أرسى الشاعر والأكاديميّ المغربيّ أحمد هاشم الريسوني تجربة شعريّة رصينة في التحديث الشعري العربي، جمع فيها بين البحث العلمي في مدار قضايا الشعر الحديث، والمساهمة الذاتية عن طريق النظم فيه وفق رؤية خاصة للشاعر والقصيدة، بيد أنه لم يكن لهذه التجربة المنفتحة والرؤية الحصيفة أن تبزغا للوجود لولا التراكم المعرفي الذي راكمه شاعرنا – أحمد هاشم الريسوني – في القراءة والبحث و التنظير والكتابة، وإيمانه التليّ بأطروحات بعض رموز التحديث الشعري بحثا ودراسة، وتعكس هذه التجربة التي راهن عليها الشاعر أحمد هاشم الريسوني إسهام الشعراء المغاربة في التحديث الشعري العربي أسوة بباقي النماذج المغربية والعربية التي رامت الدفع بهذا الاتجاه إلى الأمام، وهو ما يتبدّى جليا في كثير من الأمثلة، منها نموذج محمد الصباغ الفذّ الذي تقصّى شاعرنا تجربته الشعرية من مختلف جوانبها : المولد، التعليم، الصحافة، الترجمة.
باشر الشاعر أحمد هاشم الريسوني تعاطي الشعر في مرحلة جدّ مبكرة من حياته، بالقراءة لمختلف الشعراء الذين ساهموا في انبثاق ذائقته الشعرية (الشعر العربي، الشعر المغربي، الشعر الأندلسي… )، ومن مختلف الاتجاهات الأدبية والفلسفية الأخرى بدءا من الأدب، ومرورا بالنقد، وانتهاء بالفلسفة التي ينهض عليها أساس تصوّره عن الشاعر. ولم يكتف الشاعر والأكاديمي أحمد هاشم الريسوني بالكتابة والبحث في التحديث الشعري، بل تولّى بحنكة تقديم دروس جامعية تعنى بالأدب الحديث في الجامعة المغربية، من خلال المحاضرات التي يقدّمها للطلبة في اتجاهات الشعر الحديث ونماذجه، فضلا عن الإشراف على الأطاريح والأبحاث، والسهر على تنسيق وتنظيم ملتقيات علمية، رام الكثير منها – في مساره المديد بالتجارب العلمية – الاحتفاء بتجارب إبداعية مختلفة في الأدب نثرا وشعرا.
بزغ فجر الشاعر والأكاديمي المغربي أحمد هاشم الريسوني في الثالث من يوليوز 1960 فوق مرتفع مطلّ على بحر مدينة أصيلة الشاعرية غربا، وعلى طبيعتها الجبلية شرقا، كان مثله في الشعر والحياة طرفة بن العبد، أما في المغرب، فقد ظل يحاصره رمز عتيد، تمثّل في الثائر والمجاهد المغربي مولاي أحمد الريسوني، وكان من مُثله الخالدة المعتمد بن عباد و لسان الدين بن الخطيب و مالك بن المرحل السبتي وابن زنباع، وفي الشعر المغربي المعاصر أحمد المجاطي وعبد الكريم الطبّال ومحمد السرغيني وغيرهم.
جمع بين الومق ببحور الشعر والشغف ببحور الشمال المغربي كأصيلة وطنجة، بعد حصوله على البكالوربا في الآداب سنة 1982، تابع دراسته بمدينة تطوان العامرة إلى أن حصل على شهادة دكتوراه الدولة سنة 2002 في موضوع خصّ به إبداعية الكتابة/ دراسة في التحديث الشعري عند محمد الصبّاغ، أولى أهمية بقراءة الأدب والفكر والتنظير، وعكف على نظم الشعر، والنشر في الملاحق الثقافية بالصحف والمجلات، تخلل مساره الممتدّ إصداره مجموعة من الدواوين، ” الجبل الأخضر” (1998)، “النور” (1999)، “مرتيليات” (2000)، ” لا ” (2012)، ” هذا البيت” سنة 2019.
