في سياق مطلب الفريق البرلماني لحزب الاتحاد الاشتراكي حول ضرورة إعادة النظر في بنية القاعدة القانونية المنظمة للتعليم العالي، كان لنا مع البروفيسور محمد حركات حوار عميق وصريح، لم يخاتل في تشريح الوضعية من الداخل الأكاديمي، خاصة أنه على دراية بما يروج فيه وكيف تشتغل الآلة الجامعية. إذ توسل في تحليله ومقاربته بتجربته الواسعة التي تجاوزت الأربعين سنة قضاها بين التدريس والرحلات العلمية المتعددة للجامعات العالمية، فضلا عن مسار عميق في الإنتاج والنشر والتأليف.
– تحدثت في كتاب لك عن المداخل الحقيقية لبناء جامعة جديدة وعصرية تواجه متغيرات وتحديات القرن الواحد والعشرين، هل ما تزال تلك الشروط تحتفظ براهنيتها بعد أكثر من عقدين من طرحها في كتاب علمي؟
– في أغلبها صحيحة وواقعية وكانت لديها رؤية استشرافية. اليوم هنالك تحولات كثيرة على المستوى العالمي يؤطرها «انتقال جيوسياسي للمعرفة». في أمريكا العلماء يهاجرون إلى الصين وآسيا، هناك أزمة صامتة، تشكلت بسبب غياب للرؤية، وغياب ما أسميه شخصيا بـ»أنسنة الجامعة».. العلوم الاجتماعية والإنسانية (علم النفس، الاجتماع، علم الأديان، الفلسفة)، يجب أن تدرس في الجامعة … الجامعة تحولت إلى ما يشبه معملا صناعيا تكون الناس فيما هو تقني، ولا يهمها تكوينهم الديمقراطي، وأركز على هذا الكلام ..ل ابد من تكوين شخصية الطالب ..
تقريبا قبل أربعة أشهر من الآن، نشرت كتابا حول المسكوت عنه داخل الأحياء الجامعية والحياة الطلابية .. لاحظت غياب علاقة تربط بين الجامعة والطالب، خصوصا في جامعات الاستقطاب المفتوح .. ثلاثة وأربعين سنة في الجامعة قضيتها شخصيا، ولاحظت عدم الاهتمام بالطالب الذي هو أساس الجامعة، وهي مسؤولية الأستاذ والإدارة. قمت بتشخيص مهني للمعيقات والأعطاب والبدائل. تشخيص مهني، فيه الإستراتيجية الكفيلة بالنهوض بها.
– باعتباركم واحدا من الأطر الخبيرة بواقع حال الجامعة المغربية، ماهي أهم الأعطاب التي تمنعها اليوم من تأدية وظائفها العلمية؟.. النظام الجامعي المتبع وكأنه استنفذ وتآكلت مرتكزاته البيداغوجية والتدبيرية.. هل نحن في حاجة لنموذج جديد؟
– النموذج الأوروبي المطبق في جامعتنا لم يتم تقويمه وهذه من عيوب الجامعة المغربية، أريد التأكيد أنه لدينا مكاسب، لكن هذا لا يكفي .. ومن ضمن الأعطاب المزمنة، غياب قيادات جامعية وازنة قادمة من البحث العلمي الرصين. مثلا نجد وزيرا للتعليم العالي لم يقدم شيئا للبحث العلمي لما كان أستاذا في الجامعة ..لديه سيرة متواضعة، لم يعرف بحثا علميا.. لم يقدم أي شيء كأستاذ، فكيف سينجح كوزير في نفس المجال المهني.. لا يمكن.. هذا ما يضعف ويغيب الرؤية ..
نفس الأمر يحدث مع رئيس الجامعة أو العميد الذي يقوم بالتدبير الكمي وإدارة الصفقات والتدبير المعلوماتي.. هو ليس مقاولا. ثم يأتي للمسؤولية وهو لم يسبق له التأليف ولا الكتابة في المجلات المتخصصة، بمعنى ليس هناك رصيد معرفي لتدبير السؤال الأكاديمي.. الأغلبية ونحن أبناء الدار على هذه الشاكلة. نعرف بعضنا.. إذن كيف لجامعة وجدت من أجل البحث العلمي يسيرها مسؤولون بعيدون عن البحث العلمي.. إشكالية حقيقية لابد من معالجتها والوقوف على نقائصها التي نعيش تداعياتها..
