حيثما وجَّهت ناظري إلى الوجود، اعترضني عصف ذهني لا سبيل للفكاك منه، أذم الساسة والسياسة، أمقت سدنة المال والاقتصاد، لكني أجد نفسي من حيث لا أدري منخرطا في مستنقعهم المقيت، أسعى لأن أكون مستنيرا جهد الإمكان، فيعصف بي واقع العامة نحو التطرف والتشدد.
يجب أن أعترف بأن قراءة التراث تتطلب نفسا طويلا، ودُربة جريئة على هدم فانتازمات علم الاجتماع الديني، تنأى بالقارئ الحصيف عن تلك القراءات العُصابية التبجيلية، أو حتى تلك القراءات التحقيرية، وكلاهما في نظري خياران انتحاريان، بما لهما وما عليهما من شد وجذب، شخصيا أستعيض عنهما بقراءة ثالثة، هي تلك أسِمُها بالقراءة العقلانية، التي تجعل من تأويل النص الديني مطلبا تنويريا وجوديا للانعتاق من حالة التكلس والجمود على الموجود.
تصوري في ذلك، لا ينفصل على أن مشكلتنا لا تمكن في التراث، وإنما في تلك الصلة التي نبنيها حول التراث، في تمثلنا الرغائبي الذي يسكن قراءتنا له، في انتقائيتنا التي تعدم أشياء وتحتفظ بأخرى، التي برزت في سياق هيمنة السياسة على الدين من أجل تثبيت عضد السلطة، أوَ ليس عين الانتقاء فعل إديولوجي بامتياز كما يقال؟ لماذا نستبعد من تراثنا الموروث الإعتزالي والتراث المنطقي الفلسفي ونحتفظ بالموروث الفقهي؟ يبدو أننا غير معنيين بالتفكير في منطق التناقض الذي ننتجه.
كل تنوير عليه أن يقرأ التراث في كليته وشموليته، وتلك غاية وجودية، يجب أن يقرأه بنظرة تاريخية وزمنية، فالناس أبناء زمانهم كما يقول مؤرخ الحوليات مارك بلوك، والتراث بما هو ماضي يبقى محايدا، ونحن من نبعث فيه المعاني والدلالات، نحن من نعيد إلباس الشخوص أثوابا جديدة وأدوارا جديدة، المشكلة يا سادة ليست في إبن تيمية وغيره، وإنما في الذين يجندون إبن تيمية في معاركهم من أجل السياسة، ابن تيمية إبن زمانه ومكانه، يقرأ في عصره وفي ضوء ثقافة عصره، يجب أن نترك التراث لتاريخه، أوَ لم يقل علي بن أبي طالب ذات مرة أن القرآن مصحف بين دفتين، فما بعد النص القرآني يتطلب العقل، وما بعد الدعوة ليس سوى رأي قابل للتأويل.
مأخذي على نفس الانتقائية يتجه كذلك صوب خطاب الحداثيين، لماذا يحضر الوليد ابن رشد وابن خلدون ويغيب اخرون؟ يجب أن ننتبه إلى عمق الاقصاء في ذاتنا الحضارية.
الفتوحات في تاريخ الإسلام كانت لأغراض سياسية وليست دينية، توسع دولة الإسلام وليس الإسلام ذاته، كان مفهوم الجهاد في صدر الاسلام مرتبطا بجهاد الدفاع عن دولة الإسلام، وكانت الفتوحات محاولة لترغيب الناس في خيرات وغنائم الأرض، وإلا كيف يمكن أن نفهم قبول المختلفين من غير المسلمين ضمن دولة الإسلام بشرط اداء الجزية؟
يجب أن نقرأ الفتوحات كمصلحة ومنفعة، خلقت خلافا بين بين عمر بن الخطاب وسعد بن أبي وقاص حول اقتسام الغنائم، فرد عليه عمر « الأرض لا تقتسم بين المقابلة، وإنما الدولة هي التي تقتسم الغنائم»، وربما قد تكون أول عملية تأميم للأرض في التاريخ الانساني، حيث منطق المصلحة المادية هو محرك للتاريخ.
فقهاء الشام أقروا المرابطة بالثغور لمواجهة الغزو البيزنطي لدار الاسلام، موقف يقرأ في سياقه، موقف سيتطور تاريخيا مع بعض الفقهاء إلى درجة اعتباره فريضة غائبة عند بعض أدبيات الإسلام السياسي ، قد يقاس بمماثلة تاريخية بشكل أو باخر مع الحرب المقدسة التي باشرتها الكنسية الكاتوليكية ضد مسلمي الأندلس في العصر الحديث، علينا أن نقر أن نحث مفهوم الجهاد ارتبط بالغزو والفتح، لم يكن هاجس النبي حربيا، لا عدوانيا ولا توسعيا، وإنما كان دفاعيا إجباريا.