يرى شاعرنا أحمد هاشم الريسوني أن الشاعر ممتدّ بأثره بعد اندثار كل أثر، كما يصفه بمرآة الذات في كينونته السرمدية، ودليله في ذلك ما قال به أرسطو عن نظر الشاعر إلى الكليات، ومارتن هايدغر الذي يرى أن الشعر أسبق من الوجود، تمرّد الشاعر أحمد هاشم الريسوني على النمطية ببحثه المتواصل عن أشكال جديدة يرفض من خلالها وضع الشاعر داخل قوالب جاهزة.
وفي إجابته عن سؤال ” لماذا يكتب؟ ولمن يكتب؟ ” من خلال الحوار الذي أجراه مع الناقد والشاعر عبد اللطيف الوراري ردّ قائلا: ” سؤال الذات في علاقتها بالوجود والموجودات هو الحافز الكبير الذي يدفعني للكتابة … والشعر هو تعبير عن الذات في علاقتها بالوجود”، مبرزا أن ما يكتبه أولا لذاته رغبة في أن يكون أول قارئ لتجليات علاقة ذاته بالوجود، ومن ثم يكتب لباقي الذوات الشبيهة بذاته، وموضحا أن الفرادة المطلقة لا توجد سوى في الذات الإلهية.
شكّلت تجربة محمد الصبّاغ نموذجا مهمّا في التنقيب لدى الشاعر أحمد هاشم الريسوني، إذ تتبّع باستفاضة التحرّي فضاء تطوان، وتقصّى مسار الشاعر محمد الصباغ منذ ولادته وتعليمه إلى صلته بالصّحافة المغربية أو العربية والإسبانية، فضلا عن علاقاته ومراسلاته مع الشعراء شرقا وغربا، والاتجاهات الأدبية التي تأثّر بها، وتحليله لمفهوم التحديث الشعري وتشكّلات اللغة والأسلوب في كتاباته النثرية والشعرية، نتج عن ذلك إصداره كتاب ” إبداعية الكتابة : دراسة في التحديث الشعري عند محمد الصباغ” عن منشورات سليكي أخوين بطنجة سنة 2012، والذي ينضاف إلى دراسته الموسومة بعنوان ” الشعر العربي المعاصر بالمغرب جدلية الاختلاف والائتلاف” عن منشورات اتحاد كتاب المغرب2011، قارب من خلالها القصيدة العربية المعاصرة بالمغرب من الثمانينيات إلى أوائل التسعينيات، واعتمد فيها على دراسة الشعر المكتوب بالعربية الفصحى، وأبعد كل ما كتب بالدارجة، أو الذي كتب بلغة أجنبية من قبل الشعراء الذين يكتبون بلغات أخرى، وتمثلت المرجعيات التي اعتمدها في انتقاء متن الدراسة في الدواوين التي طبعت منذ بداية الثمانينيات، بالإضافة إلى الملاحق الأدبية للصحف والمجلات، مركزا على قصيدة التفعيلة، أما في سنة 2016 فقد أصدر ” قراءات: ترانيم في شعرية المنتهى .. صحبة شاعرات وشعراء من المغرب”.
أولى الشاعر أحمد هاشم الريسوني أهمية للشعر المغربي الحديث، وقاربه من خلال مسألة التجديد في البنيات، خصوصا قصيدة النثر، وعلى الرغم من أنه قد عدّ الخوض في هذا الأمر محفوفا بالمخاطر والأهوال من كل جانب، إلا أنه شرع في التمييز بين الشعر والنثر، مبرزا بتأمل ما أسماه الحصون والقلاع والمتاريس التي شيّدها القدماء لحماية مملكة الشعر، وانتهى إلى التأكيد على تعصّب أصحاب الشعر لبضاعتهم وخشيتهم من غزو جمهورية النثر، على الرغم من أنه يرى أن الشعر ما يزال مملكة باذخة لا يعتلي عروشها إلا النخبة من عشاق المملكة الساحرة، أما النثر فهو جمهورية مشرعة أمام كل من استطاع معانقة دلالة الكلمة.