– ماذا تقصد بمعايير العلم والمعرفة.. نريد تفصيلا مضبوطا لهذا الأمر ؟
– التنظيم ثقيل الخطوات، تشتت الجامعات والكليات، الأسوار من كل جانب، لا أحد يعرف ماذا يفعل الآخر.. نحن أمام التجميع الذي ولد التشتيت، غياب التواصل .. حكامة الجامعة يجب أن تدرس في درس افتتاحي حتى يعرف الطلبة أين يوجدون وما المتعين عمله.. مثلا رئيس الجامعة غير معروف.. المطلوب إذا ضغطت على زر الانترنيت وطلبت سيرة ذاتية لرئيس الجامعة، يجب أن يكون مساره العلمي معلوم وبالتفصيل، ماذا كان ينتج قبل وصوله للمسؤولية، هل له جوائز دولية ووطنية، مؤلفات، هذا يدفع المجتمع الأكاديمي لاحترامه، يدفنون سيرتهم العلمية ويغلقون عليهم الباب مع العمداء، بدون فاعلية وأداء حقيقي. فالنشر غير مهم عند رئيس الجامعة.. وأعيد التأكيد على أهمية هذه النقطة وارتباطها بسؤالك .. الخريطة العلمية هي الموجه والأساس دون أي اعتبارات أخرى.
– الحكامة الديمقراطية تكون مؤطرة لهياكل الجامعة المغربية.. هو تفكير يسبق السائد اليوم.. ألا ترى أن الفكرة بعيدة عن التطبيق ولم تنضج مدخلاتها بعد عند الفاعل الرسمي والسلطة السياسية؟
– انظر معي.. مدخل الحكامة الجيدة هو الطريق الصريح لنهضة الجامعة المغربية، الكفاءات لما تتولى وتوضع في المواقع المتخصصة ويعطى لكل مستحق العمل الذي يتقنه، آنذاك سنضع الخطوة الصحيحة على مدرج التصحيح.. فالكفاءات تخلق دينامية وتهتم بالنشر والتأليف.. لكن غياب بنيات استشارية تقدم المشورة وتطرح البدائل وتصحح الاختيارات الخاطئة يزيد من تأزيم الوضع.
مثلا الوسيط يجب أن يكون ضمن البنيات والهياكل الداخلية، يجمع بين الشخصية القانونية والإنسانية، ما وقع بأكادير كان يمكن معالجته قبل الوصول إلى خروج تلك الصورة المشوهة عن الجامعة، في التجارب الدولية التي تحرص على وجود الوسيط، لا تخرج المشاكل كلها للخارج، تحافظ على حرمتها.. وإذا تجاوز أحد حده يمكن لجمه أو عزله بهدوء. هذا إذا لم يحترم حرمة وتقاليد الجامعة.
مثال لضرورة حضور الوسيط .. مشكل طلبة كلية الطب الذي عمر عاما ونصف العام. لا العميد ولا الوزير اهتدوا إلى ما يجب عمله، والطلبة كانوا متقدمين على الجامعة في مطالبهم وحواراتهم التواصلية.
– هذا فيما يتعلق بتدبير التوترات والانحرافات الداخلية، ماذا عن سوء التدبير المالي وإطلاق اليد في ميزانيات ضخمة سنوية..دائما بروفيل القائد أو الرئيس يحضر بالسلب أو الإيجاب..؟
– من صور غياب الحكامة ألا نجد مدققا ومحاسباتيا. هناك تجاوزات مالية وإدارية لم يحسم فيها داخليا.
أيضا ضعف التواصل مع الطلبة والأساتذة ..تجد رئيسا تكنوقراطيا لا يملك لغة تواصل ويوضع على رأس كليات الآداب والحقوق والاقتصاد ، لا ينجز تقارير حول الداخل الجامعي ولا يعرض منجزاته والإكراهات على البرلمان .
النشر أيضا غائب. تصور لو كنا ننشر الأطروحات الجيدة سنفضح «البلاجيا» (القرصنة العلمية للدراسات والبحوث)، ولن يستطيع أحد التقدم بأطروحته إلا إذا كانت مستوفية لمعايير البحث العلمي وأولها الابتعاد عن السرقة العلمية والنسخ والنقل .
– البحث العلمي، الإنتاجات العلمية، تبدو اليوم ضعيفة نوعا وكما ..إلى ما تعزو هذا الوضع الذي يضع الجامعة المغربية اليوم في مراتب متدنية من ناحية التصنيف ؟؟
– الجامعة تهتم بالدروس ولا تهتم بالبحث العلمي، وهذا سر تدني مستوى العديد من الطلبة. الدرس ليس له أساس علمي ولم يقم فيه الأستاذ ببحث أو إسهام علمي، الطالب يتلقى «سندويش خفيف». وهنا يمكن الوقوف على قضية تفريغ البرامج من العلوم الإنسانية ومسح الفكر النقدي منها ..أعطي مثالا بسيطا ..الاقتصاد السياسي أصبح يدرس كمعلومات عامة ، على غرار ما فعلت أمريكا وكندا عندما مسحت سؤال الثروة والمدارس التي اهتمت بالاقتصاد ، أزالوا مادة تاريخ الفكر السياسي والاقتصادي ، الطالب إذا لم يعرف التاريخ لن يكون حاملا لمعرفة حقيقية ، والتاريخ هو الذي يعلمك العلم .
