البروفيسور جعفر هيكل لـ «الاتحاد الاشتراكي»: تدبير الموارد البشرية بعقلانية وإعمال الحكامة كفيلان بإيجاد حلول للمنظومة الصحية

المساهم الأول في الصحة هو المواطن والأسر وليس الدولة أو الصناديق الاجتماعية

 

تعرّف منظمة الصحة العالمية الصحة بكونها حالة من اكتمال السلامة بدنيا وعقليا واجتماعيا لا مجرد انعدام المرض أو العجز. حقّ أولاه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والعهد الدولي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أهمية بالغة، وهو ما أكدت عليه حقوق الألف الإنمائية ثم أهداف التنمية المستدامة، وعلى نفس المنوال سارت دساتير المملكة آخرها دستور 2011 في الفصل 31، ولتحقيق هذه الغاية ومن أجل محاولة إيجاد حلول للفجوات المتعددة التي تؤدي إلى استمرار التمييز في الولوج إلى الخدمات الصحية وعدم تحقيق المساواة وتغييب التكافؤ و»الإجهاز» على العدالة الصحية بين مختلف الفئات والشرائح، جاء ورش الحماية الاجتماعية بركائزه الأربعة وضمنها المحور الخاص بتعميم التغطية الصحية لتشمل 22 مليون مغربي ومغربية.
الورش الذي يعيد مفهوم الدولة الاجتماعية إلى المشهد السياسي والاجتماعي قد يصطدم تنزيله بعدد من الإكراهات، التي وجب الاهتمام بتفاصيلها ومعالجتها، حتى يمكن تلافي تكرار تجارب سابقة مع القانون 65.00 ونظام المساعدة الطبية راميد، هذا الأخير الذي قدّم أشياء كثيرة لخدمة الصحة العامة ولتمكين فئات مهمة من المغاربة من الولوج إلى الصحة لكنه اندحر أمام حجم الطلب المرتفع وعدم ضمان الموارد المالية الكافية لكي يواصل مهمته على أكمل وجه. وينضاف إلى ذلك تحديات أخرى كما هو الشأن بالنسبة للموارد البشرية، والبنيات، والترسانة التشريعية التي عرفت تغييرات مع القانون 09.21 الخاص بالحماية الاجتماعية والقانونين 30.21 و 31.21 بشان استفادة المستقلين من التغطية الصحية، فضلا عن القانون 33.21 المعدل للقانون 130.13.
خطوات متعددة، بعضها يمضي بثبات والبعض الآخر يعرف التعثر، كما هو الشأن بالنسبة لتعطيل الشراكة بين القطاعين العام والخاص وعدم ولوج المواطنين كافة لتغطية صحية منصفة، ووضع شروط تعجيزية أمام أطباء القطاع الخاص للاستفادة من الحماية الاجتماعية، وعدم مراجعة التعريفة المرجعية الوطنية منذ توقيعها في 2006، وهو ما جعل «الاتحاد الاشتراكي» تلتقي البروفيسور جعفر هيكل، الخبير في اقتصاد الصحة والمتمرس في الشأن الصحي، بالنظر لتراكماته المتعددة في هذا الباب، سواء على مستوى الأوبئة أو الصحة العامة والتغذية وغيرهما، الذي فتحنا معه عددا من الأقواس ذات الصلة بإعادة بناء منظومة صحية متكاملة تتأسس على الحكامة وتتميز بالجودة لكي تحقق العدالة بين مختلف فئات وشرائح المجتمع وعلى امتداد جغرافية المملكة.

 

o ينتظر الجميع، تفعيلا للورش الملكي للحماية الاجتماعية، بناء منظومة صحية تقطع مع أعطاب الماضي. فما هي أبرز خاصية ترون بأنه يجب أن تتوفر فيها؟

n إن التوجيهات التي قدّمها جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده من أجل إعادة النظر في المنظومة الصحية في مناسبات عديدة خاصة منذ 2018 إلى اليوم، تتطلب تقديم أجوبة حول أسئلة جوهرية ترتبط بطبيعة النظام الصحي الذي نريده اليوم، أي أية منظومة نحن في حاجة إليها وبأي شكل، ولأي نوع من الاحتياجات الصحية التي يجب تلبيتها في كل جهة من جهات المملكة وليس في بعضها، بما يضمن العدالة وليس فقط المساواة، أي أن تتوفر نفس الحظوظ أمام كافة المواطنين والمواطنات لولوج الخدمات الصحية بجودة عالية على قدم المساواة، وهذا مبدأ أساسي وخاصية محورية لا يمكن التراجع عنها أو إغفالها.