يرى الشاعر أحمد هاشم الريسوني أننا ما زلنا نستعيد أراء القدماء وأفكارهم، مؤكدا أن النظم والوزن من السمات الدالة على شعرية النص، ويرى أنهما ظلتا في الحضور بقوة في كل تعريفات القدماء والمحدثين، وقد مثّل لذلك بتعريف ابن طباطبا الذي قال إن الشعر كلام منظوم بائن عن المنثور، وحازم القرطاجني الذي رأى أنه قدّم تصوّرا جديدا لمفهوم الشعر، غير أنّه ربطه بالوزنية في قوله أن الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبها إليها، ويكره إليها ما قصد تكريهه لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه، بما يتضمن من حسن تخييل له. ويرى الشاعر أحمد هاشم الريسوني أن هذا التصور لم يقتصر على البلاغيين والشعراء، بل حتى الفلاسفة كانت لهم نفس النظرة، وربما بشكل دقيق لفواصل الشعر، ويتأمل في رأي ابن سينا الذي خلص إلى أنه يكاد يحسم في بناء مفهوم متكامل ومنسجم للشعر من خلال العناصر التي تؤسس لمفهوم الخطاب الشعري: التخييل، الإيقاع، الوزن، القافية، الكلام أو اللغة، تأسيسا على قوله إن الشعر كلام مخيل مؤلف من أقوال ذوات إيقاعات متفقة، متساوية، متكررة على وزنها، متشابهة على حروف الخواتم، فالكلام جنس أول للشعر يعمه وغيره، مثل الخطاب والجدال، وسائر ما يشبهها.
يرى الشاعر أحمد هاشم الريسوني أن المغرب يعد نقطة انطلاق صحيحة لنثيرة الشعر على المستوى العربي، في شخص الشاعر والمبدع الأنيق محمد الصباغ، بناء على مجموعة من المقاييس؛ أولها أن كل النقاد والدارسين أجمعوا إجماعا تاما على أن كتابات محمد الصباغ فيها من الشاعرية ما يبوئها أن ترقى إلى مستويات الكتابات الشعرية المتألقة، ودليله في ذلك اعتمادها على الصورة التخييلية وتوظيف الصورة الرمزية والإيحائية، واللغة الإشراقية؛ ثانيها أن الصباغ ظل مولعا بالعبارة الموجزة التي تختصر القول وتكثف الصور وتلم العالم، وثالثها أن الصباغ لم يكن غريبا على فضاء الترجمة، بل كان أقرب الناس إليه، وقد عرف بترجمة الشعر؛ ورابعها أن فضاء تطوان الذي عدّه مركز التقاطع في المستويين الثقافي والحضاري الإسلامي العربي، والمستوى الثقافي الحضاري والحضاري المسيحي، هذا الالتقاء الذي خلق نوعا من التلاقح والتجدد والتطور، بالإضافة إلى آفاق الشعر التي تمثلت في الشاعر محمد الصباغ؛ وخامسا يرى الشاعر أحمد هاشم الريسوني أن قصيدة النثر ليست مغربية محض، مثلما يدّعي اللبنانيون زورا وبهتانا، بل إن نشأتها العربية تتعلق بتحولات متعددة ومتنوعة في جغرافية الشعر عند أكثر من شاعر، ومنهم علي أحمد باكثير من مصر، أدونيس من سوريا، أنسي الحاج من لبنان، محمد الصباغ من المغرب وغيرهم.
التحديث الشعري في تجربة الشاعر المغربي أحمد هاشم الريسوني

الكاتب :
بتاريخ : 03/09/2020