15 سنة الأخيرة تم فيها تفريغ كل البرامج التي تقوم بتوعية الطالب ..الطالب له آلة حاسبة يحسب فقط .
في الحقوق أيضا أزيل الاقتصاد السياسي وأصبح «مدخل للتدبير». غدا هذا الطالب سيكون قاضيا، وسيحكم على شركة بالإفلاس، لأنه لم يتلق تكوينا في الجانب الإنساني للإنتاج .
– وأنتم كباحثين لماذا لم تصرخوا وتفضحوا هذه الهجمة على العلم ورجال العلم ؟
– تم تهميش الكفاءات وجيء بشباب لا يعلمون بالخلفيات ..والتفريغ لم يمس فقط البرامج بل استهدف الأطر الحقيقية ذات النزاهة والمصداقية العلمية ..العلم هو الذي يجب أن يتحكم في الجامعة وليس التدبير الإداري ..
– عندما تغيب المعرفة تحضر السطحية والابتذال .. هل نحن اليوم في حاجة لإعادة تعريف بروفيل الأستاذ الجامعي ..؟؟
– الأستاذ المتقدم لشغل المنصب يجب أن يسأل عن خلفيته الفكرية، ماذا يكتب وماذا يقرأ، يجب أن تكون له مؤلفات ومرجعيات نظرية وفكرية ، الأرضية العلمية أساسية وحب المهنة أيضا ..تكون لديه مهمة البذل والعطاء للجامعة ..وفي ذلك فليتنافس المتقدمون للمنصب ..
– هذا يحيلنا على غياب النزاهة في التوظيف؟؟
-مهم هذا النقاش .. وصريح أيضا، إنهم يضعون لجانا على المقاس والنتائج محسومة سلفا. يحضرون ناسا في اللجان لا يقرؤون المشاريع ولا يكتبون. ظاهرة خطيرة على الجامعة. وهذا الكلام ينسحب على البنيات عموديا. رئيس جامعة لا ينشر ولا يكتب، يذهب عند مكتب دراسات، في شهرين يحصل على مشروع التدبير وتسيير جامعة في أوراق صقيلة وملونة. اللجنة تتسلم الأوراق وهي مبهورة ضعيفة، والغائب في كل هذا هو بروفيل القيادة العلمية. سبق لي أن عشت تجربة مع رئيس جامعة أهديته كتابا ..أسر لي بأنه لم يكتب مقالا في حياته، فأحرى ينشر كتابا علميا متخصصا. أما اللغات في البروفيل المذكور فمشكلة حقيقية، إذا ترأس رئيس جامعة وفدا إلى الخارج وهو لا يملك اللغة ولا يتكلم الانجليزية وفرنسيته ركيكة لا تشربه ماء ديبلوماسيا ..كيف سيدافع عن قضايانا وصورتنا الوطنية في المحافل الدولية. التزلف والزبونية لا يجب أن تكون على حساب المعرفة. الجامعات تحولت إلى دواوين .
– لاحظ المراقبون والمهتمون بالشأن الجامعي وصول مسؤولين وأشخاص لسدة المسؤولية تحت «الغطاء الحزبي» بدون تدقيقات في البروفيل العلمي والكفاءة البحثية ؟
– بعض الأحزاب تقترح و»تدفع» بأشخاص للمسؤولية ..العمل الحزبي نبيل ومطلوب ، لكن تقديم الكفاءات لمناصب المسؤولية سابق على الولاءات والعلاقات المصلحية والترضيات ..هذا لايتكلم عليه أحد أعطي مثالا بما حدث في أكادير والشمال ..سببها بعض الأحزاب السياسية التي تقوم بتعيين أشخاص «مدفوعين»، يتسلم المسؤولية ويختبئ في مكتبه. حالات كثيرة من هذه البروفيلات هي من تساهم بترك الحبل على الغارب وتغلغل الفساد داخل الجامعة …الحياة الجامعية تهتم بالتأليف والديناميات العلمية والترتيب الدولي ، من سيكولوجية المسؤول الاختلاط مع الباحثين ..لننهض بالبحث العلمي يلزمنا باحثون حقيقيون ..