o ما هي الخطوات التي من شأنها تحقيق ذلك؟

n لقد بيّنت أزمة جائحة كوفيد 19 وبشكل واضح كيف أن العرض الصحي المتوفر لا يمكنه أن يؤدي الخدمات المطلوبة منه على أكمل وجه، لهذا يجب تفعيل شراكة فعلية وحقيقية بين القطاعين العام والخاص، بما يستجيب للمتطلبات الصحية للمواطنين، تهمّ كل المستويات والبنيات التحتية القائمة، سواء تعلّق الأمر بالمراكز الصحية أو المستشفيات أو العيادات والمصحات، لتوفير شبكة للخدمات الصحية غير الاستشفائية.
وإلى جانب ذلك يجب إعادة النظر في كيفية تدبير الموارد البشرية والاستفادة من الرأسمال البشري الذي يتوفر عليه القطاع، لأنه وبكل أسف ليست هناك عدالة على مستوى التوزيع وطنيا في هذا الصدد، لأننا سنجد على سبيل المثال، تجمع 60 في المئة من مهنيي الصحة في محور طنجة أكادير، والسبب في هذا العطب هو السياسات الصحية التي تعود إلى أكثر من خمسين سنة، لأن التوزيع لا يكون على أساس الخصاص وإنما هناك عوامل أخرى هي التي تتحكم في هذه العملية برمتها، من بينها حضور حسابات ورهانات سياسية بالأساس.
إن الإشكال الكبير الذي تعاني منه المنظومة الصحية اليوم، ليس محددا أساسا في الخصاص في الموارد البشرية، الذي تعرفه بالفعل العديد من المناطق، وفي تخصصات بعينها، وإنما في غياب تدبير عقلاني لهذا الرأسمال البشري المهني، إذ يجب التساؤل عما أنتجه وساهم فيه وحققه كل مورد بشري بالنظر إلى ما هو مطلوب، ويتعين بشكل ملحّ التوفيق بين مستويات ثلاثية الطلب، الحاجة والعرض، من أجل تحقيق النجاعة المطلوبة.

o لكن وزارة الصحة والحماية الاجتماعية تربط في تصريحاتها الرسمية ضعف المردودية بالخصاص في الموارد البشرية؟

n يجب أن نعي على أن الخصاص ليس قاسما مشتركا في كل مناطق المغرب، ولا يشمل كل الاختصاصات، مع التأكيد على أننا نطبق المؤشرات التي توصي بها منظمة الصحة العالمية ومنظمات أخرى بشكل عام، والحال أنه يجب القيام بهذه الخطوة جهويا وفقا للحاجيات التي تم جردها وتحديدها.
أنا لا أتفق مع تصريحات وزارة الصحة والحماية الاجتماعية التي تؤكد أن الوزارة في حاجة إلى 32 ألف طبيب، نموذجا، لأنني أجد أن هذا الأمر غير صائب، لأننا في حاجة اليوم إلى أن يتم تخصيص كل الوسائل التي تمكّن الأطباء المتوفرين اليوم في المغرب من القيام بواجبهم على أكمل وجه.
نحن في حاجة بالفعل إلى عدد من الأطباء، لكن في جهات بعينها، وفي تخصصات محددة، لهذا يجب فتح باب تحريك الأطباء المغاربة بناء على الخصاص والحاجة، وتوفير الآلية القانونية التي تسمح بذلك، عوض اللجوء إلى جلب الأطباء الأجانب، هذا القرار الذي لن نكون ضده إذا ما تم الحرص على تنزيل كل هذه الخطوات، بشكل يجعل من حضورهم في الجهات وعلى مستوى التخصصات التي فيها خصاص خلال مدة محددة في انتظار تكوين الأطباء المغاربة دعما مفيدا، دون إغفال كذلك نقطة أساسية أخرى والمتمثلة في تقييم عمل وأداء الموارد البشرية بناء على العوامل السابقة

o يتم التأكيد كثيرا على أن ميزانية وزارة الصحة والحماية الاجتماعية لا تمكّن من تطوير أداء المنظومة وتجويدها. إلى أي حدّ يعتبر هذا التبرير صائبا؟

