في لحظة سياسية دقيقة تتقاطع فيها الضغوط الاجتماعية والاقتصادية مع شعور وطني عام بأن الخطاب الحكومي فقد بوصلته وفشل في مواكبة تحولات المغرب العميقة، وفي سياق مفارقة صارخة بين دينامية الدولة وتعثر الحكومة، ينعقد المجلس الوطني للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية يوم 13 دجنبر 2025 ليضع الحزب أمام مسؤوليته التاريخية: بلورة بديل تقدمي واضح يعيد الثقة، ويستعيد التوازن، ويمنح الدولة الاجتماعية أفقاً جديداً بعد سنوات من الارتباك الحكومي والعجز عن الاستجابة لانتظارات المغاربة.
فالمغرب يعيش اليوم لحظة غير مسبوقة؛ تكاليف المعيشة ترتفع، الفوارق تتسع، ثقة المواطنين في الأداء الحكومي تتراجع، والمشهد السياسي ينزلق نحو جمود خطير لم يعد يسمح بمزيد من التجريب. وفي هذا الفراغ الذي أحدثته الحكومة، يعود الاتحاد الاشتراكي ليملأ مساحة الوعي السياسي الوطني، بوصفه قوة تمتلك الجرأة الفكرية، والوضوح التنظيمي، والامتداد الاجتماعي القادر على تحويل لحظة الأزمة إلى فرصة لإطلاق مسار سياسي جديد.
لقد شكّل المؤتمر الوطني الثاني عشر نقطة تحول كبرى في مسار إعادة بناء الذات التنظيمية الاتحادية، ليس فقط عبر مراجعة الهياكل وتجديد القوانين الأساسية والتنظيمية، ولكن أساساً عبر إعادة تعريف وظيفة الحزب في مغرب يتحرك بسرعة، وتحدياته الاجتماعية والاقتصادية تتطلب أحزاباً قوية، واضحة، ومنظمة. وكان من الطبيعي أن تفرز تلك اللحظة إجماعاً واسعاً على انتخاب الأخ إدريس لشكر لولاية جديدة، باعتباره القادر على قيادة مرحلة دقيقة تتطلب خبرته، وصلابته، وقدرته على إدارة التوازنات والرهانات الوطنية.
ولعل الركيزة التي أعادت رسم ملامح هذا المسار هي التجربة الجريئة التي أطلقها المؤتمر الوطني الحادي عشر عبر اعتماد المنصات الجهوية للمرة الأولى، تجربة ثورية في عمل الأحزاب المغربية، نقلت التنظيم من مركزية خانقة إلى دينامية منفتحة على الجهات، وأعادت الحياة إلى الفروع الإقليمية، وفتحت الباب أمام مشاركة حقيقية للاتحاديات والاتحاديين دون كلفة السفر والتنقل والانتظار. لم تكن مجرد إجراء تقني، بل كانت إعلاناً عن ميلاد مرحلة اتحادية جديدة، تُمارس فيها الديمقراطية بتجذر ترابي، وتُصنع فيها النخب من القاعدة لا من المركز.
كما شكل هذا الإجراء مراجعة عميقة لمفهوم التنظيم نفسه، وهو ما تعزز بقوة في المؤتمر الوطني الثاني عشر الذي حوّل التجربة إلى قاعدة، والتجريب إلى اتجاه استراتيجي، والديمقراطية الجهوية إلى رافعة مركزية في البناء الحزبي. فالمنصات الجهوية ليست “أسلوباً تقنياً” للاجتماع، بل ثورة ديمقراطية اتحادية تعكس انسجام الحزب مع روح الجهوية المتقدمة التي نصّ عليها الدستور، وتدفع نحو تقليص الفوارق بين المركز والجهات داخل التنظيم، وتثبيت اللامركزية التنظيمية كأساس لإعادة بناء الحزب، وصناعة نخب جهوية قادرة على قيادة المستقبل، وفتح المجال أمام مشاركة واسعة بلا كلفة مادية، وتمكين أعضاء المجلس الوطني من الحضور الفعلي في جهاتهم بدل التنقل القسري إلى الرباط. بهذا الخيار الذي قد ينطوي في نظر البعض الفرقاء السياسيين على مجازفة، اعتبارا لما يمكن أن تفرزه من نتائج قد لا تصب في الاتجاه الذي تريده القيادات، يكون الاتحاد سباقا إلى إعمال منهجية تعطي للتنظيمات الجهوية قيمة ودور حيويين في البناء الحزبي، علاوة على أنها تساهم في حلّ إحدى أكبر مشكلات العمل الحزبي في المغرب: تكلفة المشاركة السياسية. حزب الاتحاد الاشتراكي حول المنصات الجهوية إلى شرط لتكافؤ الفرص، وإلى آلية لتوسيع دائرة النقاش الديمقراطي، بعدما أثبتت التجارب السابقة أن المركزية المفرطة تقصي وتُبعد وتُضعف الحيوية التنظيمية.
