«استيهامات العاشق الأوحد» لنور الدين ضرار: بالحب نبني العالم

 

تكريم مبدع هو الإنصات لنبضه. تكريم مبدع هو أن تقرأ له. التكريم والاحتفاء مرهونان للتفاعل مع نصوص المبدع . الاحتفاء هو الدخول في حوار مع منجزه الإبداعي والقراءة جسر لجس سرعة جريان كيمياء التفاعل.
آثرت في هذا اللقاء أن نحتفي بطريقتنا الخاصة بالشاعر المتعدد العزيز نور الدين ضرار، ورسمت لذلك خارطة طريق تعلن السفر في ديوان صغير الحجم صادر في 2021 عن مطبعة بلال بفاس، وأقصد بذلك ديوانه: «استيهامات العاشق الأوحد ايروتيكا من بدء الكون للصدر الأعظم «.
وانطلاقا من العنوان تُستفز الحواس وتبحث لها عن دليل يرشدها لمنطقة الظل والرطوبة، ففيه تصطدم الاستيهامات والعشق والايروتيك وبدء الكون والصدر الأعظم، كوكبة من الدلائل غير المحايدة التي تقذف بالقارئ لتخوم التحليل النفسي ومجاوراته، وكل دليل يحمل وراءه زادا معرفيا ثقيلا لا يفقهه إلا الراسخون في الغوص في بحار المحبة والأشواق، العارفون بمقامات الصوفية أو المقتربون من نفحات الشعر الكوني الذي خلد آثارا فيها عمق التجربة وحرقة الولع والهيام.
استيهامات العاشق الأوحد، العاشق الأوحد الذي لا شريك له يُسبح في ملكوت الله، هو وحده القادر على شق الفجوات والأخاديد بين ثنايا الأرض،يشرئب لجنة مفقودة لها شهية الفتنة والإغراء، هي منطلق الخطيئة وبدايتها، فضاء المطلق الرباني، هي مفتتح المخيال الذي استعصى عليه تأثيث فضاءاتها وترتيب محتوياتها…وكيف له ذلك، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه «سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الجنة كيف هي؟ قال: من يدخل الجنة حي لا يموت، ومنعم لا يبأس، لا تبلى ثيابه، ولا يفنى شبابه، قيل يا رسول الله كيف بناؤها؟ قال: لبنة من ذهب ولبنة من فضة، ملاطها مسك أذفر، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت، وترابها الزعفران».
العاشق الأوحد تضعه الاستيهامات كآلية من آليات الإشباع في التحليل النفسي التي تهدف إلى تصريف الرغبات المكبوتة بشكل مؤقت في حضرة التماهي مع الزمن الصوفي، مصاحبا هذه التي انبثقت من ضلعه دون علمه.. « قال المفسرون: لما أسكن الله تعالى آدم الجنة كان يمشي فيها وحيدا لم يكن له من يجالسه ويؤانسه، فألقى الله تعالى عليه النوم، فنام، فأخذ ضلعا من أضلاعه من شقه الأيسر، فخلق منه حواء من غير أن يحس آدم بذلك ولا وجد له ألما ولو أولم من ذلك لما عطف رجل على امرأة». غير أن رجة السقوط كانت عنيفة ومخيفة قال وهب بن منبه:» لما أهبط الله آدم من الجنة واستقر جالسا على الأرض عطس عطسة فسال أنفه دما، فلما رأى سيلان الدم من أنفه ولم يكن رأى ذلك من قبل فزع فزعا شديدا».
جرح السقطة لحظة وجودية بين زمنين، يقول العاشق الأوحد:
قبل الخطيئة
حتى قبل أن تكون
هذي الأرض عالقة
بأهذاب السماء
كنا معا
في سفر الغيب
ببال الله
خاطرة مُلهمة» ص6
بعد الخليقة
حتى قبل، نكون معا،
وأنت كما كنت دائما
رعشة بخلجة النبض
عند انبثاق الروح
من نسغ التراب» ص 7

