الإدارة التربوية الجديدة.. بحثا عن الإبداع

تعاني مؤسستنا التعليمية اليوم أكثر من ذي قبل صراع الوجود والهوية أمام مؤسسات اجتماعية وتربوية جديدة، وبدأت تفقد شيئا فشيئا مكانتها ورمزيتها بل أصبحت تعاني الرفض والإهمال حتى من قبل منتسبيها، وفي نظر منتقديها مدرستنا لا تساير الواقع الاجتماعي الجديد ولا تحفز على الأداء الجيد ولا تحمل الآمال العريضة التي يسعى مجتمعنا إلى بلوغها،حيث ان متطلبات سوق العمل وحياتنا اليوم بما فيها من تقدم علمي وتكنولوجي فائق النوعية تفرض على النظام التربوي رفع التحدي وتحقيق الجودة التعليمية، في حين أن القيم والمعايير التي تلقنها للناشئة متخلفة عن القيم والمعايير الحديثة التي أصبحت تسيطر على المجتمع الجديد، فلم تعد مدرستنا مؤسسة للتنشئة الاجتماعية ولكن مؤسسة للإحباط تزرع الفشل واليأس والإعاقة الاجتماعية والنفسية، برامجها ومناهجها وطرق تدريسها وأساليب تسييرها عقيمة ومتقادمة، وفاعلوها التربويون في حاجة إلى تحفيز وتكوين وتأهيل وتجديد في المعارف والخبرات، فطالتها الاتهامات والانتقادات من كل فج عميق، وكثر النقد والانتقاد فضلت طرقها وتاهت في العشوائية والتقليد الأعمى، حتى جاءت مشاريع تربوية عديدة لإصلاح المنظومة التربوية لإنقاذها من السكتة المميتة وبخاصة مشاريع مثل الميثاق الوطني للتربية والتكوين، والرؤية الاستراتيجية للإصلاح(2015-2030)،ومشروع قانون الإطار 17-51، وهي كلها مشاريع تربوية بنيت وفق رؤية حداثية تتوخى تأصيل ثقافة الجودة والمساواة وتكافؤ الفرص والتخليق وربط التغيير بالمتعلم الذي هو عصب التنمية المستديمة والمندمجة، لكن بعد مرور أكثر من عقدين على بداية انطلاق أولى هذه المشاريع لا يزال المهتمون والمتابعون لقضايا التربية يقرون بعدم نجاعة هذه الاصلاحات والفشل في تحقيق الهدف الاسمى المتمثل في الارتقاء بالفرد وتقدم المجتمع والسير في طريق مغاير لمسيرة المدرسة المغربية وجعلها تبتعد عن مقومات مجتمعنا وخصوصياته الثقافية والحضارية بحجة الانفتاح على العالم ومسايرة العصر رغم أن الغاية من كل إصلاح تربوي هي حدوث تغيير إيجابي وتطور في مستوى الأداء المدرسي وقيمة المعارف والمهارات المبرمجة للتعلم وفي أساليب التسيير والتنظيم.
كان اهتمام المشاريع الإصلاحية قائما حول موضوع الجودة في التربية بصفتها المدخل الأنسب لتحديث هذه المنظومة خاصة وأن التغيرات المتوقعة في عصر العولمة تتطلب تغيرات في فلسفة التربية وسياساتها ومناهجها وأساليبها التربوية كما أن الوعي بالدور الخطير الذي تلعبه التربية في عصر الثورة الإعلامية يزيد من قناعة التربويين وغيرهم بأن التربية هي المشكلة وهي الحل في نفس الآن !!! ولا سبيل لها غير تبني الجودة، والجودة (هي تنمية القدرات الإبداعية وتحقيق التنمية البشرية، وهي حصيلة
