يقول أفلاطون ” للشاعر جنون مقدس”
جنون يحتمه التحدي الشعري بمفهومه التداولي، كعملية تلقيح لغوية في بعدها التخييلي وتجلياتها التصويرية، أي ما يجعل من اللغة المحكية تتعالى عن زمنها اليومي، كي “تصبح بذلك سمة تخص النوع وتتعالى عن الزمان ” بتعبير جيرارجينيت، وهو ما نقصده بالوعي الشعري لدى بلعطار..
هذه الخاصية مفتاح نطل منه على ديوانه “مقام العشق” بعد الوقوف عند العنوان لمعرفة عمق ذاته الشاعرة، وفي البحث عن العناصر التي تحيك شاعرية هذه الذات..إذن “العشق” مدخل أساسي لعوالم شعرية المحكي، وكيف تتقاطع في متون القصائد وفق ميثاق يؤسسه فضاء هذا العشق:”مْقامْ”، للتعبير عن حمولة اختيارات النسبي والمطلق كأفق لرؤية حركية الذات الوجدانية الشاعرة.. مادام هذا لَـ”مْقامْ” مرجعية لا مفر منها للعشق بكل تمفصلاته في الديوان “عشق لبلاد، عشق الناس، عشق لحروف”. إذن هو نسيج روحي للذات، والشعر، والعالم الخارجي كما يرى دريدا أن ” الذات في الكتابة لا وجود لها إن كنا نعني بها سيادة المؤلف. إن الذات في الكتابة نظام علاقات بين طبقات : الورقة السحرية، والنفس، والمجتمع، والعالم”
مال حوالك حالو؟
ما عطوب كطالو
ومال صباحك مالو؟
عاد
كيف مساك يا بلادي؟
لذلك لا نقف عند المعجم للدلالة الترادفية في تشكيل المعنى، بل نبحث عن الغياب الدلالي في سياقات هذا “العشق” للقبض على “البنى الغائبة..” كما يسعاها إمبيرتو إيكو من الإبداع..
إن إطلاق العنان للمخيلة يقتضي منا أن نقيسه بما قاله ابن رشيق ” أهل صناعة الشعر أبصر من العلماء”.. لكونه يمتص الأسئلة المصاحبة للذات في هويتها ووجودها، حتى يجد موطنه الأصلي بين مد وجزر الذات والذات الشاعرة، لتأثيثها من جديد بأشكال العشق المتعددة في الديوان، بمعنى “الوعي بالذات من خلال الوعي بالوظيفة الشعرية..”.كما يقرها رومان جاكبسون، أي وعي بلعطار بالرسالة التي يعمل على إبلاغها من خلال التعالي على الذاتي الطبيعي نحو رؤية إبداعية تهفو إلى تشخيص المتخيل الإبداعي…
إن مساءلة الشعر لا تخضع لمنطق عقلي محض، بل يتوجب أن تخضع إلى هزات روحية تستشعر هذا النفاذ الشعوري كما في الديوان، في كيفية بنائه بمنطق لا يتوسل المنطق السائد. فالفيتوري يعبر عن هذا النفاذ عندما يعتقد “أن شاعرا ما لديه القدرة على مواجهة ذاته الشاعرة، ورصد الحالة غير الطبيعية التي تلبسها هذه الذات أثناء انهماكها في عملية الإبداع”
ونجيك أنا من الاخر
زرد ڭاع لحروف ف سطر
وخلي الورقة محبق
ويلا مدادك ف الدواية حجر
كون واثق
ف عروڭك مداد كثييير
إذن هناك تأسيس نصي مشبع برؤية مسبقة توالف بين أزمة ما قبل النص، وحين النص، وما يترك مفتوحا داخل النص إلى عوالم المتلقي بحمولاته المعرفية،وميولاته المختلفة للموالفة هي الأخرى بين النص وعوالمه السابقة، وبين عوالمه المتوفرة..لذلك يرى ريفريدي أن ” الشاعر مدفوع للإبداع بحاجة ملحة ملازمة له للكشف عن سر كيانه الداخلي”
صباح الخير…
بيك تسفال هاذ لمقال
ولقصيدة عطفت
بلا دخال
فكت خبالي
فكت حبالي
وفكت الخطوات من ڭيادي
إن “مقام العشق” في ثالوثه: (عشق لبلاد، عشق الناس، عشق لحروف)يستمد عناصر انشحانه العاطفي من المحيط والطبيعة والقيم والتراث… (الهلال، الأرض، الوردة، الليل، الصباح، الطير، النخلة،الجبل، الوطى، لكرم، الشجرة../ القلب واحد، حنا طلة، حنا خلة، سوقنا بالمحبة حامي، حنا كل إنسان../دڭان المهراز، لعب البنات، تامويت، العيطة،الرڭادة، الملحون، ربابة سوس..) كي يجعل من هذا العشق مسرحا دراميا توقّعه تجربة بلعطار الشاعر والإنسان…
ظلي علي
بليل سوالفك
ووجهك ڭمرة
على ضوها نقرا
حروف ليعتي
ف لوحة وكتاب
هذا التماهي يعيد الخرق الدلالي إلى مكانه، بعدما اتخذ أشكالا متعددة لذلك التداخل بين القول والمبغى الشعري، عندما ينم عن صوفية عشق ناجمة عن قلق يسبقها، يقولعزالدين المناصرة”يظل القلق المتولد مصاحبا لجدل الذات والخارج.. ويصبح سمة الباحث عن الاكتمال”،أو هو”قلق مدمر من حالة وجودية” بتعبير درويش..
