لكل نزاع إقليمي مرجعيته وإحالاته التاريخية والقانونية والسياسية، ولكل نزاع إقليمي أيضا بهاراته الخاصة. وتشريح أسس أي نزاع لن يستقيم دون وضع كل مكوناته على طاولة التحليل، بيد أن نزاعات القارة الإفريقية وصمت بالفعل الاستعماري، الذي مزق القارة بمقص ترك آثاره في النسيج الإثني إلى يومنا هذا في عدد من المناطق، وانعكس ذلك في خريطة النزاعات اٌلإقليمية، الشيء الذي جعل « الوحدة الوطنية» عرضة لكل الحسابات الإقليمية والدولية. ولنزاع الصحراء نكهته الخاصة، إذ ربط بين 3 أبعاد إقليمية:
المطلب المغربي في وحدته الترابية والوطنية، وهو عامل شيد ما عرف في تاريخ المغرب الراهن ب»الإجماع الوطني»، الذي لعب دورا كبيرا في تلاحم المؤسسات المغربية، وتخفيف التناقضات السياسية الداخلية ، مع مد وجزر بين الفينة والأخرى، وشكل الموقف الوطني المغربي الموحد تجاه نزاع الصحراء ورقة سياسية، تأخذ بعين الاعتبار في تقييم الدول لمواقفها في نزاع الصحراء.
إشكال بناء الدولة المدنية في الجزائر والفشل في انتقال مؤسسات الدولة من نظام عسكري مشبع بالفكر الاستعماري الفرنسي، وبواجهات سياسية واقتصادية «متحورة»، إلى دولة مدنية تستند إلى السلم والأمن وبناء الطمأنينة والسلم تجاه الشعب الجزائري، وأيضا مع دول الجوار الست، حيث حولت الحدود إلى مناطق عسكرية خالصة، وأصبح النظام العسكري امتدادا للنظام الاستعماري الفرنسي في المنطقة. والشعارات التي يرفعها الشعب الجزائري في مظاهرات الجمعة والثلاثاء ضد «الدولة العسكرية»، واضحة بما فيه الكفاية لإدراك أزمات شمال غرب إفريقيا.
الموقف الموريتاني تجاه نزاع الصحراء من حيث التقاطع معه ترابيا وسياسيا واستراتيجيا، فتضارب الموقف الرسمي تجاه نزاع الصحراء منذ الستينات إلى يومنا هذا، وإعلان موقف مناقض للواقع السياسي في المنطقة من حيث الاحتماء بالحياد. ترابيا، هناك رغبة في إبقاء الوضع على ما هو عليه ، فوضع المنطقة الممتدة من الكركرات إلى الكويرة، يشكل إحراجا في علاقات الدولة الموريتانية بالنزاع الإقليمي. وأبانت أحداث الكركرات الأخيرة، ودور الموقعين الموريتانيين الزويرات وبولنوار كقاعدتين خلفيتتين للبوليزاريو حساسية الموقف الموريتاني في نزاع الصحراء،وتحاول بعض المواقف الدبلوماسية القفز على هذا الواقع من حين لآخر.
في هذه المقالات، التي تشكل فصولا من كتاب قيد الإعداد، نحاول الإمساك بالبعد اٌلإقليمي لنزاع الصحراء انطلاقا من وثائق الأمم المتحدة ومنظمة الوحدة الإفريقية والجامعة العربية المستندات الرسمية للمملكة المغربية، ووثائق رسمية للدولتين الجزائرية والموريتانية، إضافة إلى وثائق الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ومنظمة إلى الأمام وجبهة البوليزاريو.
استراتيجية الجزائر والدولة المحورية
في الزمن الذي واكب عمل هيأة الإنصاف والمصالحة (2006-2004)، تحررت الذاكرات المتعلقة بالزمن الراهن، وظهرت معها وثائق، ورافق كل ذلك توظيف سياسي قوي. في هذا السياق تم الكشف عن التقاطعات التي كانت قائمة بين جبهة التحرير الجزائرية والأجهزة الأمنية الجزائرية والمعارضة المغربية في الخارج، خاصة جناح التنظيم السري، الذي كان يهدف إلى «إشعال ثورة شعبية» في المغرب.