ومجهود كل الفاعلين التربويين لأجل إنتاج خدمات تربوية جيدة لزبنائها وروادها – المتعلمون-) عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة(يونيسكو).
إن جوهر وغاية هذه المشاريع هو إرساء مدرسة جديدة مفتوحة أمام الجميع تتوخى تأهيل الرأسمال البشري مستندة إلى الجودة في التدبير والتسيير فهل يمكن القول إن مدرستنا نجحت في تحقيق جودة مخرجاتها التي تتمثل في متعلمين مؤهلين يمتلكون مهارات في شتى المجالات وقادرين على المنافسة والحصول على الفرص التعليمية والوظيفية؟ وهل يمكن القول إن ادارتنا التربوية تفوقت على عجزها
وبيروقراطيتها وأصبحت إدارة تربوية جيدة وحداثية ذات تدبير ناجع وتتلاءم باستمرار مع مستجدات العصر ومستلزمات الاصلاح المتواصل؟
إذا كانت كل المقاربات التي تم تبنيها في كل مرحلة من مراحل “الإصلاح” السابقة لم تبدع في برامجها ومناهجها وطرق تدريسها وممارساتها الإدارية التربوية، فلأنها اكتفت باستنساخ التجارب التربوية الأجنبية، واعتنت بالشهادة لا بالكفاية، وارتبطت بالكم لا بالكيف، وأهملت حقوق موظفيها، وأخفقت في إعداد قيادات إدارية تربوية قادرة على تحقيق التغيير المنشود، وفشلت في تحقيق مبدأ تكافؤ الفرص التعليمية وبقيت حبيسة تعدد مسارات التعليم وازدواجية تربوية في تعليم النخبة وتعليم العامة …
لكن هذه الوضعية المتأزمة لنظامنا التعليمي لا يمكن أن تتحمل وزرها المدرسة بمفردها لأن العملية التعلمية عملية تشاركية بين عدة أطراف وشركاء وما المدرسة إلا المحور الفعال في العملية، وهنا حق لنا أن نتساءل أين دور المجتمع في ترقية المدرسة والرقي بأدائها ؟ وهل يصنف مجتمعنا التربية حاجة ملحة من حاجاته؟ وهل التأم كل فئات المجتمع وشرائحه في صفوف متراصة للمطالبة بتعليم ذي نوعية جديدة لفلذات أكبادهم؟ ثم لماذا فقط التربية– بكل أصنافها- في مهب الريح وواجهة الإعصار دون غيرها من القطاعات؟
لأجل إرساء مدرسة جديدة مفتوحة أمام الجميع، ولأجل إكساب المتعلم المهارات والكفايات اللازمة التي تمكنه من الانفتاح، ولأجل الرفع من نجاعة أداء الفاعلين التربويين، ولأجل حكامة تقوم على روح التغيير والتجديد والملاءمة المستمرة مع مستجدات العصر ومستلزمات الإصلاح، لابد من إعطاء الأولوية للدور الوظيفي للإدارة التربوية ضمن ورشات الإصلاح الإداري بالوظيفة العمومية والوظيفية التعليمية مع الارتقاء بمهام الإدارة التربوية والرفع من أدائها في شقيها القانوني التنظيمي والتربوي المعرفي.