مرة وزير تعليم عال سابق ساق هذا الكلام وخطب به في اجتماع موسع مع العمداء والرؤساء .انبرى له أستاذ سائلا إياه كيف لك أن تتكلم عن غياب وضعف البحث العلمي وأنت لم يسبق لك التأليف أو كتابة مقالة علمية؟ بهت المسؤول وحدث هرج بعد هذا التدخل / الحقيقة ، هذه المسألة تجرنا للحديث عن إعطاء الأولوية لتقديم الخريطة الحزبية على الخريطة العلمية وهذا غير مقبول تماما.
– هل أصبحت الجامعة ريعا ومسارا للترقي وتحصيل الامتيازات ..أنت تعرف أستاذ أن منصب رئيس جامعة يذر حظوة وعديدا من الامتيازات ؟؟؟
-العلم أسبق على الحزبية والحزب يجب أن يعطينا بروفيلات مثقفة وقوية كما كان يحدث مع الأحزاب الوطنية واليسارية سابقا. يجب أن نعطي تعويضات وليس أجورا سمينة وامتيازات، لكي يأتي من يريد الاشتغال وتقدم البحث العلمي، وكذلك الأمر بالنسبة للبرلمان. سنعلي من قيمة المشروع وحامل المشروع الذي يترك أثرا ، شخص لم يجد مكانه في سلم الترقيات والوصول للمناصب ..نعطيه رئاسة جامعة أو عمادة… التجويد والحكامة الجيدة يأتيان من هذا السبيل. فالقائد هو الأساس والقيادة العلمية والإدارية هي من ستأتينا بعمداء حقيقيين ..وهنا لابد من التنبيه على مسألة جوهرية هي وضع حد لاستيراد وتطبيق النماذج الدولية ..حاجتنا اليوم لنموذج مغربي خالص يعتمد على نفسه ويقوم تجربته ..بعيوبها وإيجابياتها.
– في جواب سابق قلت إن العلم يجب أن يترافق مع البيداغوجيا؟
– العلم يفتقر للبيداغوجيا ولا يدرس بدون أساس نظري ، الطالب لم ننم فيه ملكة المطالعة والقراءة ..16 ألف أستاذ وآلاف الطلبة يقرؤون ،تصور سنخلق سوقا وطنية للقراءة وستنتعش المقروئية وطبع الكتاب ..يعني سنصبح أمام أجيال ومجتمع يقرأ ، من يعرقل مثل هذه الاستراتيجيات.. تحارب في مهدها.
لم نعلم الشباب كيف يكتسبون كتابة علمية، اليوم.. المستقبل يوجد في علم النفس وعلم الاجتماع والفلسفة، وهذه العلوم هي المستقبل ونحن حاربناها. حصلنا في نهاية المطاف على تقني»خاوي» لا يفيد حتى نفسه ، يشتغل ولا يسأل .
الدروس أصبحت تقنية محدودة..
– لا شك أن الديمقراطيات أستاذ تحتاج في بنائها إلى الإنسانيات؟
– بطبيعة الحال. هذا سؤال جيد. في المغرب عشنا تجربة الأحزاب اليسارية، الأساتذة المنتمون لهذا الأفق التقدمي أعطوا الشيء الكثير لجيلنا وللجامعة. تاريخ الفكر ومناقشة الميزانية في الجرائد، تأطير اليسار للمواطن، التكوين والدعم في النقابة. سأحكي واقعة صادفتها غير ما مرة . طلبة في سلك الماستر والدكتوراه درسوا عندي لا يعرفون أسماء مغربية في مختلف المجالات قديمها وحديثها …
نسبة الإنفاق العمومي على البحث العلمي متدنية حسب الأرقام الرسمية. هذا يعطينا صورة كربونية لكيفية تعاطي المدبر وصانع القرار الحكومي مع أسئلة البحث العلمي في المغرب..
– هنالك علاقة بين البيداغوجيا والبحث العلمي، الأستاذ ليس دوره التصحيح والتدريس والامتحانات، البحث هو سر نجاحه. وإذا قارنا المغرب مع دول أخرى، فإن نسبة الإنفاق لا تتعدى 0.8 ، وهي نسبة ضعيفة. أما قي أمريكا، فإن البحث العلمي لا يخضع للتضريب، في الجامعة ، في الفنون ، في الإبداع ..
والبحث العلمي لا يجب أن يحصر في الجامعة. بعض الوزارات والمؤسسات العمومية الكبرى مطلوب منها الاستثمار في هذا الجانب. تصور ضعف المنح والوضعية تعطينا ترتيبا ضعيفا في عدد المغاربة الذين يصلون إلى الجامعة ، أوروبا 40 في المائة، نحن في المغرب فقط 12 في المائة . ففي غياب هذه التوجهات الإستراتيجية، يفضل بعض الأساتذة الذهاب للإفتاء في الجوامع….