البعد التاريخي والسياسي في رواية «ثورة الأيام الأربعة»

صدرت رواية « ثورة الأيام الأربعة»، للكاتب المغربي عبد الكريم جويطي عن دار نشر المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء المغرب، في طبعتها الأولى 2021، وهي رباعية يلتمس لها كاتبها كل معاني الاكتمال ليصدرها تباعا… رواية تقرأ دفعة واحدة، لغناها الأسلوبي والثقافي والفكري والأدبي، وهي تجربة أدبية إبداعية، تقرأ الحاضر والمستقبل بعيون التاريخ والاستفادة من دروس الماضي. رواية لا يكتبها إلا متمرس بالكتابة السردية، متملك أسرارها، عالم بخباياها، فعندما تقرأ رواية أزيد من ثلاثمئة صفحة دفعة واحدة، وعقلك مازال في الصفحة الأولى، مشدودا باندهاش إلى انسيابية السرد،  وأناقة اللغة والفكر وهذه القدرة الهائلة على طرح الأسئلة الوجودية ودمج سيرة ثوار يعيشون في زمن محدود وربطهم بذاكرة المكان وحدود الزمان والتاريخ الذي يتحكم في مصائرهم كخيط مشدود يقودهم بلا مبالاة نحو مصيرهم المأساوي،. والانتقال بسلاسة بين الفصول، في يوم واحد يؤرخ لبداية الثورة المسلحة في جبل معزول عن العالم. فأن يتمثل الكاتب هذا كله في رواية واحدة، يعني أن الكاتب تفوق على نفسه، وتمكن أخيرا من كتابة بعض ما يعتمل في دواخله، عندما يكتب عن ما يسببه الحزن والألم العميقين والخوف لانخساف الإنسان وصمته وإيقاف الزمن. ويكتب عن الماضي السحيق وعن صور الموتى المكلومين، وعن عمى السلطة والحقد عليها الذي يقود إلى تصفية حسابات مع أشخاص آخرين قادتهم أقدارهم العمياء ليموتوا أيام الثورة، وهنا يكون للصدف الماكرة دورها، فلا الزمن نفسه يستطيع إيقاف هذه الأحقاد والنزوات العابرة، فحتى» الكائنات الصغيرة ماكرة وعدوانية وحقودة بطبعها. وتفهم ما عليها فعله جيدا».

 

تناولت الرواية أحداث ثورة 03 مارس 1973، وهي « عبارة عن مجموعة من الأحداث المسلحة، وقعت في الأطلس المتوسط في المغرب بغرض ثوري، احتجاجا على السخط السياسي الذي عاشه المغرب في تلك الفترة العصيبة، تنطلق الرواية من ذوات شخصيات تعيش واقع الثورة، البطل المثقف المتورط السارد وتم إقحامه، في الأحداث واسمه زياد السمعلي، وجد نفسه محشورا في أحداث لا علاقة له بها في الجبل بسبب أغنية عاطفية غناها في يوم عيد العرش جرت عليه غضب العامل. يصحبه أستاذ اللغة العربية زميله الثوري منظم الموكب، دفعه حنقه على النظام وتصفيات حسابات مع بعض الأشخاص للانضمام للثورة، وشخصيات أخرى تشابهت ظروفها لكنها اتفقت على التغيير الثوري الذي تؤمن به.

رمزية الحيوان في رواية « ثورة الأيام الأربعة»:

