لعبت اللغة العربية دورا كبيرا في أسلمة جزء كبير من دول إفريقيا جنوب الصحراء، وتجلى ذلك في كون هذه البقاع انتشرت بها الكثير من الطرق الصوفية المبنية على الاعتدال الذي هو عماد المذهب المالكي المنتشر على نطاق أوسع في دول المغارب، والملاحظ أن اتصال العرب بإفريقيا جنوب الصحراء حدث منذ أقدم العهود، فاليمن القديمة وصل نفوذها السياسي إلى القرن الإفريقي والحبشة، كما كانت علاقة غرب إفريقيا بشمالها قديمة، ونظرا لأن إفريقيا تأسست بها دول و ممالك ذات جذور عربية إسلامية، فقد كان لذلك دور كبير في تطور اللغات الإفريقية كلغات هجينة عربية، وقد لعب في هذا أيضا دور التصاهر بين العرب و الأفارقة، أضف إلى ذلك الدور الحاسم للعلاقات التّجارية التي كانت وسيطا بين الدول العربية ونظيرتها الوثنية.
يعتبر ميلاد الإسلام، وتطوّر الحضارة المرتبطة به نقطة تحول حاسمة أعادت إلى الحساب ماضي التّأثير العربي لغة وثقافة؛ ليصل العمق الإفريقي وأقاصي الغرب منه.وعلى هذا الأساس فاللّغة العربية لم تكن مجهولة عند الأفارقة، وإن كان معظمهم لا يتقنونها، ولكنّها كانت فقط مجرد لغة للتّفاهم مثل اللغات الأخرى. غير أن ظهور الاسلام باللسان العربي انتقل بهذه اللغة من مجرد لغة للحديث إلى لغة مقدسة. ونتيجة لذلك ، تأثرت العديد من اللغات العالمية باللغة العربية ، وكان من بينها اللغات الإفريقية بصفة عامة. ويعتبر التصوف العنصر الأساسي الذي أشاع الثقافة العربية في هذه البقاع وبخاصة التصوف التجاني السني الذي وجد إقبالا لم يعهد له نظيرا مقارنة مع الطرق الصوفية الأخرى. تحاول هذه الدراسة البحثية الاجابة عن سؤال محوري؛ كيف ساهم التصوف التجاني في أسلمة إفريقيا جنوب الصحراء؟ وكيف ساهم في نشر اللغة العربية على نطاق واسع خاصة وأنه اعتمد في متونه على المذهب المالكي والعقيدة الأشعرية؟
أ/أسلمة بلاد السودان الغربي ودور الطريقة التجانية والمذهب المالكي في ذلك:
تزامنت الصحوة الثقافية لبلاد السودان الغربي مع حدث انهيار الحضارة الإسلامية العربية، وهو ما انعكس سلبا على الوضع الثقافي بهذه البقاع بشكل سلبي. حيث وجدت صعوبات جمة منعت من الانتقال من مرحلة الإنتاج الثقافي الشفهي إلى مرحلة التدوين والتأليف. وهذا يعزى إلى عدة عوامل لعل أهمها الانتشار السلس للإسلام بدون سيف أو إكراه أو ترهيب عكس ما حدث مع تجربة شمال افريقيا زمن الدولة الأموية، والتي تلاها زخم كبير من المؤلفات حول تاريخ الإسلام ومنها ما أنجزه المسعودي والطبري واليعقوبي وابن هشام، فالدولة ومن خلال مؤسساتها التشريعية والقانونية تنعكس أحكامها على الأوضاع الثقافية لبلد ما وهو مالم يحدث ببلاد السودان الغربي. وبالنسبة لحالة السودان فمعلوماتنا عن الذين نشروا الإسلام تكاد تكون منعدمة على الأقل إلى حدود نهاية القرن السادس عشر الميلادي . وبالمقابل فالعمليات العسكرية التي قادها جهاديون أفارقة كما هو الحال بالنسبة لأَسْكَيا محمد (1493ـ1528) وإدريس ألوما (1564ـ1596)، والراجح أن السلاطين الذين قادوا عمليات الجهاد كان هدفهم بسط سيطرتهم على تجارة الرقيق والذهب ولم تكن تحركاتهم تروم إلى نشر الإسلام عبر قنوات كالفقهاء وشيوخ الزوايا والأئمة والوعاظ، بل أن أقصى مافعلوه هو إجبار القبائل الوثنية على أداء القسم بالقرآن كمؤشر لتحولهم من وثنيين إلى مسلمين. ومهما قيل عن هذه الفترة إلا أنه يبدو أن الدولة لم تتعاطى مع الإسلام كدين سيوحد قبائل السودان الغربي إلا بعد انهيار الامبراطوريات مابعد القرن 16، حيث أن الفترة الحديثة والمعاصرة شهدت بناء أَنْوِيَة المراكز الدينية لترسيح الثقافة الإسلامية سيما مع الشيخ عثمان بن فودي (ت1817)أو مع الشيخ محمد الأمين الكانامي(ت1837). من جهة أخرى فثقافة المدارس العتيقة التي تعود جذورها إلى منتصف القرن 13ميلادي لم يكتب لها الوجود بالسودان الغربي على اعتبار أن المسجد كانت بمحاذاته الكتاتيبالقرانية، كما أن ضعف عملية التعريب وغلاء الورق زادا من استفحال أمر التدوين والتأليف باللسان العربي مما حال دون انتشار الثقافة العالمة العربية بشكل كبير. إن الوضع الذي ظل عليه انتشار الإسلام يقربنا منه الرحالة الذين زاروا المنطقة وفي مقدمتهم ابن بطوطة الرحالة المغربي؛ ففي كتابه «تحفة النظار» يقدم الرجل شهادته حول تصور الأفارقةللإسلامبشكل يتنافى ومبادئ الشريعة الإسلامية إذ ظل الخلط سائدا بين الدين الإسلامي والتقاليد والعادات التي توارثها أبناء المنطقة أبا عن جد.كما أن ضيق المجال الحضري وانهيار طرق التجارة الصحراوية وأخيرا هناك عامل كان حاسما لصالح تدني المستوى الثقافي لبلدان السودان الغربي، ففي الوقت الذي استرجعت فيه هذه البلدان أنفاسها لتعلن نخبها بداية التمرس في عملية التأليف والتدوين تراجع المستوى الثقافي والحضاري للمغارب بفعل التغلغل الايبيري مما انعكس سلبا على عملية التبادل الثقافي بين هاذين القطرين بشكل وصل إلى حد القطيعة.
ومع نهاية القرن الثامن عشر الميلادي لوحظت متغيرات جديدة كانت في صالح الحركة الثقافية نتيجة تضافر عدة عوامل منها ماهو ديني – اقتصادي وماترتب عنهما من تغيير للبنى الاجتماعية والسياسية، ويمكن إجمال هذه التغيرات في الضغط الذي مارسه الايبيريون لتقويض تجارة الرقيق والذهب، وانهيار الدول السودانية المركزية مما ساهم في تلاشي أنظمة الحكم القوية والتي عمرت لعدة قرون هذا بالإضافة إلى تراجع دور المدن وهو ما سيؤثر على الفعالية الثقافية التي انتقلت بوزنها إلى أرياف المدن، وخلال هذه الفترة عرفت بلدان السودان الغربي ميلاد ما يسمى بالإسلام الشعبي البعيد كل البعد عن نظيره الإسلام العالم؛ هذا التحول كان له دور في إيقاظ الحركات الدعوية ذات البعد الإصلاحي.