الإنسية المعدلة أو رغبة الإنسان في تجاوز نفسه وتحويلها عبر التقنية الحديثة !

«هل للإنسان حقاً طبيعة خاصة؟ وإذا كان الأمر كذلك، فهل يحق لنا تغييرها؟ وباسم ماذا يحق لنا القيام بذلك؟ باسم التقدم؟ لكن ما هو هذا التقدم؟ هل حان الآن الوقت لتدمير طبيعتنا الداخلية بعد أن دمرنا الطبيعة الخارجية؟ هل كل شيء قابل للحساب وللخضوع لمنطق المردودية؟ أليس فينا قبس إلهي يقتضي منا احترامه، أم أننا مجرد مادة بخسة كأي مادة أخرى؟ …الخ.
تساؤلات عديدة من بين أخرى مطروحة في عصر اللايقين هذا، عصر تفككت فيها كل المقولات التي شكلت على أرضيتها الحضارة الغربية المادية كل أساطيرها، أساطير نراها الآن وهي تسقط الواحدة تلو الأخرى أمام أعيننا «!
النص المترجم مقتطف من كتاب:
Dominique Folscheid, Anne Lécu, Brice de Malherbe : Le transhumanisme, c’est quoi? Les Éditions de Cerf, 2013.

في أي لحظة سننتقل من الطب العلاجي إلى الطب التحسيني، بل وإلى الطب الذي يرفع من أداء الإنسان؟ هل هناك مخاوف من أن يفضي زرع أعضاء أو آليات تكنولوجية إلى تغيير طبيعة الإنسان نفسها؟ في أي لحظة سيتغير فيها الصراع ضد المعاناة والمرض ليصير صراعا ضد محدودية عمر الإنسان؟ هذه هي التساؤلات الملموسة التي يطرحها التطور الذي يشهده العلم- التكنولوجي technoscience في الوقت الحاضر.
في الجانب الأخر، يخوض تيار فكري الصراع ضد محدودية عمرنا، وهذا التيار هو: الإنسية-المعدلة (1) transhumanisme. لم يكن هذا التيار يهم، خلال 30 سنة الماضية، سوى عدد قليل من الأمريكيين المنتمين إلى حركة الهيبزم ومحبي التكنولوجيا في الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية. تستأثر الإنسية-المعدلة حاليا، وخصوصا أيديولوجيتها، كما عرضها تقرير NBIC سنة 2002 (2)، باهتمام العديد من المستثمرين والباحثين في العالم بأكمله.
لقد كانت غاية التقنية، منذ بداية الإنسان، وخصوصا منها الطبية، تحسين شروط حياته، ووضعه. لكن الجديد مع الإنسية- المعدلة، ليس هو اكتشاف وجود رغبة لدى الإنسان في تجاوز نفسه، بل الجديد هو من جهة تحويل رغبة التجاوز عبر التقنية الحديثة، والأكثر من ذلك هو تحول الآلات المعاصرة (الحواسيب والبشر الآليون) إلى نماذج بالنسبة للإنسان، وذلك بسبب قوة أدائها.
لا يتعلق الأمر فقط بتحسين شروط حياة الإنسان عبر التقنية، بل بتغيير وضعيتها بصفتها تلك، وتغيير طبيعتها، عبر محاولة الرفع من قدرات البشر. لقد سبق وأعلن المختص في البيو- تقنية «انجلهارد»Engelhardt (3) بأنه «لا سبب يدعو إلى إدخال تغيير جذري على هذه الطبيعة (الإنسانية)، بتبني تبريرات واحتياطات جيدة.» عشرون سنة بعد ذلك زايد «راي كيرزفيل» Ray Kurzweil على هذا الأخير حين قال:
«نود أن نصير خالقي المستقبل، تغيير الحياة بالمعنى الصريح للكلمة وليس بالمعنى المجازي، خلق أجناس جديدة، تبني بشر مستنسخين clones، انتقاء أمشاجنا gamètes، نحت أجسامنا وعقولنا، ترويض جيناتنا، افتراس مأدبة متحورة transgéniques، التبرع بخلايانا الجذعية cellules-souches، رؤية الأشعة ما فوق الحمراء، سماع الموجات فوق الصوتية، الشعور بالفيرموناتphéromones، زراعة جيناتنا، استبدال خلايانا العصبية، ممارسة الجنس في الفضاء (…) العيش عشرون سنة أو قرنين. (4)
هل يمكن الذهاب إلى حد اعتبار الإنسية-المعدلة يوطوبياutopie قابلة للتحقيق؟ هل يستحق الأمر الانزعاج من مسألة تهم أقلية من الباحثين؟ هل لهذه النظريات تأثيرات على الممارسة الطبية الاعتيادية وعلى حياة مواطنينا؟ ألا نجازف بنقدنا المبالغ فيه لهذه المستجدات ناسين كيف أتاح الطب المعاصر، عبر التقدم التقني، علاج مرضى، وإنقاذ أرواح كان من الممكن إزهاقها في العقود الأخيرة؟ باختصار ألا يفضي بنا، نقدنا الحاد «للتقدم»، إلى رفض الايجابي والسلبي دون تمييز؟
إن ما يوجد على محك هذه اليوطوبيا هو الوضع الملموس وبالتالي المتناهي للكائن البشري. فهل من الأفضل تحقيقها فعليا؟ تعبر الإنسية-المعدلة في نظر المدافعين عنها عن طفرة وليس يوطوبيا: «إنها بالأحرى طفرة لبنيات من المستوى المادي إلى الافتراضي، وضع الدماغ بشكل معكوس، النفس المستقلة عن الجسد أو وصال دقيق ما بين الخارج والداخل، نهاية الحدود الفاصلة بيننا وبين البيئة المحيطة بنا.» (5) يتعلق الأمر فقط بطفرة تمس الطبيعة الإنسانية. وعليه، فإن التساؤل المطروح هو: هل ستكون لهذه الطفرة نتائج عظمى، على الإنسان، وعلى علاقات البشر في ما بينهم، وعلى البيئة المحيطة؟
لكن، من بمقدوره، وباسم من وبأي حق، تنصيب نفسه حكما على طبيعتنا؟ وانطلاقا من أي معايير يحق له اعتبارها شديدة البؤس بالشكل الذي يتحتم معه التخلي عنها؟ ليس هذا تساؤلا جديدا، لقد سبق وهيمن على غنوصييgnostiques القرون الأولى، وألهم أفلام الخيال العلمي. إنه حابل بمخاطر جمة: خطر إلغاء الشخص الإنساني، إلغاء قيمته المطلقة وخطر ابتكار نوع جديد من المجتمعات الشمولية totalitaires، مقسما بذلك الإنسانية إلى فئات دنيا، وذلك في تعارض صارخ مع مبدأ المساواة في القيمة ما بين البشر. إذا حصل، من جهة أخرى، وتغيرت طبيعتنا، فهل سنظل محتفظين بما يجعل منا بشرا؟ لكن، ما الذي يجعل منا أصلا بشرا؟ وما هي ماهيتنا؟ نرى إذن كيف يمكن أن تقودنا الإنسية- المعدلة إلى تساؤلات جذرية.
بعد سنتين من أعمال البحث والتقصي انطلاقا من موضوعة «الإنسية ، والإنسية- المعدلة، وما بعد- الإنسية، قدمت شعبة الإتيقا البيو- طبية éthique biomédicale التابعة لقطب البحث في كوليج البرناندين في شهر مايو من سنة 2017 ندوة شاملة تحت عنوان: «نقد عقل الإنسية- المعدلة». تمثلت غايتنا الأساسية في التفكير في التساؤل التالي: ماذا يحدث بالضبط؟، ومن ثم تقديم بعض العناصر لتشخيص الوضع.
هذا هو الموضوع الذي نود جعله مدار اهتمام جمهور واسع، وذلك انطلاقا من هذا النص الذي يعيد طرح أهم ما جاءت به مداخلات الندوة، وذلك في ضوء العمل الذي سبقها (6). فبعد وضع الإنسية- المعدلة في سياقها وبيان مبادئها وأسسها الفكرية، سيصير الموقف نقديا، بل ومعارضا قبل التأكيد على ايجابيات التجسيد (أو الحلول) Incarnation.
هوامش:

أفضل ترجمة اللفظ الفرنسي المركب transhumanisme بالإنسية-المعدلة لاعتبار أساسي وهو أن الأمر يتعلق بمحاولة فعلية لتعديل «طبيعة» الانسان عبر مجموعة من التقنيات الطبية المدعومة بما حققته التكنولوجيا المعاصرة من تقدم هائل أضحى معه ممكنا تجاوز بعد مكامن النقص التي تحد من قدرات الإنسان (المترجم).
– لأجل «النانو- تكنولوجيات، البيو- تكنولوجيات، ثم المعلوميات والعلوم المعرفية.»
– T. ENGELHAR jr., the Foundations of Bioethics, New-York, Oxford UniversityPress, 1986, p. 377.
– R. KURZWEIL., The SingularityisNear : WhenhumansTranscendBiology, VickingPress, 2005 (trad. J. –D. VINCENT, “Hypothèses sur l’avenir de l’homme”, De l’humain, nature et artifice, Arles, Actes Sud, 2010, p.47).
– حوار مع «ب. بيندرسن» B. BENDERSON، في المجلة المشار إليها رقم 55، 2013, p. 74.»Aujourd’hui le Post-humain ?»
– لقد تمت ترجمة المداخلات الكاملة في: Éditions du Cerf, Critique de la raison transhumaniste, dans la collection « Patrimoines » en janvier 2018.

(*)باحث، أستاذ مادة الفلسفة، من أعماله ترجمة كتب «رحلة قصيرة في عالم الكوانتا» لإتيان كلاين، «الموضوع الرباعي – ميتافيزيقا الأشياء بعد هيدجر» لغرهام هرمان، و»من الكينونة إلى الصيرورة» لإليا برجوجين


الكاتب : كمال الكوطي (*)

  

بتاريخ : 23/02/2024