وتضمن الحكي عن هذه الفترة العلاقات التي كانت قائمة بين الضابطين في الأجهزة الأمنية العسكرية، هوفمان ودراية، وكانا مكلفين بالاتصال مع بعض القيادات في الجناح المسلح للمعارضة المغربية.
هذان الضابطان إلى جانب آخرين، سيشكلون غرفة العمليات التي ستستقطب قيادات من البوليزاريو نحو المطالبة بالاستقلال.
«استراتيجية الجزائر»، دراسة «غير منشورة» من 4 صفحات، كتبها مناضلون من جناح الفقيه البصري، عندما انتبهوا إلى مخطط النظام الجزائري في الصحراء، ورفضوا كلهم التخلي عن مغربية الصحراء، وأصدروا بيانا في العام 1975، يتمسكون من خلاله بمغربية الصحراء، وفضل الكثير منهم مغادرة الجزائر فورا. هذه الدراسة تكشف عن المعلومات التالية:
1 – على مستوى الجيش الجزائري، تكونت «لجنة القوات المسلحة»، وسافرت إلى كل من فييتنام ويوغسلافيا ودول شرقية وعربية، وذلك للاستفادة من تجارب تلك الدول في بناء العلاقة المقبلة بين الجيش الجزائري وقوات البوليزاريو.
-2 قدم الاتحاد السوفييتي «قرضا» إلى الجزائر من أجل ربط قضية الصحراء باستراتيجية الامبريالية في الشرق وإفريقيا.
-3 إرسال العقيد الزركيني إلى الصحراء مسؤولا عن غرفة العمليات.
-4 تكليف العقيد سليمان هوفمان مسؤولا على التعبئة والإعلام والدعاية.
-5 احتواء «دولة الصحراء» سيمهد لاحتواء الثروات المعدنية، وقطع الطريق على المغرب نحو إفريقيا برا وبحرا. وكان التفكير جاريا لاستغلال حديد الجبيلات بتندوف وتسويقه عبر ميناء العيون، وهو المشروع الذي رافق اتفاقية الحدود للعام 1972، دون ذكر اسم للميناء.
-6 إحداث تغيير في جغرافية الجزائر لتصبح دولة تمتد من البحر المتوسط إلى المحيط الأطلسي.
-7 تبني شعار مغرب الشعوب، ليكون الغطاء السياسي للدولة الجزائرية، كقوة إقليمية محورية على المستوى الاقتصادي والاستراتيجي.
المؤتمر الثاني للبوليزاريو وبداية الخضوع للتوجه الجزائري
في هذه التحولات الداخلية والإقليمية انعقد المؤتمر الثاني للجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب، «مؤتمر الشهيد عبد الرحمان عبد لله» من 25 إلى 31 غشت 1974 على الحدود الموريتانية الجزائرية، وحضرته كل الأجهزة الأمنية الجزائرية. تضمن البيان السياسي الصادر عن هذا المؤتمر مصطلحات ومفاهيم تضع القطيعة مع المغرب أساسا لها، وتقدم نفسها بديلا لكل الحركات الصحراوية وسمو العسكري على السياسي، يتعلق الأمر بنسخ تجربة «جبهة التحرير الجزائرية»، وعند إعلان «الجمهورية الصحراوية» في تندوف العام 1976، سيستمر النسخ من «الدستور» الذي يمنع إنشاء أحزاب أو نقابات عدا تلك التابعة للجبهة» ونسخ أسماء المؤسسات الأمنية والعسكرية الجزائرية.