توظيف الحيوانات الأليفة في الرواية الذي كان لها دور مهم في تطور الأحداث، التي عاشها الجبل، فهذا التوظيف في الفصل الأول للرواية لم يكن اعتباطيا، بل له دلالة في سياق الأحداث، وله رمزية لكل ما هو أصيل وتقليدي ( البغل) وكل ما هو محافظ وثابت وسلفي قديم ( سلحفاة سرمد ). ففي الفصل الأول استخدمت البغال كوسيلة نقل لصعود الجبل في بداية التجهيز للثورة، لوعورته، وصمود هذه الأخيرة وعنادها وتضحيتها، غير أن راكبيها من الثوار والذين كانت لهم هموم أخرى يطردون بها الخوف الذي تملكهم، كانت تجمع بينهم قواسم مشتركة ساهمت وبغباء في إجهاض الثورة، وهي السذاجة والغباء والطمع. أما في الجزء الثاني فقد أبدع الكاتب في تشبيه سلحفاته سرمد بالمصلح الذي يصبر على الناس، ويظل داعية لا يغيره الزمن، والذي فهم الحياة و عاشها كما تجب، ويكون سريعا عندما تستبد به الغريزة، يخرج من قوقعته ليمدد نسله ويعود كما خرج. وأفلح في تشبيه بطء مسيرة السلحفاة بالإصلاح الطويل الذي يلزمه سنوات للتغيير في المغرب، بينما الثوري أرنب يغير بقفزة فيكون مصيره السحق تحت أحذية المخزن. كما يرصد الكاتب في هذه الرواية الجميلة. كيف يتحول الإنسان الوديع والمسالم إلى ثوري بالصدفة يحمل الرشاش ضد نظام برهن التاريخ على أن حكمه من حديد. يتحول بصدفة غير قابلة لأن تعاد. كأن الزمن هنا لا يرجع إلا للوراء في لحظات قاتلة.

المرجعية الفكرية الاشتراكية في رواية «ثورة الأيام الأربعة»:

