«التخييل موضوعا للتفكير» لعثماني الميلود

 

تناول لعثماني في بداية كتابه «التخييل موضوعا للتفكير» إشكالية أساسية تتمثل في التداول الواسع لمفهوم التخييل بعيدا عن أي تحديد له، والمقصود به؛ أو الوقوف على أدواره المعرفية وعلاقته بالعلوم الإنسانية، ومن ثمة الدعوة إلى مقاربة مندمجة لإشكالية التخييل، ثم رصد مفهوم التخييل في التراث الفلسفي التحليلي، ووضع ضوابط محددة له، وأخيرا حاول عثماني أن يتتبع مفهوم التخييل في التاريخ في إطار ما يعرف بالتخييل التاريخي تبعا لمنظور «ما بعد حداثي»، مؤكدا أن ربط التاريخ بالتخييل ليس المقصود به الرواية التاريخية مثلما يذهب إلى ذلك بعض الباحثين، وإنما الأمر يتعلق باستكشاف «براديغم» جديد ومختلف عن المنظورات الكلاسيكية والحديثة. وتبعا لذلك نهج لعثماني مقاربة سياقية للدينامية التخييلية، بإرساء أسس معرفية جديدة لفهم الأعمال التخييلية، وتحليلها وتأويلها .

منهج الكتاب

إن التأمل للكتاب، يكشف أنه لم يحدد منهجا معينا لمقاربته؛ إذ نجده يوظف المنهج التاريخي في تأريخه وتحقيبه لمفهوم التخييل عبر العصور، كاشفا عن ميلاد المفهوم وتطوره وتشكله، ثم استقلاله كنظرية، وارتباطه بالتاريخ. وللمنهج التفسيري؛ حيث يفسر المقصود التخييل ويحدد أدواره المعرفية، وعلاقته بالنظريات النقدية الحديثة، وبالعلوم الإنسانية، وبغيرها من التخصصات المعرفية أخرى؛ كالفلسفة والتاريخ، وعلاقته أيضا بنظرية العوالم الممكنة، كما يقف لعثماني بشكل موسع على علاقة التخييل بالتاريخ، موضحا أن التخييل التاريخي يختلف تماما عن الرواية التاريخية. وبذلك يكون قد اتخذ منهجا نقديا متكاملا يقوم على السعي إلى تفسير مغالطات سائدة في فهم نظرية التخييل التاريخي.
وتبعا للغاية والأهداف وأسئلة الكتاب قسم الناقد كتابه إلى ثمانية فصول، يمهد لكل فصل بمقدمة وينهيه بخاتمة، يحمل كل فصل عنوان مثلما يتجزأ إلى عناوين أخرى فرعية مرقّمة:
* الفصل الأول «التخييل… مفهوم إشكالي»: يقدم الفصل إضاءة حول مفهوم التخييل، سيما أن المفهوم في نظر الناقد وتصوره يستعمل بشكل فضفاض وغامض، محاولا الإحاطة النقدية بمعظم المقاربات النقدية والمعرفية التي عالجت المفهوم، فكشف عن أسسها ومرجعياتها، وبين محدودية تصورها عن التخييل، مبرزا على أن هذه النظريات لا تخرج عن ثلاثة أصناف: إما نظريات أفلاطونية دلالية وجودية، أو صيغة من صيغ المحاكاة تخلط بين التخييل والأدب، أو مقاربات لسانية منغلقة لا تهتم بالسياق.
* الفصل الثاني»التخييل والنظريات النقدية الحديثة»: خصص لعثماني الفصل لعرض أهم النظريات النقدية المتعلقة بالتخييل ومنها: مقاربة طوماس بافيل الفلسفية: الفلسفة والواقع، والمقاربة السيميائية لأومبرطو إيكو: التخييل والتأويل، ثم المقاربة السردية لجيرار جنيت: التخييل والصورة، والمقاربة السيبرانية: التخييل والفبركة.و بين الناقد صيغ اشتغال هذه النظريات، وكيفية تنظيرها لعملية الإبداع وإنتاج الحكاية، وصيغ تأثيرها على القارئ.
* الفصل الثالث المعنون بـ «التخييل، الإبستمولوجيا والعلوم الإنسانية»: تناول فيه الناقد إشكالية التخييل ودوره المعرفي، إذ سعى من خلاله إلى صياغة مفهوم التخييل من من وجهة نظر نقدية تاريخية، بالنسبة للنقاشات الإبستمولوجية في العلوم الإنسانية، ثم استخلص خصائص ممارسة كتابة تخييلية وممارسة كتابة علمية، من أجل الكشف عن صيغ بناء المعارف في العلوم الإنسانية.
* الفصل الرابع الموسوم «بالتخييل، مقاربات فلسفية، وأنثروبولوجية وأدبية»: سعى الناقد إلى إرساء دراسة جديدة لإشكالية التخييل تقوم على النمدمجة، بحيث يتم النظر إلى النشاط التخييلي من زوايا متعددة ومتكاملة.
* الفصل الخامس حول «التخييل والفلسفة والتاريخ»: سعى من خلاله الناقد إلى تقديم مقترح إمكانية معالجة التخييل والفلسفة والتاريخ من منظور إبستمولوجي، قصد التفكير في أوجه الشبه التي تربط هذه التخصصات.
* فيما نحا الفصل السادس الذي عنونه الناقد بـ «نظرية التخييل والعوالم الممكنة»: إلى الكشف عن العلاقة بين التخييل والعوالم الممكنة، مركزا بالخصوص على نظرية الواقعية الجهية المنسوبة لديفيد لويس، باحثا عن الأسباب التي جعلتها أكثر تأثيرا في نظرية التخييل.
* وخصص الناقد الفصل السابع المعنون بـ «التخييل الأدبي التفاعلي»: للوقوف على صيغة التخييل الأدبي التفاعلي.
* وسعى في الفصل الثامن والأخير «التخييل التاريخي من منظور ما بعد حداثي»: إلى تقديم معالجة مفهوم التخييل التاريخي من منظور ما بعد حداثي.