من حيوطك محراب
هواك رباني
حيث رباني
وعلمني حروف الصواب
حروف ليعتي
ف لوحة وكتاب
إن شساعة الملكة التخييلية أكثر فاعلية في العملية الإبداعية، تعلي من حيوية البعد التفكيري لدى بلعطار، حيث تفرق بين المكتسب من أفكار ودوره في إنتاج حصيلة جمالية جديدة تمسك خيوط اللغة بتفردها كيلا تعيد ذاتها في القصائد.. يقول درويش “… كل قصيدة تأخذ مجراها وتبني نفسها بطريقة تختلف عن الأخرى”.إذن طبيعة المعجم في بعده التيماتي يضفي هذه الخصوصية اللغوية، ويطبعها بفواعل تسيج الذات الشاعرة في كينونتها، وهويتها الجذرية (الڭص، الڭلال، ڭيادي، زندت، سدا،نڭدة، لبدة، شعابي،ليعتي، شمارك، دهالز،الفڭد، بورزان،وڭيدو، جريدو، التشفاڭ، دافڭة، النفقة، جايرة، معكوف، رزم،الڭرزي، التعيديدة، الصر…)
فقصائد الديوان توفر سياقاتها الذاتية للقراءة بكل توقعاتها اعتمادا على الملامح الإشارية، بعدما تمسي اللغة إطارا ذا حمولة تزيد من وعي الذات بغزارة دلالاتها كما يرى هوسرل E. Husserlف”بدون ذات واعية تعي وتعبر عن معناها في لحظة اللفظ، فلا حياة ولا حيوية في الدال والمدلول ولا في اجتماعهما معا في نظام آلي”
إن الاقتصار على العاطفة كمعطى يخاطب دواخل الذات لايتم بعيدا عن منطق القول الذي يربط الأسباب بالمسببات في تركيبة بنيوية متناسقةلمعمارية القصيدة. لذلك فالتسلسل السببي للباعث الشعري في ظل هذه التركيبة يدفع إلى تفجير تراكمات لاوعي بلعطار حتى يجد وعيه في توليد المعاني، واكتمالها في القصيدة،كما يؤكد ذلك كيليطو، فعلى الشعراء “..الارتقاء بالمعنى إلى درجة عالية من الكمال”
وخليتي شلا دموع
طاحت من عين المعنى
تڭول بردت فديك الضلوع
جمرات المحبة ولمحنة
ولا ڭول تصرفت هم وغبينة
على ڭد ما كتبنا ومحينا
ڭد ما شرب هاد لبحر
وعلى ڭد ما هزت هاد لجبال…
إن الزجل عند بلعطار ــ بنائيا ــ يخضع إلى مقاسات لامتناهية المقاطع، تفرض قابليتها للغناء.. هذه الغنائية ليست مستقلة عن ثوابته الشعرية، فهو إحساس ملازم للمخاض الذي يسبق القصيدة كما عبر عنه مجموعة من الشعراء إليوت، وبول فاليري وشيلر، والسياب، ونزار قباني حين قال ” القصيدة تبدأ عندي بهذيان موسيقي.. ثم تأتي اللغة لتنظيم هذا الهذيان داخل زجاجة المفردات”
إذن فالجانب الجمالي يحتوي نسقا داخليا متناغما نتوخى كشف مكوناته من خلال حركية اللغة في تموجاتها الخطية والتصاعدية وفق إيقاعات تركيبية وصرفية وانزياحية تطبع شعرية القصيدة..
