ما يميز أعمال ياسين أحجام هو رؤيتة الإخراجية التي يواجه بها المتلقي منذ اللحظات الأولى للمشاهدة الركحية. رؤية تمتلك وضوحا في المرجعيات الفكرية المتحررة، وفي الرسائل المستهدفة من المسرحية، واعتمادا على مدارس رائدة في الإخراج المسرحي أخد منها مخرج المسرحية مسافة دون أن يتخلص منها، ليتساءل عبر هذا العمل: هل أجسادنا مصدر أحاسيسنا ورغباتنا أم العكس، أفكارنا ومشاعرنا هي من يحرك أجسادنا وأهواءنا ؟
هكذا تجلت وتناسلت الأجوبة من خلال المزج بين الأداء البيوميكانيك في الحركة والهرولة والملاحقة، وفي الأداء حد الاندماج مع أحاسيس الشخصيات وتقمصها بشكل عميق، كما شاهدنا أكثر من مرة اثناء رسم اللوحة من طرف الزوجة أو الدوران الصوفي أو التلاشي و السقوط عند ضجعة الموت، ولم يقف التوجيه الإخراجي عند حدود رواد المسرح الغربي، بل تعداه إلى فرجة الحلقة بالحكاية، والراوي الذي أداه بتميز الفنان رشيد العدواني، وبجانبه طبق العزف الحي من الممثل العازف ياسر الترجماني، في تناغم تام وتحفيز مباشر للمشخصين، وهي عناصر نجح المخرج بشكل كبير في توليفها وسبكها في قالب ممتع جميل شد اسماع وألباب المتفرجين طيلة العرض . خصوصا وأن عملية الكاستينغ لفريق متمكن من أدواته التشخيصية، ومتعود على قيادته، منحت المخرج تلك الطواعية والسلاسة في توجيه الممثلين وفق مرجعيته وإرسالياته الفنية، وهو أيضا ما تجلى من أول ظهور للممثلين فوق الخشبة إلى نهاية العرض دون بياضات أو فراغات…
تظهر شخوص المسرحية في حلة شبه غرائبية في مظهرها الخارجي، وفي أفكارها، تحمل حقائب سفر مثقلة بهموم ذاتية متفاوتة الحمولة والشحنة النفسية التي حددت مسار الأداء التشخيصي للزوجين:
تقارب في ذكريات الحب منذ زمن الجامعة، وتباعد في التفكير، وفي تدبير العيش المشترك داخل بيت الزوجية، وبينهما عازف الجيتار يؤثث لحظات العرض المسرحي بإيقاعات متفاوتة الحدة ارتفاعا ونزولا، حسب الأحاسيس المضمرة والظاهرة، الدفينة والطاغية، تماشيا مع الاعتقاد بأن حبة الأكستازيا هي من يمنح السعادة التي توحي بالغناء والرقص، ولعل ذلك ما يبرر حضور العزف الصاخب الى درجة صداع الرأس أحيانا، كأنه عن قصد، نوع من إدماج المتلقي، كي يشاطر شخوص الركح أحلامهم وآلامهم، وإن كنت أرغب كمتلقي أن يمنحا المخرج مساحة من صمت الموسيقي للإصغاء إلى حوارات وأصوات الممثلين بصفاء ذهني أكبر، كما كنت أفضل طلبا لمتعة الفرجة خارج الضرورة التقنية، أن أستمع إلى كلام الممثلين دون مكبرات الصوت، خصوصا وأنها قامات فنية تمتلك من المؤهلات الصوتية ما يمكنها من الأداء الاكثر من الجيد، ووراء كل هذا شخصية مركزية في المسرحية بمثلها الراوي الذي يغذي العرض من حين لآخر بطريقة حكيه ومضامين لغته وحركاته، واستفزازاته ،وتلميحاته الدينية لجمهور التلقي من قبيل توجيه فعل أمر الى الجمهور: “تناكحوا”…
في رحاب الاداء التشخيصي
تشخيص ينتقل من ثنائية الزوجين إلى ثلاثية مع الراوي أو العازف ورباعية تجمع المشخصين في لحظات معينة، تتبادل الحوارات بلغات متعددة، كلاما وصمتا وعزفا وإشارات وحركات أفقية أو دائرية صوفية ومشيا وهرولة وملاحقة الشخوص لبعضها، هروبا أو بحثا عن ذواتها الضائعة، والمغتربة حتى في أشد اللحظات حميمية.
“راوي” يحمل أحذية حمراء ينثرها شتاتا فوق الركح تذكرا أو إعدادا لجلسة حمراء مرت أو قربت، وحقائب سفر تظهر في البداية والنهاية.
“راوي” تقفز بطلة الحكاية فوق ظهره، ويحملها بين يديه منسحبا إلى الوراء، إلى فضاء مجهول تختفي فيه ليؤكد الراوي أنه يخلق الشخصيات ويصيغها، كما يشاء… تموت وتحيا بأمره، لتظهر بأنفاس جديدة.
حوارات بلغة عربية فصيحة، بطيئة في الإلقاء، وبارزة عند حروف الوقف، متقطعة ومتكررة بشكل ممل، تعبيرا عن كآبة اللحظة ،وعتمة الرؤية حاضرا ومستقبلا في كثير من اللحظات.
