فهنا، مثلا، نجد العادة في الإسقاط من مكونات الغابة وحيواتها على واقعنا البشري، أما أن يكون الحاصل هو العكس بالتمام، فهذا يفيد هول الظاهرة، ويعمل على تفجير أسئلة وجودية كبيرة حولها، دونما تقديم تعليلات أو تفسيرات. فالشعر لا يفسّر، كونه يتمتع بخاصية الطفو، فهو بذلك يمثل سلطة سماوية تجبرنا على الخضوع والاستسلام، فنحن بالتالي نتذوقه قبيل أن تستقر في إدراكنا، معانيه ومضامينه وألوان دواله.
أن يتجرد واقعنا من إنسانيته، إذ التمثيلية في ما بيننا، متمحورة على تبادل الأدوار، فمرايا هذا الواقع ، تعكسنا كأجيال للضياع والخيبة والهزائم والانكسارات.
من هذه الفجوة انفلتت هذه الصرخة، في إدانتها لعالم الكبار، وهم يصادرون راهنا فجا ممجوجا ومتوعكا، يصلح للإسقاط من عناصره ومكوناته ، على طبيعة الغاب المتضوعة عجينته بلغة الموت والافتراس، والاستذئاب في اللعبة الوجودية والحياتية برمتها.
نقتطف له القول التالي :
{لِمُجرَّدِ النُّطقِ باسْمي
كثيرون يبتهجون
من عدالتي في قطع الرؤوس.
آخرون يرمونني بعديم الإحساس
ومشتل الآلام.
لا أنكر
أنني أحصد إلى جانب الفصول،
وكلمات وعصافير،
وأنني أريق دماء
قربانا أو جرما،
لكنني لا أسلب منها
بكل تأكيد
ديمومة العالم.} [ 1].
بذلك، إنما يدفع الكائن المطعون في هويته الوجودية، وهدر إنسانيته، جباية عالم متسارع وغير عابئ، نغير على صفحاته بعيوبنا وأخطائنا وتجاوزاتنا، كي نغذيه بوقود مثل هذه الديمومة والاستمرارية التي فيها الجور والجناية كل الجناية على دورة السلالة وتعاقب الأجيال.
يتفنن شاعرنا في لعبته هذه، والمنذورة للعنة الكبار، على نحو يجعلنا نستحضر قصة يوسف مع إخوته، وكيف أن السياق يتكرر ويقتضي تبرئة الذئاب.
ومما لا شك فيه أن أقنعتنا، عبثا، تحاول أن تغالب لسان الحال الذي يقول : ” الإخوة لا الذئاب” . فلم إذن ننكر المشترك ، ونتنافس على سائر ما يجر إلى هذه الفوضوية والدموية والجنائزية والخراب ..؟
أجهز دستور الجور على إنسانية الكائن، تسنه تارة صهوة الإيديولوجي، وأخرى مطية العقَدي، أما الثقافي فهو لا يكل من تجارب إحداث الكوة التي قد يتسلل منها إلى قلب المشهد، فيترجم بعض الفتق، ويدشّن فصول الحياة الضمنية الأخرى، المشتهاة والمفتقدة والمنوّمة عنوة.
يقول في مناسبة أخرى :
{أيقظه عزف منفرد
يفاوض عليه
بينما تكتم أنفاسه
يد ناعمة
لا تتركه إلا إذا أرخى أكمامه…
بعد أن سمع الحفار هذه الميتات
ضحك ، تمرّغ في التراب
واضعا عنقه
رهن سبيب الكمنجات.} [2].
كأني بهذه اللمسة ، تعارض رؤية البعض لمشهد التفاهة، في تعريفه القاصر والمحدود والمغلوط، مضللة ثقافة الإفراغ وتصريف الكبت,
شخصيا لست أرى العيب في صولة راهن الكمنجات، معززا اعتقاد شاعرنا ونظرته الإجمالية للحياة، إنما العيب في الفساد والتشوه الذائقي لدى جيل بالكامل.
وعلى حدّ تعبير الشاعر حسن نجمي،بمعنى ما،نلفي أنه من خلال طقوسيات ترميم أشلاء الكمنجات، إنما نستطيع تقديم بعض الغوث والخلاص لمثل هذه الذائقة المرتبكة.
المهم أن قدر القصيدة أن تقبع في عنق الزجاجة، والتلاعب بمصائر الكائن المخدّر سلفا، إنما تتم بسرقة طبائع الغاب وشتى تفاصيلها، للإضفاء على عالم راح يتجاوزنا بجملة مما تغور له إنسانيتنا وتندثر.
تطالع له أيضا قوله:
{سأطفئ عيوني
مرة واحدة وإلى الأبد
وأجعل شقوق المدخنة
تزداد ريبة ،
ولن أغريها بالدهاليز والأقبية ، ولن
أفتح لمحياها درب المجرة.}[3].
إن لثرثرة القلب فصولها التي صمتت عنها المجموعة، وقد تركتنا لأفق بياضاتها الساخطة على عالم الكبار وهو يتلون بما يتلون به لوثة وحالات مرضية وسلبية ونقصانا تتقاذف مرايانا، فتبرز الشعر على أنه مجرد تلاعب بالكلمات ومنجم لأخيلة هي أقرب إلى الوهم، منها إلى الحلم.
إن نصوص محمد العرابي يبصمها القلب في غفوة وجودية طاغية، فتعفيه من هرطقات الرائي الذي قد يزيف أو يحرّف تاريخ هويته…بل إنها قصائد تعطل فخاخ الأنا المتغطرسة، لنذوب في ثقافة ” النحن ” وتتوهج بخطاب الضمير الجمعي، بما يتيح لها تبوء منزلة وقوة وصوت النبوءة المنسابة من خارطة الماوراء، الزاخر بآيه وسحره وألوانه.
مجموعة ما كانت لتبلغ بشعريتها مبلغ إدانة عالم الكبار المقنّع والهمجي،لو لم تعطل بالكامل دور الرائي، كي تنساق مع لغة القلب،كضرب من توأمة بين الصدق واللذة.

هامش:
[1]مقتطف من نص “أفكار المنجل”، صفحة 5.
[2]مقتطف من نص “ضحايا الكمنجات”،صفحة14.
[3]مقتطف من نص “الوجه ” ، صفحتين 88/89.

شاعر وناقد مغربي


الكاتب : أحمد الشيخاوي

  

بتاريخ : 16/02/2021