في مقال طريف للناقد المغربي « عبد الفتاح كيليطو « تحدث فيه عن علاقة إدوارد سعيد بحقيبة السفر، ما رسم في ذهنه مفهوما جديدا للمثقف، وهو « المثقّف الحمّال». استحضر من الذاكرة الأدبية نماذجاً عالمية للحمّالين، وعلى رأسهم «أطلس» وسيزيف، وإيني بطل ملحمة الإنيادة لفرجيل، وفي الثقافة العربية ذكر شخصية السندباد الحمّال. وفي سياق استحضاره لهذه النماذج، حيث أنّ كلّ نموذج اقترن بحمل ما، تساءل كيليطو: ماذا يحمل إدوارد سعيد؟
نبش كيليطو في سيرة إدوارد سعيد، وتوقّف عند محطّات، قد تبدو بأنها غير ذي دلالة، لكنها تجيب إلى حد ما عن سؤاله، ومن بين تلك المحطات، زيارته وهو تلميذ في مدرسة ماونت هيرمون لأسرة عمه في نيويورك، وكان مُحمّلا بحقائبه الضخمة. عبّر سعيد عن علاقته العصابية بالحقيبة، فكان لا يتصوّر أن يذهب إلى مكان ما دون حقائبه الكبيرة. صورة سعيد وهو يحمل تلك الحقائب رسّخت صورة عنه وهو منحني الظهر بسبب ثقلها. يقول كيليطو: «من قرأ مذكرات سعيد يعلم أنّ أحد هواجسه المُلحة (أو علله كما يسميها)، مرتبط بخشيته أن يصير أحدبا» ارتبط الحنين إلى الأهل بحقيبة ضخمة، بحيث لا يمكن أن تصوّر حقائق إدوارد سعيد إلا وهي كبيرة الحجم.
ما أثار انتباهي، هو ربط كيليطو لوضعية احدوداب الظهر الذي كان يعاني منه سعيد بمفهوم الاستقامة والاستواء والمجابهة والصمود، والتي هي قيم تنتمي إلى صورة المثقف الذي لطالما أمعن سعيد في نحت صورته في كتابه (المثقف والسلطة)؛ كان إصرار والده أن يظل ظهر ابنه مستقيما، لا يخلو من هذا المعنى الذي أراده من خلاله أن تكون عليه شخصية سعيد. الحقيبة التي تعني السفر، وتعني الحنين، هي أيضا تفرض تحديا سلوكيا، إذ يتوجب عليه أن يظل مستقيما، وسويا. يقول كيليطو «الاستواء، بهذا المعنى، من الصفات التي يجب على المثقف أن يُراعيها «.
لكن هل المثقف شخص سوي؟ وهل ينبغي أن يتصرف استنادا إلى الصورة النمطية التي تشكلها مخيلات الناس؟
بالنسبة لسعيد، لم يكن شخصا سويا، هو شخصيا اعترف بأن ما كان ينقصه لما كان طفلا يافعا هو «الموقف السوي».
يعود كيليطو إلى طرح السؤال: ما هي الأسباب الغامضة، العصابية التي تجعل إدوارد سعيد يتنقل حاملا لحقائبه؟ إنه الخوف من «عدم العودة». الخوف من فقدان بعض أغراضه، حتى لو فقد المكان لسبب ما.
فكرة العودة لازمت سعيد طيلة حياته، كانت رحلته الأولى إلى أمريكا مدفوعة بشبه اعتقاد بأنها رحلة دون عودة. ثمة استحالة العودة إلى المكان الأول، فحينما عاد سعيد برفقة ابنيه وزوجته إلى القاهرة، اكتشفها مكانا غريبا عنه، بل لم يكد يتعرّف حتى على مدرسته. « عاد أوديسيوس إلى جزيرة إيثاكا بعد عشرين سنة من الغياب، فلم يتعرف عليها، ولم يتعرف عليه أحد».
وازداد هذا الخوف « الخوف من عدم العودة « بعد اكتشافه لمرضه. كان ذلك أكبر محفز لكتابة مذكراته التي كانت ضربا من العودة إلى الماضي، وإلى ذكريات الطفولة. إن استحالة العودة إلى المكان، تعوضه الكتابة، واستحضار الذكريات، وإعادة بنائها على شكل سردية ذاتية.
لم يكن سعيد مسكونا بالحنين إلىى المكان، ولا إلى الماضي فحسب، بل كان يساوره الحنين إلى اللغة الأم ( العربية )، « سرعان ما تبين له أنه مثقل باسمه، بلونه، بلغته، تنهال عليه ذكريات ماضيه في الغربة، باعثة لديه شعورا باختلافه وتميّزه عن مُحيطه الجديد «
استعارات الحقيبة: هكذا تحدّث كيليطو عن إدوارد سعيد

الكاتب : لونيس بن علي
بتاريخ : 13/08/2025