أسئلة الكتاب

يطرح الكتاب إشكالية ماهية التخييل في علاقتها بالنظريات الفلسفية والنقدية والعلوم الإنسانية، ثم علاقة التخييل بالتاريخ، وقد عبر عن هذه الإشكالية بمجموعة من الأسئلة الموزعة عبر فصول الكتاب بشكل صريح واضح أو باستضمارها، فجاء كل فصل على صيغة مقال مستقل، ومتكامل في الوقت نفسه، مع غيره من فصول الكتاب. ويمكن أن نتتبع أهم الأسئلة التي حاول عثماني الإجابة عنها في كل فصل كالآتي:
1- ما التخييل؟ متى ظهر مفهوم التخييل؟ كيف يمكن اعتباره كفاية ذهنية؟ لم الاختلاف والتذبذب في تحديد مفهوم التخييل؟ وما هي المعايير التي تسمح لنا بالحكم بميزة التخييل واختلافه، وهل هي معايير جوهرية، أم لاحقة؟
2- ما هي أهم النظريات الفلسفية للتخييل؟ كيف نظرت للتخييل؟ وما أوجه التشابه والاختلاف فيما بينها؟
3- ما رهانات هذا الجمع بين التخييل والعلوم الإنسانية؟ ما أهمية التخييل بالنسبة للعلوم الإنسانية؟ وما العلاقة الموجودة بين التخييل والبعد الخيالي؟ ثم ما صلة التخييل بالمد المثالي؟
4- ما أهمية البحث المتعدد الاختصاصات؟ وما رهاناته؟
5- ما المقصود بالمعرفة بالنسبة للتخييل والفلسفة والتاريخ؟ وهل ثمة حوار ممكن بين هذه التخصصات؟ وكيف تبنى المعرفة في هذه التخصصات؟
6- هل التخييل قوة لإنتاج العوالم؟ هل هناك روابط بين تلك العوالم وعالمنا؟ ما مدى أصالة نظرية ديفيد لويس بخصوص التخييل؟ وهل هناك صلات بين العوالم الممكنة وعوالم التخييل؟ وهل مازالت مقترحات هذه النظرية صالحة إلى اليوم لنظرية التخييل؟
7- ما الإطار النظري الذي يسعف على تحليل التخييل الأدبي التفاعلي؟
8- هل الرواية التاريخية هي التخييل التاريخي؟ أم أن الأمر يتعلق بتبديل في المفاهيم فقط، أم يتعلق بالانتقال من براديغم كلاسيكي إلى براديغم ما بعد حداثي؟ ما العلاقة بين الحداثة والتخييل التاريخي؟
هذه أسئلة من عدد كبير من الأسئلة التي تؤطر القارئ لنص الميلود لعثماني عبر فصول يحكمها تحديد واضح لمفاهيم الاشتغال ومنهج نقدي يقوم على التكامل والتفاعل بين المعارف في الإحاطة بمفهوم التخييل باعتباره موضوعا وفي علاقته بغيره من حقول المعرفة العلمية.

