التعامل المختلف مع تمردَيْ الريف والأطلس الكبير :لفهم سلوك الدولة في بداية الاستقلال بين التسامح والقمع العنيف!

كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.

 

تكشف الطريقة التي تمت بها معالجة، ثم فيما بعد تحليل التمردين الثوريين اللذين عرفهما خلال السنوات الأولى للاستقلال، تكشف وتزكي أطروحة تراكب السجلات وهندسات السلطة، بالرغم من الهيمنة الوطنية، ونجد أن تفوق تصور “دولتي ـ وطني” للدولة لا غبار عليه، لكن السجل الامبراطوري سيتيح تسويات مغايرة. وهكذا نجد أن السلطة ستعالج بشكل مختلف تمرد الأطلس الكبير الشرقي وتمرد الريف باعتماد تأويل مختلف للحركتين معا، بالنظر إلى بناء الدولة وشرعية المقاومة.!
ونعلم أن التمرد في الأطلس الكبير الشرقي في منطقة الراشيدية قد قاده في 1957عيدي أوبيهي ضد الاستقلال بدون أن تكون مع ذلك ثورة مناصرة للملكية. فعدي أوبيهي كان قائدا إبان الحماية، لكنه لم يوقع على خلع السلطان مولاي يوسف.. وانخرط في الكفاح الوطني. وقد اعتبر التاريخ الوطني قمع هذا التمرد كمؤامرة ملكية من أجل إضعاف حزب الاستقلال المظفر. ودون استبعاد كلي لهذه الأطروحة التي وجدت حججا لها في تورط بعض المقربين من شخصيات حكومية في هذه الاضطرابات – على غرار لحسن اليوسي وزير الداخلية العابر في أول حكومة للبكاي ، والذي بعد أن تمت إقالته زكى تمرد عدي أوبيهي واختار المنفى من بعدها ، لا يمكننا في المقابل اعتمادها كليا. و هذا يعني إغفال العديد من التباينات الموجودة داخل الحركة الوطنية (والتي عمد التاريخ الوطني إلى حد الساعة إلى إغفالها)، وأن الديناميات المحلية التي لا بد من أخذها بعين الاعتبار نظرا لأهميتها، علاوة على أن العديد من الأحداث المماثلة، قليلا ما يتداولها المؤرخون قد وقعت في مناطق أخرى من البلاد ( سوس الملكية لدرجة أنها كانت عمود جيش التحرير ثارت بدورها ضد ما اعتبرته هيمنة الاستقلال، حيث أن أهل مجاط هاجموا مقر القايد الاستقلالي في جماعة تيغيرت ونهبوه..)
يرى إرنست غيللنر في هذا التمرد التي قاده القياد السابقون في فترة الحماية طلبا للمزيد من الدولة. وبالرغم من أنه لا يحدد طبيعة هذه الدولة، فهو متيقن بأن المتمردين لا يشاطرون رؤية الدولة الوطنية في طور البناء التي كان الاستقلال يريد فرضها. غير أن تمرد عدي أوبيهي لم يتم قمعه بعنف، وتم القيام بمحاولات عديدة للتفاوض قبل ارسال الجنود بقيادة الأمير مولاي الحسن لاقتتال عدي أوبيهي. وقد تم الحكم بالإعدام على هذا الأخير لكنه لم ينفذ. وقبل أن يتوفى في 1961 في السجن، صدر العفو عنه في نفس السنة.. وقد عاد الحسن الثاني إلى هذه الفترة فأثنى على ذكراه، معتبرا أنه« تمرد لكي يتم احترام السلطة الملكية ” أما كتاب سيرة الحركة الشعبية التي أسسها لحسن اليوسي بعد هذه الأحداث يؤكدون « أنه لم تكن له أي عقيدة غير الوفاء للملك…»
شبكتنا في القراءة تدعونا كي نرى في تسامح السلطان استراتيجية متعمدة في مقاومة هيمنة الاستقلال كما نرى فيها امتدادا لنوع من العلاقة الامبراطورية مع التمرد ، الذي اعتبر أنه تعبير عن مصالح محلية وعن خصوصية لا تهدد بأي شكل من الأشكال وحدة الدولة في إطار تصور للسلطة يسلم بوجود مستويات مختلفة من الحكم.( في حوار مذكراته مع إريك لوران ، قال الحسن الثاني الذي تعمد نسيان سنوات المواجهة تلك، ولم يتردد في إصدار وجهة نظر بمثابة حكم قاطع :” اسمع يا سيد لوران سأسدي لك نصيحة أو بالاحرى وصفة مطبخ جد مهمة ، إذا كنت تريد حقا معرفة المغرب معرفة فعلية دون أن تضيع الوقت، لا ترتب المعارضة أو المعارضات في هذا البلد كما ترتبها في مكان آخر».
تمرد الريف سنة 1958 و1959 والذي كان بدوره
مناهضا لحزب الاستقلال وتحركه الغضاضة (ضد إنزال أناس المدن ، احتقار الأمازيغ ، فرض العربية ونوع من التدين الأرثوذوكسي ) تم في المقابل قمعها بعنف، ويمكن الرجوع الى العديد من العوامل لتفسير القمع العنيف لهذا التمرد الثاني . ومن الأكيد أن الذاكرة المحلية عن الأحداث السابقة قد كان لها وزن كبير، إذ أن عبد الكريم الخطابي، الذي كان وقتها منفيا، قد حاول تنظيم دولة داخل الدولة. كما أن سلوكه وقت الاستقلال بدا كسلوك “جمهوري”. وكان أن اتخذ زمام الأمور في ملف الريف من طرف ولي العهد مولاي الحسن وقام بالباقي وباعتبار أن الحسن الثاني كان يقتسم في تلك الفترة الإيديولوجية الوطنية ومتأثرا كما كان بالثقافة اليعقوبية ، وهي ثقافة، بعيدا عن الجمهورية الرابعة التي كان معلموه يحتقرونها، ترفع من شأن الإرث النابليوني … وقد فسر تمرد الريف باعتباره امتدادا لحرب الريف، كما أن الحضور الرمزي لأميرها ، المنفي طوعيا في القاهرة، خلق الرابط مع الجيل الجديد في الدول العربية، الجيل الجمهوري والقومي. وهكذا، في سياق البراديغم الخالص للدولة الوطنية /الدولة الأمة ، كان القمع في مستوى التهديد ـ الحقيقي أو المتوهَّم ـ للوحدة الوطنية…


الكاتب : عرض وترجمة: عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 29/08/2023