n لقد تضاعفت ميزانية وزارة الصحة والحماية الاجتماعية بثلاث مرات خلال 10 أو 12 سنة، وفي هذه السنة ستعرف ارتفاعا بـ 3 ملايير درهم، لكن الرهان الأساسي لا يتمثل في ضخ مبالغ مالية أخرى، وإنما في العقلنة والتدبير الناجع والسليم وترشيد الميزانية المتوفرة من أجل الإجابة عن الاحتياجات الصحية المعلن عنها، ولتطبيق الرؤية المخصصة لهذا القطاع اعتمادا على الأولويات، وهنا يمكن الإشارة إلى ما ورد في أحد تقارير المجلس الأعلى للحسابات، الذي أكد على أن الوزارة لم تحقق نسبة الإنجاز والتنفيذ إلا بنسبة 67 في المئة، كما ورد ذلك في تقرير الخاص بسنة 2019، أي أن 33 في المئة من المشاريع لم تُنجز.
الأكيد أن هناك حاجة لأن تصل ميزانية الصحة إلى 8 في المئة على الأقل من مجموع الميزانية العامة للدولة، في الوقت الذي توصي به منظمة الصحة العالمية بأن تخصص لقطاع الصحة ما بين 10 و 12 في المئة، في حين أن واقع الحال يؤكد أنها لا تتجاوز نسبة 7 في المئة اليوم. إن الرفع من ميزانية الصحة يتعين أن يجيب على منطق عقلاني يتأسس على ضرورة توفير خدمات صحية متكافئة وعادلة، وأن يتم تقسيمها على هذا الأساس، خاصة على مستوى العلاجات الأولية، التي لا تخصص لها بكل أسف إلا نسبة 9 في المئة من الموارد المالية، وهو ما يعتبر قليلا جدا على صعيد المراكز الصحية الأولية التي تخصص لها ميزانية للتسيير بشكل أكبر، لأن نظرتنا ومقاربتنا للصحة في بلادنا هي للأسف علاجية وليست وقائية،علما بأن هذه الأخيرة هي الأهمّ.

o هل معدّل الإنفاق الصحي الذي يتحمّله المواطن المغربي هو منطقي أم أنه مبالغ فيه ويشكّل حاجزا دون ولوج الفئات الفقيرة والهشة إلى الخدمات الصحية؟

n كما أشرت إلى ذلك فإننا في حاجة إلى اعتماد العقلنة وإعمال الحكامة، فالمستشفيات الجامعية على سبيل المثال لا الحصر، تمثل حوالي 20 في المئة من الأسرّة، لكنها تستهلك حوالي 80 في المئة من الميزانية، وبالتالي فإن تمويل وزارة الصحة والحماية الاجتماعية قد ارتفع لكن دون تحقيق النجاعة المرجوة.
إن الرهان المطروح اليوم لا يقف عند حدود الرفع من ميزانية وزارة الصحة والحماية الاجتماعية وإنما يمتد إلى طريقة التوزيع، لأن آخر تقارير الحسابات الوطنية للصحة تؤكد أن الأسر تواصل صرف 59.7 في المئة من مصاريف العلاج في حين أن الدولة لا تساهم إلا بحوالي 27 إلى 29 في المئة من مجموع المصاريف، وعليه فإن المساهم الأول في الصحة هو المواطن والأسر، وليس الدولة أو الصناديق الاجتماعية، مما يؤكد غياب عدالة اجتماعية، خلافا لما يدعو إليه جلالة الملك محمد السادس نصره الله وأيده، فالصحة إذا لم يكن لها ثمن فبكل تأكيد لها كلفة.
أن منظمة الصحة العالمية تؤكد أن مساهمة المواطن في النفقات الصحية والعلاجية لا يجب أن تتجاوز ما بين 10 إلى 25 في المئة كأقصى تقدير، وإذا ما تحمّل أكثر من ذلك فإن هذا الأمر يعتبر كارثيا حسب وصف المنظمة، وهنا يمكن أن نشير إلى أن مساهمة المواطن الفرنسي لا تتجاوز 8 في المئة، بينما مساهمة المواطن الإنجليزي تقف عند حدود نسبة 2 في المئة، وفي كندا ودول أخرى لا تتجاوز نسبة 10 في المئة، وبالتالي فنحن من الدول التي ينفق فيها المواطن كثيرا من أجل العلاج في العالم.