تحدث بيان المؤتمر الثاني عن التموقعات السياسية والتنظيمية، وأن «جماهيرنا أصبحت تعي جيدا ما هو الاستعمار، ومن هم حلفاؤه ومن هم بالفعل أصدقاء شعبنا…» والإشارة هنا إلى النظام الجزائري. وفي باب «آفاق المرحلة المقبلة» تضمن البيان 10 نقاط، هي نفسها التي طرحها الرئيس الجزائري بومدين أمام بعثة الأمم المتحدة إلى الصحراء في ماي/يونيو 1975، ويكشف البيان في ختامه عن الترابط أولا بالنظام الجزائري ثم بنظام العقيد القذافي، حيث «ينظر المؤتمر باعتزاز إلى الدور الإيجابي الذي تلعبه الجزائر في قضية شعبنا شعب الساقية الحمراء ووادي الذهب» و«يشيد المؤتمر إلى الدور المشكور الذي لعبته الجمهورية العربية الليبية في دفع قضيتنا إلى الأمام». وبين جملة «الدور الإيجابي الذي تلعبه الجزائر» و «الدور المشكور الذي لعبته الجمهورية الليبية» إعلان عن انتقال الولاء من ليبيا إلى الجزائر، ورسالة وداع تجاه ليبيا. وبذلك حقق النظام الجزائري أولى أهدافه من تبني البوليزاريو.
بيانات الأحزاب والتيارات المغربية حول الصحراء، صيف 1974
ابتداءا من صيف 1974 كثرت البيانات حول الصحراء مواكبة لاحتدام الصراع بين المغرب واسبانيا خاصة في مؤسسات الأمم المتحدة ثم منظمات الوحدة الإفريقية والتعاون الإسلامي ودول عدم الانحياز، التي انتصرت للمطالب المغربية.
في السياق المغربي الداخلي، دعا الملك الحسن الثاني في خطاب عيد الشباب يوليوز 1974 إلى أن تكون هذه السنة، سنة الوحدة الترابية واسترجاع الصحراء. ودعا الأحزاب الوطنية إلى اجتماعات متتالية لبناء المرحلة المقبلة في استرجاع الصحراء. تكونت وفود جابت العالم كله لشرح المطالب المغربية أمام تعنت اسبانيا في تنفيذ استفتاء، هدف بالدرجة الأولى إلى قيام « دولة صحراوية».
الاتحاد الوطني/الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
في صيف 1974 عمل الاتحاد الوطني للقوات الشعبية على تغيير تنظيمي وسياسي في سياق الإعداد الجاري في صيف 1974، لتغيير الاسم نحو الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية وحصر قيادة الحزب على «الداخل» فقط. وخصص عبد الرحيم بوعبيد فقرة في البيان السياسي المقدم في المؤتمر الاستثنائي ، يناير 1975، «للإخوان المجاهدين في الصحراء، الذين يقاومون الاستعمار الاسباني».
حزب التحرر والاشتراكية، المحظور
حزب التحرر والاشتراكية، المحظور آنذاك، ومن خلال كتيب أصدره الأمين العام للحزب، تحت عنوان:» قضية الصحراء الغربية المغربية قضية الساعة» ، دعا فيه إلى التعبئة وأن الحزب» يرى في أنجع وسيلة لكسب هذه المعركة وتحرير أراضينا هو الكفاح بكل الطرق الممكنة فوق التراب المحتل لضرب العدو مباشرة وتحطيم مصالحه الحيوية…» وتابع علي يعته أنه من «الضروري لنا وللجميع، بما فيهم الحكم المغربي، أن نشجع المواطنين المغاربة هناك، أولئك الذين يقومون بكفاح ضد المعتدي، ونمدهم بجميع ما يحتاجونه من وسائل تعينهم على مكافحة العدو الاستعماري وينبغي أن يتجاوز أمر تقديم العون لإخواننا الصحراويين إلى إرسال متطوعين يلتحقون بهم….»، وتحدث علي يعته عن الموقفين الجزائري والموريتاني، و» كلا الموقفين يجب التصدي لهما ورفضهما..».
حزب الاستقلال
أكد حزب الاستقلال على نفس التوجه بالحديث عن «الأراضي المغتصبة» في بيان مؤتمره الثامن المنعقد بالدار البيضاء بتاريخ 24-26-1967، ومباركة «عمل الوطنيين المخلصين ويقف إلى جانبهم في المضايقات والاعتقالات التي يتعرضون لها من السلطات الحاكمة فيها، ويطالب بوضع تخطيط عملي لتحرير هذه المناطق واستردادها من يد المستغلين والغاصبين..»، واستمر موقف حزب الاستقلال على هذا المنوال، وكان له دور كبير في 1974 و 1975، في الحملة الدبلوماسية المغربية للتعريف بقضية الصحراء، كما كان الحزب الوطني الوحيد الذي اجتمعت معه بعثة الأمم المتحدة إلى الصحراء في العام 1975.