نتائج الكتاب

بعد تحليل نقدي موسع، خلص الناقد من خلاله إلى مجموعة من النتائج، نجملها فيما يلي:
-الدعوة إلى نموذج موسع للتخييل يتجاوز النظريات والمقاربات الأفلاطونية الصرفة والنظريات الأرسطية التي اعتبرت التخييل مجرد صيغة من صيغ المحاكاة. وكذلك النظريات اللسانية المغلقة، ويهتم في المقابل بالتحليل السياقي التداولي.
-ضرورة التمييز بين الأدب والتخييل؛ فالتخييل موضوع تطبيقي، منظم، في حين يكون الأدب قضية تعني المؤسسة الثقافية، وهو ما يقتضي تأويلا مناسبا.
-انتقلت المنظورات المؤسِّسة لفلسفة التخييل والفن من الاتجاه الوضعاني التنميطي إلى الاتجاه البنائي الذي بدوره يسقطنا في فخ المثالية، فكان الاتجاه التداولي هو القادر على تمثيل خصوصية التخييل، حيث يأخذ بعين الاعتبار طريقة الاستعمال التي نوظف بها تمثيلاتنا حول العمل التخييلي، وتسمح لنا بالتمييز بين التمثيلات العلمية، والتمثيلات التخييلية.
-ضرورة وضع نمذجات تلقي النصوص التخييلية والنصوص العلمية، حتى يتسنى التمييز بين أنواع القراءات حسب نوع النصوص.
-ضرورة التفريق بين النصوص العلمية والنصوص التخييلية من خلال استخلاص مفهوم المتعالي النصي الذي يكون هو العنصر المؤسس للنص والمحقق له.
-مفهوم التخييل مفهوم متشعب، فيه اختلاف كبير، مما يصبغه بطابع إشكالي، الشيء الذي يتطلب من الباحث المجد أن يجوّد نظره لهذا المفهوم حتى يقدم تصورا واضحا ودقيقا له، فيتجاوز التصورات الفضفاضة والغامضة للمفهوم.
-إذا كان التخييل استحضارا لعوالم تخييلية، ولا يتضمن أية حمولة معرفية، فإن الفلسفة تضع معرفتها على مستوى المعارف الأولى، أو إذا أردنا المعارف الميتافيزيقية، فإن المعرفة التاريخية هي إعادة بناء وقائع من الماضي.
-ضرورة وضع نمذجة رمزية تجمع التخصصات الثلاثة: الفلسفة التاريخ والتخييل، وذلك من خلال إرساء حوار بين المشتغلين في هذه التخصصات.
-إن ربط نظرية العوالم الممكنة بالتخييل يمكن أن ينظر إليه كتطبيق لنظرية على موضوع.
-إن النصوص التخييلية هي عوالم تشيد نصوصا، وهو ما يعني أن حالات الموجودات التخييلية لا تأخذ قيمتها إلا إذا بنيت داخل النصوص.
-يتجلى الإطار النظري الذي يُمكن من تحليل التخييل الأدبي التفاعلي في التركيب بين السرديات الشكلية والتيماتيكية، والسيميائيات ونظرية الفعل وسوسيولوجية الأدب.
– لا بد من تجاوز الخلط الذي وقع فيه الباحثون حين اعتبروا أن مفهوم التخييل التاريخي هو البديل لمفهوم الرواية التاريخية، فكان الخلط مصدر مغالطات كثيرة في نظرية التخييل على المستوى النظري والتطبيقي؛ بحيث استمرت نفس المفاهيم الكلاسيكية المعتمدة في الرواية التاريخية في التخييل التاريخي، في حين أن الأمر يتعلق بالانتقال من براديغم قديم إلى آخر جديد قائم على نظرية ما بعد الحداثة، التي ترفض أي مرجع خارجي، وترى أن أفضل مرجع للنص التخييلي هو النص ذاته.
ويمكن القول بأن كتاب عثماني الميلود «التخييل موضوعا للتفكير»، عالج إشكالية التخييل وأدواره المعرفية ونظرياته النقدية، مقترحا مقاربة سياقية تداولية لهذا المفهوم.

– عثماني الميلود، التخييل موضوعا للتفكير، شركة النشر والتوزيع المدراس، الطبعة الأولى، 2022،ص 224.


الكاتب : إعداد: نادية بوراس

  

بتاريخ : 20/07/2022