1 – الإدارة التربوية معبر للإصلاح التعليمي

كان جان جاك روسو يرى أن أي إصلاح للمجتمع ولمؤسساته الاجتماعية ينبغي أن ينطلق من إصلاح نظام التربية، فالعالم الجديد الذي نود بناءه هو في حاجة إلى إنسان جديد ولاشك أن المدرسة هي السبيل لإنتاج هذا الإنسان الجديد ليكون وسيلة للتطور والتغيير، وجاءت حكمة مأثورة عن(ايرازميس) المربي الذي عاش في القرن السادس عشر الذي قال(سلمني إدارة التربية ردحا من الزمن أتعهد لك أن أقلب وجه العالم بأسره).
الإدارة بشكل عام هي اتجاه مخطط يهدف إلى حل المشكلات الموجودة في كل نشاط فردي أو اجتماعي،
و(تتعلق بإنجاز العمل وبلوغ الأهداف المحددة) كما يرى- لوثر جوليك-وبعبارة أخرى هي(مجموعة من العمليات والإجراءات والمسائل المصممة وفق تنظيم معين وتنسيق وانسجام بين عناصر العملية التربوية للاتجاه بالطاقات والإمكانات البشرية والمادية نحو أهداف موضوعية وتعمل على تحقيقها في اطار النظام التربوي الشامل وعلاقته بالمجتمع) –جرادات عزت –
بناء على ما سبق، تعد الإدارة من أهم النشاطات الإنسانية، فهي تساعد الإنسان للتغلب على الصعوبات وتحقيق الغايات، والإدارة التربوية واحدة من أهم فروع الإدارة وهي عملية منظمة تهدف الى الاستخدام الامثل للطاقات البشرية والمادية من اجل تحقيق اهداف المجتمع التربوية،وعليها يتوقف نمط اداء المؤسسة التربوية والتعليمية ومدى كفايته. يرى الدكتور محمد احمد الغنام ان(اعطاء الاولوية في برامج تطوير النظم التربوية في البلدان العربية للتجديد أو التحديث الاداري مطلب لا توصي به دروس الماضي فحسب وإنما توجبه كذلك ما تعانيه هذه النظم من إوضاع إدارية صعبة تصل به إلى حد “الأزمة” وهذه الأزمة تعبر عن نفسها في ثلاثة أبعاد متصلة هي:
قصور الإدارات التعليمية سلفا عن مواكبة التطورات الحاصلة في التعليم واتجاهات سياسته خلال السنوات الأخيرة.
بعد هذه الإدارات عن مجرى التطور في علوم الإدارة والتكنولوجيا الإدارية الجديدة وعدم إفادتها من نتائج هذه العلوم وأدوات هذه التكنولوجيات في تطوير نفسها أو التغلب على مشكلاتها.
عجز هذه الإدارات بطبيعتها – أي بشكلها ومحتواها وأساليبها وأدواتها الراهنة- عن فتح الطريق أو التمهيد للتطورات التعليمية المنتظرة والمطلوبة خلال السنوات القادمة.
هذه الإشكالات المزمنة التي تعاني منها الإدارة التربوية وطرق تحديثها وتنظيمها ومعرفة موقعها الصحيح في الإطار العام الشامل للعملية التعليمية تدفعنا إلى التساؤل والتحري عن قيام الوزارات الوصية أو مشاريع الإصلاح السالفة والحالية أو عدم قيامها بتشخيص دقيق لحالة الإدارة التعليمية ولمقدراتها الخاصة لإصلاح النظام المدرسي بالمغرب؟ وما السبب الحقيقي وراء الأزمة التي تعيشها ثقافتنا الإدارية وما سبب إحساس الأطر الإدارية التربوية بالهزيمة الذاتية أمام هذا السباق التكنولوجي الإداري الجديد؟ هل التقارير والبحوث والدراسات حول إصلاح الإدارة التربوية والتي عرضت على اللجن العلمية لامست الإصلاح الحقيقي؟ أم يعوزها التطبيق العلمي؟ أو أنها أقل صلة بالممارسات العملية؟ ما موقع الإدارة المدرسية في المدرسة المغربية من كل مشاريع الإصلاح وسياسات تطوير كفايات الموارد البشرية على ضوء ما ورد في هذه المشاريع الإصلاحية؟ ما هي مواصفات وسمات الادارة التربوية الناجحة؟ وهل تأخذ منظومتنا التربوية تلك المواصفات العالمية عن الادارة التربوية المحققة للتغيير والتطوير والتنظيم؟
في واقع حياتنا التربوية نعاين انماطا عديدة من الادارة تسودها التراتبية في التسيير وأخذ القرار والسلطة، وهي تراتبية تبنى من الأعلى إلى الأدنى