كلما قرأت للأستاذ عبد الكريم جويطي ازددت يقينا وقناعة أن كاتبنا تمثل تاريخ المغرب وتشعباته، وتجربته وإلمامه بالكتابة، لذلك عندما يكتب في التخييل التاريخي، بعد تأملات عميقة، يكتب دفعة واحدة، وهو ما وقع له مع هذه الرواية عندما جاءت الرغبة الدفينة في الكتابة عن هذه الثورة المنسية. الكتابة إذن عند الأستاذ جويطي لم تكن فقط وليدة تمرس على أساليب تجريب الكتابة الأدبية، بل وليدة عادة التأمل العميق مع النصوص التاريخية لمنطقة بني ملال والتضاريس الجغرافية لها وتمثلها وإحيائها من جديد وربط ماضينا بحاضرنا، لفهم مستقبل غامض يلفنا بأستاره.  أحسب أن هذه الرواية تمثل قراءة ورؤية عميقة لتاريخنا المغربي المعاصر.
ويظهر من خلال الأفكار المقدمة في الرواية، كمرجعية اشتراكية محضة يتكئ عليها المناضلون لبناء الثورة ويضمنها في مواقف الشخصيات ( السارد زياد، والأستاذ والقائد وعمر الزنيتي). وقد تأثر بها الكاتب نفسه بل كان متشبعا بالفكر الاشتراكي خلال سبعينيات القرن الماضي، بما يحمله من حمولة فلسفية وفكرية واجتماعية، ويبرز جويطي وهو مثقف جيله يملك قدرة كبيرة على قراءة الأوضاع السياسية والاجتماعية في تلك المرحلة بحذر وتأمل وعمق شديدين، ويظهر هذا الحذر من خلال الخوف من مآلات الثورة نفسها. المثقف العضوي النشيط المناضل من داخل المجتمع نفسه، ويبرز دوره في مجابهة السلطة التي يراها نقيض التغيير والمستقبل، التي تحمل رمزية النظارة السوداء، ولها  دلالات المكر والخداع والجبروت والغموض والاحتجاج والعناد، والحقد الدفين على الدولة نفسها، نموذج القائد الثائر جميس دين و الجنرال أوفقير.
آمنت الرواية بمنطق أن كل ثورة تغذي ثورة ليس في المغرب فقط، بل في جميع الأوطان العربية من ليبيا إلى المغرب، كانت أحداث مولاي بوعزة ملهمة للجماهير الثورية في جميع بقاع المغرب، لكنها كانت عبارة عن أحداث معزولة ساهمت في إجهاض الثورة، وهنا دعا الكاتب إلى بديل حقيقي للثورة المسلحة التي كانت خطأ جسيما، ثورة فكرية حقيقية، في فصل ( وادي إيرس)، وهو يطرح تساؤلا كبيرا متمثلا في ما يلي:
أين هو فولتير وأين روسو المغربيان؟ أين هي الأفكار التي تلهم الوادي؟ في إشارة منه إلى ثورة فكرية قادرة على التغيير والإصلاح الحقيقي.
كما أفلح الكاتب في وصف تلك اللحظة الحاسمة، عندما يجد البطل نفسه، داخل ثورة مسلحة، وبين طلقة الرصاص التي تردد صداها في تجاويف الجبل وجملة:
_ في سبيل  مغرب جديد.
كيف يستطيع كبح جماح تفكيره؟، وكيف يستطيع إخفاء مشاعره في هذه اللحظة المهولة؟ قلق، خوق، تردد ، خور، وترقب، جثم على النفوس وتصلب عطّل التفكير بشكل ميكانيكي. وجعل من الثوريين مجرد كائنات مرحة ولا مبالية وغير مكترثة بما ينتظرها، كأنهم مدعوون إلى عرس أو وليمة  إشارة إلى غبائهم وسذاجتهم المتأصلة فيهم وهم ويشاركون في ثورة مسلحة، وفاشلة منذ البداية.