ملي الليف
يولي سيف
يخلي الڭبضة
ويروم اصباعك
من جهة لمضى
يسيح مداد كثير
وطعناتو في القلب
يداويها سنتير…
هذا التناغم يفي بمقاماته الشعرية رغم صعوبة خرق اللغة المحكية إلى الأسلوب الشعري باعتباره كما يرى ابن خلدون “صورة ذهنية مجردة” فلا نمسك منها إلا تجلياتها المادية لأن المتخيل الشعري ينحو دائما حسب برثيون ” .. لأن يصبح واقعيا، أي أنه ينبثق مما هو كائن لكنه مجهول”.. وهذا سر مستوطنات الذات بكل امتداداتها الوجودية والاجتماعية والواقعية والثقافية وغيرها..وآفاقها المستقبلية في ظل رؤيته الشمولية ..(حنا طلة.. ولعلو شاهد، ڭول بالجوارح.. ڭول بالروح….)أي أن بلعطار ينتقي الصيغ التي تؤثث كيان القصيدة الداخلي في علاقته باللغة وتشعب خيالاتها بالذاكرة. إذن فثراء “العشق” واستعداده للإنجاب المتعدد،نلمسه في وظائف شعرية المحكي من خلال التكرار الذييشكل قاموسا خاصا لكثرة تداوله في الديوان، إذ يحيل على تركيبة معجمية تستسهل تدفق مادتها،لتجعلنا نمسك الوعي الماثل للتخييل في جماليته، كما يقول بودلير “الجميل غريب دائما” .. لذلك فإن تجربة بلعطار لا تدرك مقالة بل يجب أن تعايش حتى نصل أعماقها بما نتمثله من دراية للشعر، فهيمنة الأنا الشاعرة(ما يعاندني،تجيني، حلامي، لاغيتك، جروحي، ضلوعي، دموعي) سيف ذو حدين: من جانب ترجمة المخاض الذي يستشعره لحظتها.. ومن جانب آخر كيفية تفجيره كما يقول الخطيبي “إن الذات تنتزع لنفسها هذا الخارج/ الكتابة الذي يؤسسها ويفسّخها”..أي تكرار للقيمة المعرفية الرمزية المسبقة بما يحتمل إثارةمعانيه( برية ورقاص، محراب العشق، وجع اللامة، طيور الحال، حروف العشق، شوك المعنى..) عن طريق التداعي بكل أشكاله حين يهجم هذا الضمير ليس في نرجسيته، بل في قوة إيمانه بموقفه…..
صباح الخير عليك
ڭد سلمتي ڭد عفرتي
راني نعرفك من لون ترابي
راني نعرفك من ريحة شعابي
نبايعك بالجهر
نبايعك ف الخاطر
إذن فهو يتجاوز محور ذاته كحتمية نسقية في أبعادها الدلالية إلى أغلب الضمائر(تڭولي، عقلتي،ڭالها، لڭات،يلعبو، يعشقو،ڭول،ڭلت، يعاود،يڭد، يهجج، عرفتي، يجينا، ليالينا، نكونو، غيارنا، لينا، جرحنا، تلاقينا) ما يستفز القارئ من حيث الإحالات التي تتغير بتغير مواقعها داخل القصائد في حركية بنائية ما بين ذاته العادية والذات الشاعرة، للكشف عن “غيابات جوهرية” بتعبير كولير، تساهم فيها بنى أخرى نسقية يوالف التكرار بينها كظاهرة تعبيرية،يقول إيرديل جينكينز “عندما تنجز تعبيرا فإن هذا التعبير لا يعود على نفسه فحسب، بل يعود كذلك على جوانب العملية الجمالية كافة.. هي تدعم الموضوع الذي انبعث منه وتوضحه” هذا الامتداد هو ما نلمسه عندما لا نميز ما النسق والدلالة والإيقاع، أي أن هناك تماهيا حرا يمس شعورنا بغنائيته،حتى أمست قصائد الديوان كل منها تنبي على نظام المقاطع، كوحدات كبرى مستقلة بذاتها، متماسكة في موضوعاتها من خلال أنساق علاماتية تامة تثير انتباه المتلقي بأثر تكرار أصواتها، وتماديها في الصيغ الصرفية التوالدية ( تجيني جيتك.. النظر ناظر..حوالك حالو.. الندى مندي..وذن توذينة.. تخبل تخبال، الحي لحيا لحية.. فات الفوت.. الغامقين غمقوا…) دون أن ننسى الدور الذي تلعبه “اللازمة” في ظل هذه الغنائية، ليس بشكلها المتواتر المألوف، بل بتنوعها داخل القصيدة الواحدة:(صباح الخير..كان عليك تجيني..صباح الخير.. / ونسالك.. إيه .. عقلتي .. جاب الله.. يا الله ڭول … يمكن… فتية ڭال تمة…) هي منطلقات بديهية البناء التخييلي العام الذي يسري مفعوله حسب طبيعة المواضيع التي يتناولها الديوان (لبلاد، الناس، الزجل، غيوانية الأشخاص، المأثور…)
هذا التشكّل ينسحب أيضا على متنافر جدليةً للأضداد (عسل، قطران /فك، ڭياد /سلمت، عفرتي /رزية، صلاح /خطية، رباح /الحدجة، التفاح /سيبة وسراح،تكتيفةڭياد /الفرح، الجرح / شلا، قل..) كي يعلن عن توازيات خفية تجسد مكنونات العشق بمختلف تجلياته..ولانستطيع معها فك الأنا الشعرية عن هوية انفتاحها على العوالم التي تتأسس عليها رؤيته..