وينعدم فيها النقد والنقاش والحوار ولا يسود فيها إلا الامر والقرار والالزام والثواب والعقاب، وهذا ما يساهم في تأخر المدرسة عن مسايرة التطور والتغيير ومواكبة الاصلاح حتى تكون فعالة في المجتمع.انه نوع من العنف الرمزي تمارسه المدرسة على روادها وساكنتها و منتسبيها.
إدارتنا يقابلها مفهوم السلطة والصرامة وفرض الالتزام بمختلف التعليمات والقوانين وهي أشبه بآلة صماء تعمل دون هوادة لكنها تفتقد إلى الروح والحيوية.. إنها البيروقراطية في أسوأ معانيها.
والبيروقراطية الادارية تسلب الافراد قدرتهم على التفكير المنطقي، لأنها تعتمد على المركزية المطلقة، فيشعر العاملون في ظلها أن مواهبهم وقدراتهم مكبوتة فيملون من الروتين ومن الانانية، ولا يتحملون المسؤولية، فضلا عن ان السلطة متمركزة في ايديهم وهم قلة مما يقلل من الانتاجية. واشار كروزير الى ان الذين تتمركز السلطة في ايديهم تتمركز فيها كذلك المعلومات التي يحتفظون بها لأنفسهم ولا يمررونها لمساعديهم مما يعيق تنفيذ اي عملية انتاجية.
البيروقراطية هي سبب في استمرار الضعف في الكفاءة والقدرة الذي يسود لدى عدد غير قليل من اطرنا الادارية في المؤسسات التعليمية وهو ما لا يساعد المدرسين او يوجههم نحو تحسين عملية التعليم والتعلم بكل ابعادها منهجا ومنهاجا وطريقة واسلوبا وسلوكا اوقيادة المدرسين الى تطويرها.
وتسبب السلطة البيروقراطية للإدارة المدرسية الى جعل المدرس يبدع في ابطال مفعولها بالاحتجاج والرفض وكهربة الاوضاع والعلاقات التربوية والاجتماعية عوض الابداع والامتاع في مهنته وانتاجه، كما قد تجعل البيروقراطية الادارية المدرس اقل قبولا لمهنته واقل انتماء لها واكثر استعداد لاستبدالها.
ولذا ارتأى بعض الباحثين التمييز بين مفهومي الادارة والقيادة بل نحتوا منه مصطلحا جديدا وهو القيادة الادارية(وهي نوع متخصص من انواع القيادة تستهدف كافة الاساليب الادارية التي تؤثر في سلوك الافراد بما يكفل تحقيق الهدف، ويتطلب ذلك من المدير الاداري التربوي ان يكون بارعا في القيادة ) حيث يجب عليه ان يبتكر ويخطط وينظم ليستطيع ان يحقق الاهداف المرجوة.
اما الاداري الذي لا يقود مجتمعه التربوي، فيحافظ على الوضع الراهن ولا يسعى لتغييره لأنه يتصور دوما انه جهاز تنفيذي ملزم بتفعيل مختلف التعليمات دون ان يضفي عليها صبغته الخاصة بالمؤسسة التي يشرف عليها،عكس القائد التربوي الذي يسعى الى التغيير والتطوير والتنظيم.
ويرى المتخصصون في الادارة والادارة التربوية ان نجاح اي مؤسسة تعليمية لا يجب ان يقتصرعلى تسيير الشؤون الادارية فحسب وانما عليها الاضطلاع بمهام اعظم تتمثل في التخطيط والتنظيم والتنسيق والرقابة والتقويم….وتؤدى هذه الوظائف من خلال التأثير في سلوك المدرسين والطاقم الاداري المساعد وكل العاملين في المجتمع المدرسي لتحقيق اهداف مدرسية بجودة عالية وفاعلية واعية وباقل جهد وتكلفة.
لذا فالإدارة التربوية هي المعبر الحقيقي للإصلاح التعليمي، وهي في نفس مستوى اصلاح المناهج والبرامج الدراسية او تكوين المكونين.. لان جهاز الادارة هو المصفاة الكبرى التي تقوم بعمليات تقطيع وتنظيم انتقال المعلومات والمقررات التربوية من الاعلى الى الادنى ضمن اطرمحددة تمر عبر سلسلة من المستويات الادارية، وبشكل ادق هي ” الكيفية التي يدار بها التعليم في دولة ما وفقا لأيديولوجية المجتمع والاتجاهات الفكرية والتربوية السائدة فيه حتى تتحقق الاهداف المرجوة منه نتيجة تنفيذ السياسة المرسومة له ” – محمد فاوبار