منذ تلك اللحظة بدأت الأسئلة العميقة كمحاولة لفهم أسباب الهزيمة المدوية، ما ذا يفعل البطل هنا في هذه الثورة؟ وما علاقته بها؟ يبدو السؤال بريئا، لكنه منطقي، فعلاقة الانسان بالأرض وتاريخ أجداده في النضال يدفعه دائما ليكون في الصفوف الأولى حتى ولو لم تكن له علاقة بأية ثورة، ويكفي ذكر عم البطل زياد السمعلي وهو صالح السمعلي وتاريخه الطويل في المقاومة، فإذا كانت الأماكن تتداعى في الذاكرة، ولا يمكن نسيانها، فإن الأشخاص أيضا لا يمكن نسيانهم من الذاكرة، وهو ما يفسر احتفاظ الدكتور بصور المقاومين الذين يمثلون الذاكرة الجمعية لمدينة بني ملال . تاريخ طويل من النضال و المقاومة والصمود والكفاح ضد المستعمر الغاشم.
السؤال الوجودي دائما هو الطاغي على سيرتنا في علاقتنا بالمكان والزمان، والأحداث والذكريات المفعمة بالأحاسيس العميقة التي لها ارتباط بالأرض ولولبية الزمن ومكر الصدف، و»التاريخ الأناني والقتال للانتباه الذي ينتظر أحداثا صغيرة ليتعاظم، ويأخذ من الحياة من يشارك في صنعه، أو المرارة القاتلة على أن يكون الإنسان شاهدا على صنعه».   هذه الذات الشغوفة الباحثة عن الخلاص الأبدي، تتمنى أن تكون خارج اللحظة، «خارج الثورة و ونفسي والغد  بل الزمان كله»، تطرح سؤال إشكالي عميق لأزمة الإنسان في علاقته بالمكان والزمن، هذه الذات الخائفة والمتوجسة والقلقة، والمستسلمة لقدرها البئيس، يقودها نحو حتفها دون رحمة، « ذات معزولة عن العالم، تعقد اللسان وتجعل النفس تتجرع فداحة ما نحن مقدمون عليه». لتبدأ الرحلة الطويلة والشاقة، المليئة بالشك والبحث المضن لإعادة تشكيل الذات في علاقتها ببلدها، بلد الخوف كما يسميه، حيث لا أمان، بلد توجهه الصراعات القبلية والأحقاد والثارات المؤجلة، لتصبح بلدة صغيرة، يهرب سكانها اليائسون والخائفون  الذين يبتكرون خياما تطوى للفرار من الغازي الظالم، وكما هي عادة الذات الهصورة من الخوف والوجل، تخرج ذوات أخرى، وتدب على شكل نزوات وأحقاد ومكبوتات وغرائز وعواطف وأفكار تفضحها الثورة، وتصير التفاصيل الصغيرة هي الفاصلة في اللحظات الحاسمة، أو  حتى بين الحياة والموت.ومع كل ما تحمله الذوات العنيفة من جسارة وإقدام وشجاعة إلا  أنها كذلك تحمل أنفة وكبرياء وسذاجة مبالغا فيها، وشكوكا لا محل لها، فمن ذا الذي يقتنع بثورة من الأفكار المثالية من حرية وكرامة، الناس تريد الوعود بأراض تضمنها عيشها سنوات، كما قال عدي الذي حكم على الثورة بالفشل، في جبل توجد فيها ثكنة معزولة تماما عن العالم. ثكنة زرعت الخوف في نفوس سكان الجبل سنوات طويلة لكنها خلفت صمتا وبؤسا في الجبل، صمت أقرب إلى صمت المقبرة. حيث يرقد تاريخ متمنع لا يرغب في النسيان، وهو ما يفسر انتظار نساء الربوة لأبنائهن المقاومين الأبطال طيلة عشرين سنة، حيث الذكرى تحل محل النسيان، والانتظار يمتد ليشمل الغائبين والمتعبين الذي ينتظرون زواجا أو سعد أو صحة أو أمانا، ولكثرة الانتظار في الربوة صارت رديفة الأمل والرجاء والذي يأتي ولا يأتي، لينهي دمعة أو يبدد غمة.

