قليلون هم المخرجون الذين يترجمون سيرتهم إلى صورة سينمائية على غرار كتاب الرواية، لكن ذلك لا ينفي وجود الاستثناء في شاهين العربي العالمي، المتتبع للمسار السينمائي ليوسف شاهين يرى بأنه قدم ما يزيد عن أربعين فيلما تتنوع ما بين الواقعية الحديثة والفيلم النضالي السياسي والكوميديا ثم الدراما الاجتماعية زد على ذلك أفلام المغامرات والميلودراما إضافة إلى الملحمة التاريخية وأفلام السيرة الذاتية التي يندرج ضمن سياقها انتاجه «اسكندرية ..نيويورك» بعد «اسكندرية ليه؟ «، « حدوثة مصرية «، «اسكندرية كمان كمان « ثم « سكوت حنصور « ففي هاته الخماسية وقف شاهين ليسرد تجربته الحياتية كسيرة ذاتية فيلمية ممزوجة بظروف الوطن العربي ككل ومصر خاصة محاولا التعبير عن الذاتي في ارتباطه بالموضوعي معلنا بالصورة والصوت عن مواقف وأفكار خاصة تطرح في سينماه بغية تحقيق أفق مستقبلي أفضل، وقد اتخذ من الماضي أو ماضيه اليومي المعيشي مرجعا لقراءة الحاضر قراءة متأنية متفحصة لرجل يعي كل الوعي لما يجري حوله وهو يعيد تقييم الوقائع ببصيرة نافذة وروح فنية استكملت كل أساليب النضج.
لقد ظل يوسف شاهين يسعى باجتهاد كبير في البحث عن أسلوب جديد للسينما العربية يبدو شديد الخصوصية إذ تفاعلت فيه الرؤية الذاتية والانطباعية والرمزية بالسريالية والبريختية بالفنتازيا، ليصير هذا النهج السمة الغالبة في أفلامه مستفيدا من تراث السينما العالمية مدركا بطبيعة الحال التطور الحاصل في لغتها ويظهر كل ذلك مؤصلا في عمله «اسكندرية.. نيويورك « فيلم سينمائي شاهيني بامتياز يجمع بين الإبداع والامتاع سبق أن حضر به في مهرجان كان لسنة 2004 في إطار مسابقة نظرة خاصة يقدم لنا الفيلم سيرة الحب والفن من خلال يحيى (محمود حميدة ) المخرج العربي الذي جاءته دعوة لتكريمه في أمريكا وبمناسبة الحفل الذي أقيم له في نيويورك يلتقي بجينجر (يسرى) عشيقته في شبابه حين كان يدرسان بمعهد باسادينا للتمثيل في كاليفورنيا.
تعود بنا الكاميرا إلى تلك الحقبة المبكرة من شبابه وذكريات حبه الأول وهو يتلقى مبادئ السينما إذ يكتشف بفرح كبير أن له ابنا منها يسمى اسكندر (أحمد يحيى) يبلغ سن العشرين لكن هذا الاخير سيصدم لدى معرفة أن والده عربي ويرفض لقاءه ولا يفهم يحيى موقف ابنه المعادي له ليستنتج بذلك أن أمريكا التي أحبها وعرفها أثناء دراسته قد تغيرت كثيرا، إذن هنا الصورة الفيلمية جعلها المخرج تنشطر إلى حقبتين ومشدودة بين أخد ورد لزمنين: زمن ماضي حين كان يحيى طالبا يعيش شغف الشباب بالحب وطموح التخرج من معهد السينما ليحقق المبتغى، وزمن الحاضر ليحيى المخرج الكبير الذي صار له صيت عالمي يكرم بأمريكا مواجها حيث المكان المتجدد والمتغير كليا نظرة الاخر للإنسان العربي وما ابنه إلا وجها لهذا الاخر إذ يمزج الفيلم بين ثقافتين مدافعا عن ثقافته الأصل المتجذرة في التاريخ مؤكدا انتماءه لحضارته المؤسسة على التسامح والتعايش الرافضة للنزعة القومية الضيقة، ثقافة ذات صبغة انسانية رحبة تتألف فيها الأديان بسلم وسلام ورغم وجود شخصيات أجنبية في الفيلم تبقى دائما ميزة شاهين الاعتماد على ممثلين مصريين يعني عرب لتقمص ولعب تلك الشخصيات مع حضور حوار بلغة عربية منذ البداية وحتى النهاية.