2 – السمات المميزة للإدارة التربوية الجيدة

شهدت السنوات الاخيرة تطورات كبيرة واتجاهات حديثة في الادارة التربوية وتغيرت اهدافها واتسعت مجالاتها ولم تعد مجرد عملية روتينية بسيطة لتسيير شؤون المدرسة تسييرا رتيبا وفق قواعد ثابتة وتعليمات محددة بل اصبحت عملية انسانية تعاونية شاملة تهدف الى توفير الظروف والامكانات التي تساعد على تحقيق الاهداف التربوية والاجتماعية،كما لم يعد مجالها حصرا هو استخراج جداول الحصص وحصر لوائح التلاميذ و ضبط غيابهم وتدبير شؤون المراسلات والمكاتبات وغيرها…بل اتسع مجالها ليشمل الاهتمام والعناية التربوية والاجتماعية والنفسية بالمتعلمين والمدرسين والاعوان واطر الدعم الاداري، والاخذ بمبدأ المشاركة في مختلف جوانب العمل التربوي، والاهتمام بالتقنيات التربوية والادارية الحديثة، واستخدام نتائج الدراسات الحديثة في تنظيم العمل واساليبه وكذا المناهج وطرق التدريس وتمويل الانشطة التربوية والتخطيط لها وتنظيم العلاقة بين المدرسة والمجتمع المحلي، وكل اوجه النشاط المدرسي..
اننا اليوم في العقد الثالث من القرن الواحد والعشرين حيث نعيش في اقتصاديات غير ملموسة،اقتصاد المعلوميات التي تعتمد على السرعة والخيال والمرونة والابتكار والابداع مما يستلزم الاستفادة من الخبرة والتعلم لذلك لم يعد بالإمكان الاعتماد على المركزية والتسلسل الاداري الهرمي الذي تفرضه البيروقراطية الادارية، لأن الاقتصاديات الحديثة هي ببساطة اقتصاديات الانتقال السريع للمعلومات.والابداع الاداري يدعم قوة اي نظام تربوي حديث ويميزها عن باقي المنظومات الاخرى.اما الادارة التقليدية فإنها تحول الافراد العاملين الى بيروقراطيين تسلبهم قدرتهم على الابداع وعلى التفكير، وهو ما لا يتماشى مع معطيات هذا العصر، ولكن مع ذلك علينا ملاحظة ان الكثير من الاعمال الروتينية في اي ادارة ستظل دائما موجودة مما يسمح للبيروقراطية ان تأخذ مجراها.
فماهي مواصفات الادارة المبدعة؟ وما الذي يفصل بين المدير المبدع والمدير العادي؟ وماهي السمات الشخصية لمدير المدرسة المبدع؟

3 – الرأسمال الابداعي للإدارة المدرسية

لا يمكن ان نتصور نجاح منظومة تربوية تقوم بإصلاحات وتعديلات فقط في الجانب التربوي بينما تظل ادارتها مجمدة في مهام محدودة كالتسيير البيروقراطي والمكتبي اوالاهتمام بالجداول والارقام والاحصائيات التي لا تفعل ولا تحلل بيداغوجيا ومن تم لا تعود بأية فائدة تذكر لصالح المتعلمين ولا تسهم اطلاقا في تحقيق الغايات الكبرى للتربية.
ان تبني اسلوب الادارة الحديثة والقيادة التشاركية للمهام التربوية يوسع من افاق هذه المشاركة الجماعية ويقلص من الانحراف، ويرفع من الاداء والمردودية وحس المسؤولية لدى الفاعلين، ويتيح حرية الاجتهاد والابداع من اجل انجاز مشاريع وبرامج كحل امثل للمشاكل التي تعترض التنظيمات الادارية
فماالذي يفصل بين المدير المتميز والمدير العادي؟
كتب الكثير عن صفات المديرين والقادة وفيما ان كان هناك فارق بينهم، لكن القليلين من هذه الكتابات هي التي تناولت ما يحدث من تفاعلات وقرارات تتيح للمديرين ان يحصلوا على افضل ما لذى موظفيهم وان يحظوا بإخلاصهم. فكيف يتصرف المديرون المتميزون بالفعل؟