لقد شكلت موضوعة «الخطيئة الأولى» أو «السقوط» مادة خصبة للفكر الإنساني المبدع، موضوعة تمت صياغتها بألوان متعددة، اقتنصها الروائيون وفسحوا للمخيال معابر تبحث عن دلالة البدايات الأولى.
في الفن التشكيلي، سافرت الألوان مقتحمة عنان السماء راصدة تلونات الجنة ومباهجها العصية على الإدراك، باحثة عن ملامح الملائكة والشيطان .
وفي الشعر فإن هذه التيمة استوطنت العديد من التجارب الشعرية، قديمها وحديثها، بتفاوتات تعيد تشكيل التصور الديني سواء ما جاء في الكتب السماوية أو ما صاغته الذاكرة الشعبية خارج النصوص المقدسة بشكل ينشط فيه المتخيل في صور يلفها الحنين والندم على ما سمي بالسقوط.
العاشق الأوحد يزلزله هذا السقوط الموحش الذي يبعده عن ملكوت السماء وعن النور، يقول الشاعر:
أتذكرين؟ كنا حينها
في حضرة الله معا
قبسين من نور
في ملكوت السماء..
بعد أن علمني الأسماء
عن لي في أول لغوي
أن سميتك حواء، وعلى أديم الغبراء
في أول نشيد من أناشيد الفناء
كان لك أن سميتني آدم
ما انتبهنا
في غربة الأرض
إلا أن صرنا ظلالا مغبرة
من سلالة التراب،
وانغمرنا في أزل المنافي
حتى الأبد « ص 20

في لجة السقوط والخطيئة، وفي تبدل الأحوال، يصبح العري النفسي وشاحا يغطي الوجود، هو الضياع والغربة والضلال
كلانا
بأرض الله
ضائع
غريب
ضليل:» ص 27

بتمويه لغوي جميل يشق الإيروتيك سبيله للديوان بحشمة ووقار، عبر توظيف خاص لكلمة الصدر الأعظم بمجاز لغوي راق لا يبيح لنفسه الخروج عن اللائق، لا إباحية ظاهرة تخدش حياء النص وحياء القارئ، مسافة ضوئية بين الشاعر وما أبدعه الفكر الجنساني العربي أو ما سمي بعلم الباه، بزعامة النفزاوي والتيفاشي وغيرهم من الفقهاء والأدباء.ذلك أن الشاعر نور الدين ضرار ظل متعففا شعريا دون أن يطلق العنان لمخياله ولغته كي يحافظ على فهم محدد للإيروتيك يقصي بعض الدلالات التي لا تنسجم مع هواه. ف»الإيروتيك»هي كلمة مُشتقة من آيروس ألهة الحُب والرغبة الإباحية والجنس والشهوة والخصوبة والسعادة في الميثولوجيا الإغريقية. فلا غرو إذن أن ينتقي العاشق الأوحد ما يراه ملائما ومنسجما مع صبواته وأشواقه وحبه.
ينزاح الصدر الأعظم من مقامه التاريخي المعروف كمنصب سياسي استحدثه المرينيون وانتهى مع نهاية الحماية الفرنسية واستقلال المغرب، ليؤشر على صدر آخر وهو»صدر المرأة»، وفي هذا الاختيار انحياز لموضع دون آخر، انحياز بعمق فني وشعري كبير هيأ للعاشق الأوحد أن ينوع في تجليات هذا الصدر ويعدد صفاته: صدرك العالي، صدرك العاري، الضاري، الهامي، البهي، الشهي، الفتي، الصبي، النبي، وينصهر معه في تلاحم وجداني يقيم جسور التواصل مع الصفة المنتقاة:
صدرك العالي
أصل البدايات
أعلى عتباتها
نهاياتي المحتمة
صدرك الصبي
مبكى طفولاتي
بغيبة أمي
وعلى يتمي
يافعا ألفي
كل مرضعة فاطمة
صدرك النبي
أعظم معجزة
في سفر نبوءاتي القادمة،
وعلى جدار كعبتي
كل النحور
فدى له
فاتحة وخاتمة. ص 68
على العموم تجربة نور الدين ضرار في هذا الديوان فريدة واستثنائية في علاقة مع المنجز الشعري المغربي، تجربة تنحت فرادتها في النسغ الوجداني الذي ارتمى فيه الشاعر حاضنا ليس سنبلة الوقت كما قال أدونيس ولكن حاضنا لقلق السؤال البدئي عن الخطيئة والسقوط، مقتصدا في القول ببلاغة آسرة تقدم فيها الاستعارات والمجازات تلاوين الخيال الشعري المتجذر عند الشاعر.


الكاتب : محمد خفيفي

  

بتاريخ : 22/02/2022