تيمة السذاجة في الرواية، أو عندما تكون السذاجة مرادفة للثورة:

لقد أجاد الكاتب توظيف تيمة «السذاجة» المتأصلة في سكان الجبل، يقول على لسان أهل تادلة: «نحن السذاجة والإيمان الأعمى بالقضية»، في إشارة إلى أنهم شجعان، وهنا تكون: الشجاعة مرادفة للسذاجة والغباء في ما يشبه الإيمان الأعمى بكل قضية،  وتراه يصور حالة السذاجة القصوى التي بلغها سكان الجبل والبوادي، عندما كان زطاورو يبيعهم الدواء المغشوش، وهم وأمل الشفاء وهم ويصدقونه، أو حينما يبلغ بالمرء أن يصدق أوهامه انظر إليه وهو يقول مثلا على لسان زطاورو:
« الشعوب تعيش بالأوهام حول ماضيها وحاضرها ومستقبلها».ويقول أيضا:» الناس قبلي كانوا يثورون على السذاجة ويستبدلون بها سذاجة أكبر».وفي إشارته إلى أحد أسباب موت الثورة يقول: « هناك حيث السذاجة والغباء والتوكل، تموت الثورة يا حبيبي. ولا مستقبل لهذه البلاد مع السذاجة.
أما سؤال بدايات الثورة، فقد كان سؤالا أرّق الكاتب، وهو يشرح ويحلل، كيف يمكن لثورة فاشلة من البداية أن تنجح، الغباء و الوسائل المتاحة التي كانت عاطلة تماما :» عطب جهاز الإرسال والاستقبال والخطأ التقني الذي صادف تأخر المبعوث الذي لم يخبرهم بعدم الخروج، وسيطرة لا أهمية لها على ثكنة بئيسة» و المواجهة المخزية الدموية التي بدأت بجريمة قتل و التي أنبت ضمير الثوار، حيث عاجل القائد الكوميسير برصاصة غادرة، واستغلال الثورة لتصفية حسابات شخصية،  وعدم فهم أهل الجبل للمقصود بالثورة، للسانهم الأمازيغي وانهماكهم في الأكل الذي حضره القائد مع خطبة سياسية في الثكنة، وهنا يبدع السارد ليصف مظاهر الثورة على لسان شخصياته، التي أطلقت عليها تسميات مختلفة: السيبة، تراريت، توررا، و ينتقل الكاتب لتشريح وتحليل هذه الثورة:
« الثورة فيصل حاسم نعرف به وضاعة أو عظمة شعب معين». «هذه ليست ثورة هذا انتحار جماعي». «الثورة ليست تفاحة تسقط من تلقاء ذاتها عندما تنضج، ولكن لابد من أن نجعلها تسقط». « ثورة تستعمل أدوات القرون الوسطى».