قامت مؤسسة “غالوب” Gallup Organisation في احدى دراساتها المعمقة بمسح لما يفوق من الف مدير ومديرة من كل القطاعات والمجالات الادارية، وتوصلت الى نتيجة وهي انه طالما ان هناك انماطا عديدة من الادارة فان هناك انماطا من المديرين وان هناك خاصية واحدة تفصل بين المديرين المبدعين عن بقية المديرين، وهي انهم يكتشفون ما يتفرد به كل من موظفيهم ومن تم يفيدون من تلك الخاصية الفريدة في ادارة ذلك الشخص. والمديرون العاديون لا يتعدون كونهم اشبه بلاعبي”ضاما” بينما يشبه المديرون المتميزون لاعبي الشطرنج، والفارق هنا هو ان احجار “ضاما”تكون متماثلة، وتتحرك بالطريقة نفسها ويمكن تعديل اي واحدة بأخرى وان كانت تحتاج الى تخطيط، لكنها تتحرك بالطريقة نفسها وبالتوازي. اما في لعبة الشطرنج فان كل حجر يتحرك بطريقة مختلفة، ولن تستطيع اللعب ان لم تعرف وجهة كل حجر وهنا يتأتى دور المدير المبدع البارع الذي يمسك خيوط اللعبة بمهارة فائقة ويحرك حجراته(موظفيه)على النحو الذي يحقق افضل النتائج.(عن ماركوس بكنغهام – ترجمة حسام حسني).
من خلال هذه المقاربة الطريفة يمكن استجلاء بعض سمات ومواصفات المدير المبدع ومنها قدرته على معرفة نقط القوة في الموظف ونقط ضعفه حتى يستحدث خطة للتغلب على نقاط الضعف، ولقد اظهر العالم النفسي البرت بانديورا الاب الروحي لنظرية التعلم الاجتماعي ان (الثقة بالنفس) وليس (معرفة الذات) هي المؤشر الاقوى للشخص لان يضع اهدافه التي يرنو اليها وان يصمد في وجه العقبات وان يقوم في النهاية بتحقيق الاهداف التي وضعها.
القائد المبدع هو الذي يعلم ويثمن القدرات الفردية حتى ولو كانت غريبة لموظفيه، ويعرف جيدا كيف يعمل على دمجهم في خطة هجوم متكاملة مع بقية زملائهم.
القائد او المدير المبدع يكون عليما بالمهارات المختلفة التي يتطلبها كل دور:
يعمل على تحويل الموهبة الخاصة لدى شخص ما الى انجاز.
يقبل الفروق الموجودة لدى موظفيه، ويوظف تلك الفروق بصورة ايجابية لصالح مهمة من المهمات الادارية والتربوية.
يكون عليما بالمهارات المختلفة التي يمتلكها طاقمه الاداري وحتى التربوي ويستفيد منها الى اقصى حد ممكن من قبيل:
اولا – عبر تحديد ما لدى الشخص من قدرات فريدة لان الافادة منها توفير الوقت والجهد .
ثانيا- ان الافادة من الخصائص الفريدة للشخص تجعله اكثر مسؤولية.
ثالثا- ان الافادة من خصائص الاشخاص الفريدة تنمي الشعور بروح الفريق وتعمل على ايجاد اعتماد متبادل بين زملاء العمل كما انها تساعد على تقدير المستخدمين لقدرات بعضهم البعض وبث الطمأنينة في نفس كل منهم لمعرفته بان ما ينقصه من مهارات يمكن تعويضه من قبل بعض الزملاء الاخرين. ومجمل القول ان هذا الاعتراف والافادة يساعد على وجود ترابط اقوى بين الاشخاص بسبب حاجة الفريق المتبادلة للنجاح والتميز.
مجمل القول ان الابداع في الادارة يتطلب من المديرين ان يتحلوا بالصبر والاناة في معالجتهم لشؤون موظفيهم وان يبقى في ذهنهم دائما انهم يتباينون قليلا او كثيرا في تفكيرهم وفي تعاملهم مع الآخرين.