o كيف السبيل لتحقيق العدالة الصحية في ظل تحمل المواطن لأكثر من نصف مصاريف العلاج؟

n إننا في حاجة إلى تغطية صحية حقيقية وفعلية تضمن ولوج المواطن إلى النظام الصحي والاستفادة من الخدمات الأساسية بجودة وإنفاق أقلّ، لأنه يساهم من خلال الضرائب والاشتراكات التي يؤديها للاستفادة من النظام الصحي.
إن ما يجب على المواطن المغربي تسديده هو نسبة 25 في المئة في الحدّ الأقصى بينما تعتبر مساهمة 10 في المئة هي المثالية، ولا يمكن الوصول إلى هذا الأمر إلا في أفق 2030، حيث يتعين على الدولة أن ترفع مساهمتها في التمويل الصحي إلى 50 في المئة على الأقل والجماعات الترابية إلى 25 في المئة.
إن الانطلاق من هذه النقطة لبناء نموذج طبي اقتصادي اجتماعي يعتبر أول عمل يجب القيام به، في إطار التفكير في بناء منظومة صحية تعمل على تأهيل وتثمين الموارد البشرية، تعزيز الشراكة وتحقيق العدالة المجالية بناء على دراسة فعلية وواقعية، مع الحرص على جهوية الصحة من خلال وكالات جهوية، وكذا تجميع للمؤسسات الصحية الاستشفائية، الوقائية والعلاجية على حد سواء.
نحن في حاجة إلى رؤية فعلية للصحة قابلة للتحقيق وليس فقط لمناظرات، حتى يكون لتوصياتها وقع، تعرف مشاركة خبراء، مواطنين، فاعلين، وكل من له صلة بالميدان الصحي ويشتغل فيه على أرض الواقع.

o باعتباركم شريكا أساسيا في المنظومة هل تم إشراككم في وضع تصور لإعادة بناء المنظومة الصحية وما هي الركائز التي تؤكدون عليها؟

n للأسف الشديد لم تتم دعوتنا لحد الساعة للمساهمة في التفكير الجماعي لبناء هذا المشروع، وهذا لا يمنعنا من التأكيد من مواقعنا المختلفة على ضرورة أن تكون المنظومة المنشودة، منظومة الصحة لمغرب اليوم والمستقبل، تضمن الولوج المتكافئ أمام كافة المواطنين والمواطنات، بشكل ناجع وعادل.
ونشدد من خلال جريدتكم المحترمة «الاتحاد الاشتراكي»، على ضرورة لا مركزة مصالح وزارة الصحة، وأن تكون هناك مجالس إدارية جهوية يكون للمواطن الحق في التمثيل بها والعضوية فيها، في إطار رؤية عامة للمنظومة الصحة، وألا تظل الفاعل الوحيد فيها. إلى جانب ذلك يجب تطوير الرقمنة، وتحديث عمل المراقبة الوبائية، وإحداث وكالة وطنية للأدوية وأخرى خاصة بالتغطية الصحية، من أجل تحكيم شفاف لا تكون فيه الوزارة خصما وحكما في نفس الوقت، وأن نعتمد نموذجا للتمويل التضامني برؤية تقوم على الترشيد والنجاعة، فضلا عن إحداث مجالس وهيئات لمتابعة تطبيق التوصيات المختلفة، والرفع من جودة التكوين والتكوين المستمر وتحفيز الموارد البشرية في قطاع الصحة بشكل عام، وأن يتم إيلاء القطاع الخاص المكانة التي يستحقها باعتباره مساهما أساسيا في علاج المغاربة والأجانب على حد سواء.
خطوات ستعود بكل تأكيد بالنفع على قطاع الصحة في بلادنا، بما يخدم المنظومة ويساهم في تجويدها وتطويرها، ويضمن ولوجا سلسا وعادلا للعلاجات أمام كل المواطنين والمواطنات في مختلف أرجاء المملكة، لهذا يجب المضي قدما لتحقيق ذلك بكل رصانة ومسؤولية بعيدا عن كل أشكال العجلة، ومن خلال التشاور مع مهنيي الصحة والهيئة الوطنية للطبيبات والأطباء، إذ أن هذه الخطوة تعتبر بالغة الأهمية، ونفس الأمر بالنسبة لإصلاح التكوين الطبي.


الكاتب : وحيد مبارك

  

بتاريخ : 05/03/2022