وتأتي دورة 13 دجنبر 2025 لتواصل هذا المنحى التصاعدي، حيث تشكل المنصات الجهوية اليوم الفضاء الطبيعي لاتساع المشاركة وصعود نخب جديدة وإعادة ربط الحزب بمجاله الاجتماعي في كل المناطق دون استثناء. إنها ليست فقط وسيلة للانعقاد بل ورشاً لتجديد النخب وصناعة قيادات جديدة، وهي العمود الفقري للتنظيم الاتحادي في الانتخابات التشريعية لعام 2026 والجماعية والمهنية لعام 2027. إنها ثورة داخلية هادئة لكنها جذرية، تُعيد ترتيب العلاقة بين المركز والجهات، وتمنح لكل منطقة موقعها الطبيعي في صناعة القرار الاتحادي.
ويتعاظم الرهان السياسي عندما ندرك أن المجلس الوطني لا يأتي فقط لانتخاب أجهزة حزبية، بل لإعادة بناء القيادة الاتحادية بدماء جديدة ووعي جديد، قيادة تجمع بين الخبرة والتجربة من جهة، وروح المبادرة لدى الجيل الجديد من جهة أخرى، بما ينسجم مع روح المؤتمر الثاني عشر الذي جعل من تجديد الأطر عنواناً مركزياً للنهوض الحزبي. فانتخاب رئاسة المجلس الوطني، ولجنة التحكيم والأخلاقيات، ولجنة المالية والإدارة والتدبير، ولجنة المناصفة والمساواة وتكافؤ الفرص، ولجنة قضايا العمال المغاربة بالخارج والجالية المغربية بالخارج، والمكتب السياسي، يمثل إعادة صياغة للعمود الفقري للقيادة الاتحادية التي ستقود المرحلة المقبلة. إنها ليست عملية إدارية، بل تأسيس للهيئة السياسية والتنظيمية التي ستواجه تحديات السنوات الأربع القادمة.
وبناءً على الصلاحيات التنظيمية المنبثقة عن المؤتمر الوطني الثاني عشر، سيعرض الكاتب الأول على المجلس الوطني مقترحاته بخصوص رؤساء اللجان وتركيبتها وبرامج عملها، وهو ما سيجعل لحظة التداول والمصادقة لحظة سياسية بامتياز، ترسم ملامح القيادة الجماعية الجديدة وتحدد مسار الحزب نحو صدارة المشهد الانتخابي.
وفي ظل حالة الانتظار الشعبي المتزايدة ورغبة المواطنين في رؤية مسار جديد يعيد التوازن بين متطلبات الدولة الاجتماعية وحاجيات التنمية الجهوية ومحاربة الفقر والهشاشة، يبرز الاتحاد الاشتراكي اليوم كقوة فعلية قادرة على تحويل النقد إلى اقتراح، والغضب الاجتماعي إلى مشروع إصلاحي واضح، والاختلالات الكبرى إلى رؤية تقدمية متماسكة تُعيد الثقة في السياسة وفي مؤسسات الوساطة.
ومن هذا المنطلق، يدعو الحزب جميع الاتحاديات والاتحاديين إلى التعبئة الشاملة لإنجاح أشغال المنصات الجهوية، والاستعداد للمؤتمرات الجهوية المقبلة التي ستنتخب الأجهزة التقريرية القادرة على قيادة المرحلة المقبلة بتنسيق دقيق مع الكتابات الإقليمية، لأن نجاح هذا الورش التنظيمي هو المفتاح الأساسي لنجاح الاستحقاقات الانتخابية لسنتي 2026 و2027، ولأن الاتحاد الاشتراكي يدخل هذه اللحظة ليس كمتفرج، بل كقوة إصلاحية تقدمية تستعيد موقعها الطبيعي في قلب المشهد الوطني وتستعد لقيادة التغيير في زمن الارتباك الحكومي.
استكمال الأجهزة وصياغة هندسة جديدة لقيادة المرحلة المقبلة
بتاريخ : 03/12/2025