4 – السمات الشخصية لمدير المدرسة المبدع:

من المديرين من نجدهم لا يحفزون اساتذتهم اثناء تأديتهم لمهامهم التعليمية، ويكتفون بمتابعة انضباط المدرسين ومواظبتهم، ويحكمون عليهم من خلال معايير لا تحتكم للمؤشرات البيداغوجية، مثال ذلك (الصرامة في الحضور والغياب–الصرامة في مواعيد انجاز الفروض وتصحيحها ومسكها –الصرامة في تدوين دفتر النصوص- التقليل من التواصل التربوي …)غير ان هذا كله لن ينبئ بالأداء التربوي للأستاذ، كما اننا كمديرين لا نبحث كثيرا عن معرفةجيدة بالعلاقات التي تربط المدرسين بمتعلميهم، و لا نقف كثيرا عند طبيعة الطرائق التعليمية التي ينتهجونها مع تلامذتهم لمقاربة التعلمات ومدى اشراكهم لهم في بناء التعلم وفق ما تقتضيه المقاربات التعلمية الحديثة.
حدد الباحث ” جودة عطيوي” مجموعة من السمات الشخصية التي يفترض توفرها في مدير المؤسسة حتى يتسنى له تولي مهام القيادة الادارية على اكمل وجه من بينها:
ان يؤمن بعمله، وان يكون مؤهلا له، وان يؤمن بان المنصب ليس نشدانا للتسلط او رفع الاجر وانما يجب ان يؤمن بدوره في تحقيق الاهداف التربوية وان يكون مؤهلا علميا ومهنيا ليؤدي رسالته التربوية بنجاح.
ان يكون قدوة حسنة في سلوكه العام لان العاملين من نساء ورجال التربية والمتعلمين يتأثرون بسلوك قائدهم التربوي ويحاكونه، فلا يمكن للمدير او رئيس المؤسسة ان يلح على الانضباط والحضور وعدم التأخر ويكون هو اول من يتجاوز هذا النظام الداخلي للمؤسسة.
لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك اذا فعلت عظيم
ان يكون ملما بالقوانين المنظمة لمجال تدبير الشأن التربوي حتى تكون تدخلاته مؤسسة على مرجعية قانونية اذا تعلق الامر بالشؤون الادارية وعلى مرجعية علمية بيداغوجية اذا تعلق الامر بمسائل تربوية محضة.
ان يكون متمكنا من ناصية التواصل مع مختلف الشركاء التربويين وذلك من خلال القدرة على تبليغ الافكار والآراء ومحاججة المخاطبين لان التجربة اثبتت ان الكثير من المدراء يمتلكون الكثير من الافكار التي من شانها ان تطور المؤسسة غير انهم يفشلون في تبليغها فيلجؤون الى اسلوب البيروقراطية ويفرضونها فرضا فلا يتأتى لها النجاح.
ان يكون ملتزما بالدقة والنزاهة والامانة والاخلاص للمهنة لان دوره تربوي وانساني واجتماعي ومهني، فهو يتعامل مع ادارات ومؤسسات وشركاء وجمعيات ومجتمع مدني، ويملك سلطة الامر بالصرف في تنفيذ المشاريع التربوية او تدبير الشأن اليومي فيما يتعلق بحماية وصيانة وشراء التجهيزات والادوات التربوية والرياضية …
ان يكون متسما بالعدل بين جميع الموظفين وان التفاوت بين الموظفين لديه يجب ان يكون بحسب اجتهادهم والتزامهم وان يكون حريصا على خلق جو انساني داخل المؤسسةحتى يتم زرع التشاور والتالف بين افراد المجتمع المدرسي بعيدا عن التسلط والاستفراد بالراي.
ان رأسمالناالابداعي كمديرين ومسؤولين تربويين ليس هو قيادة الافراد والجماعات بقوة السلطة، وانما بقوة التفاعل الايجابي المتبادل بين افراد المجتمع المدرسي وعبر مبادئ استرشادية من قبيل:
أ- مشاركة ومساعدة الموظفين التربويين لتقديم افضل ما لديهم عبر ابقائهم منخرطين ذهنيا وانسانيا وتربويا في عملهم، وابعاد كل ما يمكن ان يشتت انتباههم.وركوب التحدي مع كل افراد الفريق التربوي لأجل تحقيق عمل جيد بعيدا عن المعوقات البيروقراطية، لان البيروقراطية عدو لدود للعمل المتميز والمبدع.
ب- صياغة منظومة ادارية محلية عبر اشراك الفاعلين التربويين المحليين وتحريضهم على العمل والانتاج الابداعي لا بدافع “ارشائهم ” إداريا،ولكن من اجل تقديم منتوج متفوق للرفع من الرأسمال الابداعي للمؤسسة.
ج- ازاحة المعوقات التي تعيق العمل الجماعي امام المدرسين والموظفين والتلاميذ وترسيخ ثقافة المساواة في العمل، حيث لا وجود لحاجز مصطنع بين هذا الموظف او ذاك فالكل مبدع و الكل يحمل رسالة واحدة (نحن جميعا في فريق واحد نكافح لتحقيق الهدف ذاته بالوصول الى منتوج او نتائج متميزة)والجميع يكسب ثقة بعضهم البعض عبر تقديم العمل الايجابي المتميز وليس عبر هرمية السلطة.

وختامه إبداع:

إن الابداع والجودة في الادارة التربوية تعتمد على الاشراف الفعلي للأطر الادارية والمشرفين التربويين والمدرسين والاباء والشركاء في سبيل الأخذ بيد المتعلمين والرفع من مداركهم والانتقال بهم الى العمل بفلسفة التغيير والجودة، وهو ما يعني ان تدبير الشأن التربوي داخل المجموعة يكون بروح ابداعية تشاركية يتحمل الجميع فيها مسؤولية الرفع من مستوى تنشئتنا.

(*) مدير ثانوية


الكاتب : محمد بادرة (*)

  

بتاريخ : 28/07/2022