“تشخيص” متمكن من أدواته وحرفية تعامله، انسجاما وتكاملا بدءا بأداء رائع لرضى بنعيم في دور الزوج الحزين المكتئب، المبهر في تقمصاته ودورانه الصوفي، وفي التعبير عن خوالجه، وعن حياته الميتة، وفي موته الحي بين أحضان زوجته التي أدتها المبدعة قدس جندول التي اكتملت بها الثنائية بإتقان وتفان في لبوس زوجة متحررة تريد الحب ومتعة الجسد، ولا شيء غير ذلك، سامرت زوجها، ورقصت، وغنت، وبكت حين ودعت زوجها على أنغام دوميس روسيس، بعد أن فارق الحياة.
أداء رائع ممتع بفعل التماهي مع الشخصيات في أبعادها النفسية والاجتماعية، ولا يمكن التمييز فيه بين أدوار رئيسة وأخرى ثانوية لأنها جميعها متكاملة في بناء الحكاية .
دور الزوج في شخصية “الرجل المكتئب”، مدرس الفلسفة التائهة بين الأفلام والأزرق، والفاقد لكل معاني الحياة والمحب لزوجته، وفي نفس الوقت الراغب في الإنجاب والنسل كاستمرار في الوجود والخلود، والعاشق للفيلسوف نيتشه مفكر المتعة واللذة وحقيقة الحياة المرتبطة بالجسم في غرائزه وأهوائه، وهو مطلب سيكون مصدر اختلاف عميق بين الزوجين ،
في مواجهة دور “زوجة متمردة” باحثة عن الحب واللذة في أقصى درجاتها، ولا ترى في زوجها سوى جسد رجل من واجبه منح اللذة والمتعة لشريكته ،ولكنه على العكس من ذلك هو جسد منهك القوى، نخره الإدمان إلى درجة التفكير فقط في الانجاب لضمان استمرارية ووجوده في خلف وأطفال، زوجين أديا الدورين بإتقان، سواء في التفاعل بينهما عند تذكر لحظات حميمية مرت كاحلام المساء، أو سراب الطريق، أو في مواجهة لحظات العجز وعدم القدرة على تلبية وإرضاء مطلب الآخر الذي يخنقهما في صمت.
فبقدر ما ما تعاطفنا مع دور الزوج الحائر المكتئب في حياته الزوجية، بقدر ما منحنا دور الزوجة بريق صورة التمرد على كل أنماط الحياة الرتيبة والحركة السائدة في المجتمع دون قناعة أو منطق.
في رحاب الفضاء السنوغرافي
بإخراج حرفي هادف وأداء تشخيصي ممتع وجميل، قدم عبد الحي السغروشني باقتدار سينوغرافيا العرض في تشكيل بسيط ولكنه وظيفي ومكمل سواء في خلفية الجدار الفاصل بين عالمين:
الأول مضاء بتقنية المابينغ في جل لحظاته، يمنحنا عوالم من الأشكال والرسومات، والنوافذ والأبواب تفتح وتغلق تماهيا مع الأحداث والمواقف. يتوسطه باب رئيسي يدخل و يخرج منه الراوي، وبابان جانبيان يلجان منهما الزوجان، وعازف حاضر طول العرض، يتحرك في كل مرة ليراقص الشخوص في شكل “جدية صوفية” حائرة في لحظات وجدانها الروحي .
“عالم آخر” وراء الجدار يبتلع الشخصيات في غيابها ويطرح بدائل لمواقف حزينة ومؤلمة.
“أزياء سوداء” طويلة على نهج المتصوفة ،عدا الراوي بزيه “الاصفر” المتميز الذي يحيلنا على دلالة كتب التاريخ الصفراء، أو ميتولوجيا آلهة الشر والموت المتربص بالانسان .
اجتهادات ناجحة موفقة ساهمت في إغناء العرض ومنحته تدفقا من الدلالات المساعدة على وسم الشخصيات والأحداث بأبعاد فكرية وجمالية اقتضتها الرؤية الإخراجية لياسين احجام.
على سبيل الختم
مسرحية “أكستازيا” كحلقة في سلسلة مشروع مؤسسة أرض الشاون، عمل جميل وهادف قارب مجموعة من القضايا الاجتماعية والنفسية بحس إبداعي وقيم إنسانية نبيلة تبجل قدسية الجسد ومكانة المرأة، وبأداء تشخيصي متمكن دون تكلف أو تصنع وبلغة عربية فصيحة معبرة ولغة دارجة صادقة في نقل الأحاسيس والمشاعر، داخل فضاء سينوغرافي مؤثث بتقنيات الإضاءة المتحركة وموسيقى بعزف حي، وأزياء تقحمنا في عوالم الروح والوجد الصوفي الحائر. مع الإشارة إلى البحث وإعادة النظر في البناء الدرامي للنص الذي يبدو أحيانا منشطرا الى نصفين، مابين الراوي الحاكي عن الميتولوجيا ومابين شخوص تؤدي بواقعية فوق الركح ، بإعداد دراماتورجي قد يجد لحمة لشروخ النص ،وهذا لا ينقص للعرض فرجة ومتعة المتابعة.
(*) باحث مسرحي