علينا أن نعي أن الدعوة وظيفة نبوية حصرية، فالنبي صاحب رسالة، وكل دعوة جديدة لها هي ممارسة السطو على وظيفة هي للنبي وحده، كل تجدد في الدعوة يفضي بالضرورة إلى أن النبوة لم تختتم، كل دعوة اليوم تعدو اديولوجية بالأساس، الدعوة انتهت مع صاحبها، وكل محاولة لتجدديها اعتداء على منصب النبوة.
نعيش فجوة بين التحديث والحداثة، نعيش تحديثا بلا حداثة، بينما الغرب ثمرة حداثة بتحديث، تطرفنا لم يسقط سقوطا مظليا، هو منتوج داخلي، بعيدا عن نظريات المؤامرة والتخوين، تطرفنا تتحمل مسؤوليته تراكم سنوات الاخفاق في منظوماتنا التعليمية، في خرابنا الاقتصادي، في فشلنا التنموي، في ثقافتنا السياسية المنحطة.
التحديث المفصول عن مقدماته هو التحديث المرتبط بمقدماته، ورثنا تحديثا بلا منظومة عمل modus operandi، بدول دليل عمل، بدون مقدمات ونسغ فكري، نود تحديثا ماديا من دون أن نراهن على الانسان وذهنياته، قد تبدو الصورة مشوهة اليوم، تحديث مادي وانحطاط انساني، مؤسسات الغرب ليست سوى تجل مادي لتلك الأفكار الصغيرة في حينها، العظيمة في التي نتائجها، تلك الأفكار التي نافح من أجلها مفكرو الانسية والعقلانية والوضعية والفردانية، حتى الانتخابات بما هي مظهر حداثي لا تصنع الديموقراطية في صناديقها، على الأقل في وسط يفتقد لعقد اجتماعي ومستتبعاته المفاهيمية.
قد يكون الاحتلال الأجنبي والمذهبية والطائفية هما من مكنتا داعش اليوم لأن تنهض بتأويل جديد للتراث الديني في الاجتماع السياسي العربي الاسلامي، وتجعل الغرب يضعنا في قفص الاتهام كمنتجين للتطرف، ما يهمني شخصيا أن نجلد الذات ونقسو عليها من أجل ممارسة التطهير الحضاري، أو ما يسميه علماء النفس بعملية الكتارسيس، علينا أن نبحث في تلك الأخطاء القاتلة التي قادتنا نحو التطرف، في الانتباه إلى وقع الفضيحة، في تحليل ما يسميه نعوم تشومسكي بالبنية العميقة المنتجة للتطرف الديني، كل هذا في مدار لا يفارق حاجتنا اليوم إلى ممارسة نقد اجتماعي للمعرفة والانسان والسلوك.
ما يقوي حاجتنا الى هذا النقد، أن الرأسمال الديني قادر الاختراق، على جذب أرباح قوية، بخلاف الرأسمال الثقافي كرأسمال عالِم savante، المثقف ليس مطلوبا أن يصبح حكواتيا حتى يفهمه الجميع، عليه أن ينتج معرفة وكفى، وعلى المجتمع/ الحامل الاجتماعي للمعرفة أن يمتلك أدوات نقده بنفسه، فهو الذي يقوي أو يضعف هذا الرأسمال، في الواقع، ليس هناك تفوق علمي بين الدعاة والمثقفين، كل ما هنالك فقط خطاب الدعاة يخترق الوجدان لأنه لا يحتاج الى مقايسة استقرائية.
مفهوم الدولة يظل الغائب لدينا، نخلط بين الدولة والنظام، عين السلطة للدولة هي قوتها الأخلاقية، فحينما ننزل إلى الشارع نلمس ضعف فكرة القانون عند الناس، ببساطة لأنه مرتبط بالعقاب، قوة الدولة هي تلك تشعر المواطنين بحاجتهم إليها، قوة الدولة هي في ما يمكن أن أسميه بالدولة البستانية l’état jardinage، الدولة التي تسقي الجميع بلا استثناء.
ثمة تلازم بين القوة والشرعية، الدولة انجاز وتحصيل للشرعية من الناس، ليس هناك من دولة تفرض قوتها بشرعيتها، وإنما تتحصل عليها، سبق لماكس فيبر أن حدد أنماط شرعيات الدولة، شرعية الدين القائمة على العصبية والاستبداد، وشرعية الكاريزما التي تتجسد في قائد روحي ملهم، وشرعية العقل التي ترتكز على الحرية والديموقراطية.