وينسحب أيضا على مجموعة من الدوال التي تهيء لهذه الرؤية الذاتية في المنطوق الشعري، عن طريق ازدواجية الائتلاف، ما يجعل الاختلاف ذا طبيعة صورية لا تؤثر في الدلالة، بل تساهم هي الأخرى في هذه الغنائية من خلال تجانسها الإيجابي (خبالي هبالي، هلال ڭلال، احلامي كلامي، سدا ندا، مراحي مزاحي، حالو طالو مالو، طلي ظلي، وحيدة محيدة، ماغناش ماهياش) فهذا النسيج حسب جابر عصفور هو “نسيج من تآلف الأصوات وتجانسها وتساهم في البعد التركيبي والدلالي حسب صياغات اللغة…” أي هو تجاوب ذو نظرة، ينفلت منها الإحساس بالشعر، كما هو الإحساس بالهوية والانتماء (عشق الوطن، عشق الناس..) لنتأمل
1ــ يڭد يجي مهل..
يڭد يجي غلة
يڭد يجي غل..
يڭد يجي شلا
يڭد يجي قل..
2ــ مال حوالك حالو..
مال عطوب كطالو أنا غير
ومال صباحك مالو
3ــ .. حلمتك ف ليل دافي
وطيت ع لعوافي حافي
أنا غير
عشقتك وصافي
يبقى الانزياح بكل ميكانيزماته،سيادتُهُ لا تعترف إلا بإطلاقيته في اختراق جميع الأنساق السابقة حتى بدا التصوير الشعري بتمظهراتها..مختزلا كل الدلالات الملموسة والعالقة التي تكتسبها، أو تنفتح عليها كما يرى فرويد،والتي من شأنها أنه تستسهل هذه الأنساق أمام النسق الدلالي المتعدد للعشق..فهذا الخرق قد يستدعي حسب أرسطو” الوقوف عند معرفة البعد الجمالي.. للشاعر وطبيعة ثقافة المجتمع في تحققها”، أي السياقات التي يعمل القارئ على تفكيكها من خلال منطق اللغة الجديد كما يرى كوهن بأن” للاستراتيجية الشعرية هدفا واحدا هو استبدال المعنى” إذن تصبح الصورة الشعرية بؤرة بؤر ما يتناوله بلعطار من مواضيع قادرةً قصائدُهُ على مباغتة المتلقي وإبهاره من حيث تعديها الجمل الشعرية إلى المقطع حتى تمتثل لعناصرمتخيلها بل المدهش أنها تغزو مقاطع قصائد الديوان كلها..
1ــ وهكاك ولاغيتك
لاغيتك بهبال روحي
لاغيتك بقوافي جروحي
بجمرة مزندة ضلوعي
لاغيتك برماد ضلوعي وهرست كيسان الباس
وناديت.. ناديت وما عييت نادي
2ــكان ضوي فتيلة
ذوبت الليل ف كاس
وكانت الحلمة هبيلة
فرقت المحبة مكيلة
3ــ البارح كانت لمعاني عڭابي
وكانت لحروف ركابي
سهلت لوعر
وكانت الحلمة لونها ترابي
نجت الشوك زرابي
والمقصود فجر
إذن فشعرية الديوان بكل مكونات بنائها تتناسل في ما بينها أيقونات تشخيصية، تستمد عناصرها من الذات، والطبيعة، والمجتمع، والثقافة والتراث وغيرها..للتعبير عن الحاضر والغائب في الديوان .. والكشف عن التعالق والتنافر الذي يكرس في حد ذاته تعالقا منسجما يحتاج إلى المخزون الدلالي الثقافي على مستوى التفكيك والقراءة.. بمعنى أنها عند نورثروب فراي “صورة ضمن لائحة طويلة من الصور الجديرة بتأويل نص شعري”.