يأتي فيلم الشاهيني «اسكندرية .. نيويورك « محملا بكل مقومات الصناعة السينمائية المعاصرة بحذق وحصافة السينمائي المتمكن. يبلور شاهين الأحداث ويقود صورة محكمة رزينة تتشابك فيها العواطف والأحاسيس، تتقاطع وتتداخل، تنصهر وتنكسر سينما ترفع قيمة الحب وتسمو بالفن من علاقة عشق بجينجر كما صاغها ماضيا مضيفا علاقة زوجية عاطفية أبدية مرافقة له حاضرا في مجمل يومياته بكل جزئياتها مؤثرة ومتأثرة، ليأتي حبه الأول بمعانقة ابنه اسكندر حب عارم بالحنان والود من الأب تجاه الابن الوحيد لكن صار هذا بما لم يكن متوقعا بعدما أعلن يحيى رفضه لابنه والافصاح عن موقف جريء ( أنا مايشرفنيش يكون لي ابنا مثلك) ما دام الابن يحتقر ويهين الانسان العربي في كل مكوناته، سبق ليوسف شاهين أن صرح في إحدى حواراته عن فيلم « اسكندرية ليه؟ « بداية الاشتغال على السيرة قائلا، ليس الفيلم معبرا عن كل الحقيقة لكنه محاولة لتلمس بداية الطريق للحديث عن الحقيقة ، إنه تصفية الحساب مع العائلة ليبدأ بعد ذلك الحساب مع النفس « يبدو أن شاهين كان وفيا لأطروحته هاته الان في جعل حياته أمام أعين العالم محاورا أفكاره ومبادئه تجاه الحياة عامة منطلقا من الفن إلى عالم الفن الكبير السينما، لقد نجح شاهين بتوظيف جمالي رائع لمشاهد مسرحية من هاملت في شخص البطل الطالب بعد ذلك يولد الابن اسكندر فنانا راقصا لعروض الباليه، أسلوب فني تتلاحم وتتناغم في الالوان والأضواء بمجمل أشكالها تضفي روعة منسجمة على كل الديكورات المستخدمة في الفيلم وبين الموسيقى والغناء ولحظات الرقص المتوهجة يأخذ الفيلم الطابع الحميمي الشاعري مخاطبا جوهر الأشياء معمقا رؤية إخراجية مؤلفة بتقنية أكاديمية ممثلة بتفاعل الفنون فيما بينها وتأطير السينما من داخل السينما ولعل هاته العلاقة المتبادلة والمتداخلة بين الفنون دليل واضح على تشبع شاهين القوي بمدى رمزية علامات التقاطع الفني في صناعة الفرجة السينمائية مخترقا منطق الحدود والحواجز أمام عالم الخلق والابداع الانساني متجاوزا كل القيود المألوفة للخروج بالمتلقي من السلبية إلى محاورة العرض ومساءلته معتمدا الطرح البريختي في خلخلة أفق انتظار المشاهد والارتقاء به إلى مستوى المشاركة والمساهمة.
يمكن القول أن «اسكندرية .. نيويورك « يشكل قيمة مضاعفة في سجل الفيلموغرافية الشاهينية مرسخا لتجربة انتقلت بالفن السابع العربي إلى ذروة العالمية وهي من تم نقطة الضوء الناصعة التي أبرزت وجه السينما العربية ومهما كان حجم الاتفاق أو الاختلاف مع صانعها تظل هي السينما الأجدر.