منظمة 23 مارس
صدر عن منظمة 23 مارس/ اللجنة الوطنية بيانا حول الصحراء بتاريخ 22 شتنبر 1974 حول «النضال الوحدوي لجماهير الصحراء والشعب المغربي ضد الاستعمار والرجعية والأمبريالية». وتم التطرق فيه إلى «الوضع الراهن في الصحراء» و» الأوتوقراطية الملكية المغربية وقضية الصحراء» و» والأحزاب البورجوازية المغربية» والواقع الحالي للصحراء» و «علاقة جماهير الصحراء بجماهير الشعب المغربي»، وتطرق البيان في هذه النقطة إلى «أن كون الصحراء مغربية لا يعني تأييدنا لإلحاقها بالعنف الرجعي بالنظام الملكي الأوتوقراطي التبعي المغربي، بل يعني التأكيد على الوحدة التي تربط بين جماهير الصحراء وجماهير المغرب، فإذا كانت الصحراء قد شكلت تاريخيا جزءا من المغرب(كما هو شأن سبتة ومليلية والجزر الجعفرية) فإن هذا لا يحل المشكلة لأن القضية الأساسية المطروحة هي: قضية التحرير الفعلي للصحراء ولجماهيرها التي ترزح تحت نير الاستعمار الاسباني المباشر والاستغلال الأمبريالي…» وتحدث البيان أيضا عن «واجبات الثوريين ومهامهم إزاء قضية الصحراء» ومن ضمن هذه الواجبات، «فضح الأحزاب البورجوازية الإصلاحية من خلال تدعيمها للنظام الرجعي المغربي، وتواطأت معه بالسكوت على أعمال القمع والإعدامات والحرمان الذي تعاني منه الجماهير ماديا ومعنويا. وفي موقفها الشوفيني بتواطئها مع النظام المغربي في ضرب الحركة الثورية في كل من المغرب والصحراء..»
ودعت منظمة 23 مارس في نهاية بيانها إلى «دعم الحركة الثورية في الصحراء كالجبهة الشعبية لتحرير الساقية الحمراء ووادي الذهب وذلك بالدعاية لنضالها ونضال الحركة الجماهيرية الصحراوية، والعمل على توعية الجماهير المغربية بضرورة مساندة هذا النضال. العمل على توعية الجنود المغاربة بالطبيعة القمعية التي يريدها النظام لهم ضد الجماهير وضد الحركة الثورية في الصحراء…».
منظمة إلى الأمام
رغم تناغم بيان منظمة إلى الأمام، المؤرخ في 10 غشت 1974، مع توجه منظمة 23 مارس، تجاه «النظام» و«الأحزاب المخزنية»، فإن هذا الموقف، كان في هذه الفترة، أي صيف 1974، أقل تشددا داخل التيار الماركسي الليني من حيث مغربية الصحراء. يؤكد البيان أن « حركتنا الماركسية اللنينية لا تعتبر الجماهير الصحراوية تشكل شعبا مستقلا استقلالا كاملا عن الشعب المغربي…»
لعبت قضية الصحراء دورا أساسيا داخل التيارات والتنظيمات الحزبية، إذ سيتغير موقف 23 مارس نحو «الصف الوطني الثوري»، في حين ستتوجه إلى الأمام إلى التطرف في موقفها ابتداءا من سنة 1977، نحو تأييد «تقرير المصير للشعب الصحراوي».
أما بالنسبة للبوليزاريو وكما كسفت عنه بعثة الأمم المتحدة إلى الصحراء، سنة 1975، فالخطاب أصبح «ثوريا» يعكس مصطلحات «المعسكر الاشتراكي، وتنظيميا. وسلكت البوليزاريو حملة تصفية جسدية لكل من عارض هذا التوجه، وتحول مصطفى الوالي في تصريحاته نحو الأحكام القطعية والمتشددة تجاه المغرب، وكان هذا بداية الخضوع العملي للتوجيه الجزائري في عهد بومدين، ومازال الأمر مستمرا رغم تعدد واجهات النظام الجزائري.