التخييل التاريخي أو قراءة الواقع المغربي من منظور التاريخ:

وبالعودة إلى التخييل التاريخي، في الرواية، أو أن يكون العمل السردي صورة متخيلة من أحداث التاريخ، لا يمكننا الحديث عن هذا التاريخ المجيد الذي لا يتم إلا إذا توفر الكاتب على إحساس صادق بالمكان والذاكرة، أو كما قالت روزا الباحثة الفرنسية التي تم استدعاؤها لتعميق البحث مع سكان أهل الجبل تاصميت: «يحتاج تاريخنا الحديث والمعاصر إلى أبحاث جديدة و» مراجعات دائمة خصوصا حين يكتبه من يربح الحرب».وكل مواضيع التاريخ صعبة ومتمنعة ولا يعطي جلده بسهولة، التاريخ أناني وماكر، يختار بدقة من يساهم في صنعه، فالإحساس الصادق بالمكان وذكرياته المفعمة هو الدافع نحو قراءة التاريخ واكتشاف أشياء جديدة.
وتظهر الثورة وسط ركام عربة التاريخ فجأة لتغير الأوضاع القائمة في البلد، يقول القائد:
« يبدو أن عربة التاريخ قد علقت في وحل تضارب الأوامر وعلينا أن نحررها منه في أسرع وقت»، ويقول أيضا: « لا نسعى لتغيير الحاضر فينا، بل ننتقم للماضي أيضا». ولكن هذا التغيير المنشود لا بد أن تقدم فيه قرابين وتضحيات، والتحول التاريخي ليس بالأمر الهين.
ينزاح التأمل التاريخي في الرواية لما أسماه بالفعل الإنساني، حيث ما قدمه ابن خلدون الذي كان شاهدا على التاريخ من بوابة خيبة أمله في عدم حصوله على حظوة أو خيبة المتنبي في عدم وصوله للملك، يقول أن هناك دورانا بئيسا ومحبطا للتاريخ، ويؤكد على أن محرك التاريخ هم من بيدهم السلطة كجيمس دين الذي أوكلت له مهمة كتابة يوميات الثورة.
يرى الكاتب المكان بمنظار من يملك رؤية للماضي، فيتحدث عن انتساب وادي إيرس للمكان بجغرافيته وابتعاده عن الحاضر، وكنا قد قلنا سابقا أن الأمكنة عند السارد في الرواية لها ارتباط وثيق بالتاريخ، ضاربة في جذوره. وعلى هذه التخوم تحاربت قبيلتان هما أيت سعيد وأيت داوود، طيلة عقود، وقد انتهت هذه الحرب البشعة إلى مذبحة، والتمهيد لدخول المستعمر الذي شيد ثكنة فوق الجبل، ووضع حدود بين قبيلتين تعيشان نفس المصير،غلق الحدود وقسوة الطبيعة.
والأفكار التي تمس شيئا عميقا في الإنسان، هي كتربة تتخلق فيها حياة البذور تدريجيا، يقول هذا ليصف لنا تلك اللحظة التي تموت فيها كل إمكانات الحياة، وهنا بدأ هاجس الثورة يسيطر على شعور البطل، إلى الصفحات الأخيرة في ما يشبه السباق المحموم نحو النهاية المأساوية. وهي ترجمة لسيطرة مشاعر الخوف والتوجس والشك على الثوار. وعندما تسيطر غريزة البقاء على النفوس تنتصر فيها على تشكيل التاريخ، ويعيد الخوف تشكيل الحياة من جديد، وهنا تولدت الرغبة في الهرب لدى البطل، بدافع غريزة البقاء.
وأجمل ما في هذا الفصل حديثه عن الشبان الذين تغرر بهم الحياة لطيشهم وحماسهم وعاطفتهم الزائدة، حيث تهيئ لهم أقدار الحياة الحقودة الموت والغياب المبكر ويتركون وراءهم فرحهم وطيبتهم الملائكية. ويتركون وراءهم نساء ينتظرن فوق الربوة، ربوة الانتظار رديفة الأمل، وتحديهم البطولي للزمن، « حيث لا يموت الإنسان بشكل كامل إلا حين لا يبقى هناك قلب يحيا بداخله».وفي عز العطالة التي يعاني منها الثوار، يستقصي الكاتب بعيون الباحث والمؤرخ مقبرة الصور في وادي إيرس، وأحسب أنه يقيم في هذا الفصل رحلة من الحياة إلى الموت عبر تذكره لصور المقاومين الموتى، وفكرة الهرب مازالت تخامره، وفي هذه اللحظات يكتب جويطي أجمل فصول الرواية، وقد أحسن قراءة الصور بشعرية نادرة وحدس كبير وعاطفة جياشة، والبراءة الظاهرة في أربعين صورة لمقاومين خرجوا من غسق الشباب إلى الرجولة الكاملة، تقاسيم الوجه الخجولة، والجدية المفرطة، شموخ الجبل البادي على ملامحهم، زايد لموح، ايعزا باسلام، بوبكر أختار، حمو طوطس، بريك سربوت، امنحد اخنفور… امتلأت صورة المقاومين بالأبدية، تقرأ فيها كل معاني التضحية والإصرار واليقين الذي تبقى لميت، والذي تحوّل إلى مأساة عظيمة، قراءة الصورة كانت هائلة وعظيمة في الرواية كأنها قراءة لمكر التاريخ الذي يحسن دفن مقاوميه في هذه الصور. التاريخ الذي يحدث بمكره وصدفه ذلك الانكسار العميق في دواخل الإنسان وذلك الإحساس بفظاعة ما وقع من أحداث في الجبل المجروح والمنهوك منذ سنة 1912، ، إحساس كل من فقد عزيزا ورأى جثمانه ينتقل نحو القبر أمامه، إحساس مرير لا تستطيع الكلمات وصفه.
وخلال هذه القراءة لصورة الجبل المنهوك، يتضح شكل الثورة التي ستحدث فيه، حيث اليأس يعتصر النفوس ويقذف بهم في فوهة الاحباط. هناك في الجبل حيث المقهورون يفلحون في إيذاء المقهورين مثلهم. وكلاعب ماهر أو من يجيد لملمة خيوط السرد يعود السارد ليواصل الحفر في علاقة التاريخ بالسلطة على لسان القائد المدرك لكنه الأشياء،  حيث حركة التاريخ لا تتوقف على إرادة شخص أو جماعة، وأن التاريخ لا يكون إلا على موعد مع نفسه، والثورة هي حدث صغير وجزء من خيط هذا التاريخ، يقول القائد: «الثورة مقامرة خطيرة، والخسارة فيها تعني الموت».
وبالعودة للبعد السياسي في الرواية تكون السلطة رديفة للبؤس و الأسرار والأحلام والأماني والشكوك، والتحفز والاستعداد لأي شيء، حيث يلبس الأبناء البذلات العسكرية ويشاركون آباءهم عملهم اليومي في الثكنات، وهو ما يفسر ذلك السواد الملغز للنظارة التي يرتديها القواد والجنرالات، ذلك السواد والغموض الذي تبني بها السلط هالتها الكاذبة، حيث السلطة تعاقب عن خوف في ما يشبه العمى، حيث لا تقدر مآلات الأشياء، تبني أسوارها من تراب لتتهاوى تلك الأسوار فجأة، التهاوي المرير المنذر بنهاية جنرال يقع فريسة لأفكاره السوداوية ويتسبب في انقلاب فاشل، أو نهاية كوميسير تراق منه آخر قطرة دم حقيرة بطلقة رصاصة غادرة في يوم عيد الثورة.


الكاتب : الحسين أيت بها

  

بتاريخ : 24/10/2022