«التيهاء» لعبد القادر الشاوي أو مقالب الذاكرة و تقلباتها

 

بداية، يجب الاعتراف أن نصوصا مثل «التيهاء» للكاتب المغربي عبد القادر الشاوي ( منشورات الفنك 2021) يصعب وضعها في خانة محددة لصنف أدبي معلوم، فهي ليست بالرواية ولابالسيرة الروائية أو الذاتية، والكاتب نفسه يعي هذه الصعوبة حين وصمها بالتخييل الذاتي.
1) «التيهاء»، في نهاية المطاف، محاولة للملمة شذرات من الماضي ظلت حبيسة الذاكرة لفترات متفاوتة الطول والقصر، ثم انبجست في لحظة ما وتحت ضغط « نوستالجيا مستعرة « لتلد نصا /جمعا لشتات يشبه تماما العناصر التي شكلته علما أن لكل عنصر خاصية محددة وسياقات معلومة. لذلك، فإن «التيهاء» تشبه إلى حد ما قطعة زجاج ارتطمت بشدة على الأرض وتناثرت شظاياها وأصبح، بالتالي، أمر إعادة تشكيلها أمرا مستعصيا. وعلى هذا الأساس، يمكن الاستعانة ببعض الفرضيات لقراءة «التيهاء»:

2) هي ذاكرة انتقائية تتدفق متى شاءت وتشح متى شاءت، تصرح أحيانا وتلمح أحيانا أخرى ولكنها في استرجاع ملامح البروفايلات والأحداث والوقائع لا تخضع لمنطق صرف أو ميكانيزمات معيارية محددة….
3) هي عملية مراجعة واسترجاع معقدة ومستحيلة في آن: فالقارئ يحاول الإمساك بالخيط الرفيع الذي يصل «الفصول» لكنه يبقى كمن يطارد طيف دخان لا يلوي على شيء، ولا يشفي الغليل ولا يطوق تلابيب وعي تشكل لدى صاحبه، ولا ما إذا كان المسار برمته وليد «صدف ماكرة « أو نتيجة إرادة واعية ومتبصرة.
بخصوص الفرضية الثالثة، تسعفنا بعض العبارات المبثوثة في ثنايا النص في الفهم نسيا لأن الصدف الماكرة أو الاختيار ما هو إلا وهم «يتخفى غالبا في الوهم « كمن يقبض على «النار الحارقة وتلتهمه ولا يبرأ من الشكوك إلا بلهيبها « ص 56 .
هذا السيل العارم من الذكريات يسمح بقراءتين اثنتين أولاهما تنفي القصدية لدى الكاتب في تبني أي توجه فكري كان ( لم يقصد أن ينال إعجاب الأستاذ العمري، أستاذ الفلسفة بثانوية القاضي عياض، أو أن يزج به في عوالم الفلسفة في سن مبكرة أو أن يرسم مسارا محددا في كلية الآداب، ولا أن يخرج في تظاهرة لنصرة فلسطين ولاتصدره لقائمة الطلبة التحرريين ثم –وهذا هو الأهم- ما كانت لديه نية في شهرة ناتجة عن نشره لمقالات في عدة صحف ومجلات ذائعة الصيت في مغرب الستينيات، جعلت منه قلما علما وزجت به في علاقات مشتبكة . وفوق كل هذا وذاك وجد نفسه ذات خريف من العام 1974 ضيفا على قفص كفرخ مفزوع ، وهو الحالم بتدريس قصائد فدوى طوقان بإحدى الثانويات الهامشية بالبيضاء.
القراءة الثانية، وفي الثنايا، يمكن إدراجها في مجهودات حثيثة مغلفة في نقد ذاتي صريح، (يتبرأ) من تجربة لها ما لها وعليها ما عليها أدى ثمنها الكاتب من خلال اعتقال قاس وضع بين قوسين «الثورة الموؤودة والحلم المجهض» وفتح الباب أمام سيل من التبريرات والمراجعات التي لم تبح بكل أسرارها بعد، ولم تقل كل شيء عن طبيعة الاختلافات والصراعات وكأن ما قيل وما كتب من قبل لم يسعف الذاكرة للإفصاح عن تفاصيل التفاصيل .
ثمة قاسم بين القراءتين يجعل الحدود بين الصدف الماكرة والعنفوان، من جهة، وتشكل الوعي لدى الكاتب من جهة ثانية، حدودا واهية وعبثية إذ يقول في الصفحة 163 « ماذا يفيد أن تدرك في لحظة ما أن وعيك تكون على هذه الكيفية أو على الأخرى إن كنت لا تستطيع في بعض الأحيان ولو كانت النوسطالجيا مستعرة أن تتذكر بيقين تام، وهو المستحيل، التفاصيل التي صادفت وصاحبت ذلك التكون ؟ قبل أن يختم بالقول بجملة دالة مفادها أن «العبث ملة نداريها باليأس « .
هذه الإضاءات أو الفرضيات من شأنها أن تسهل دخول «التيهاء» مجتمعة أو متفرقة، والجديد النسبي،هنا، هو كون المحكيات المرتبطة بتجارب الكاتب الشخصية تبقى المادة الدسمة للسرد كما في دليل العنفوان (1989) و(الساحة الشرفية) أو حتى في صنف آخر مختلف مثل ( الذاكرة والكتابة ) على سبيل المثال .
لذلك ، نجد أقواسا مفتوحة داخل «التيهاء» تحيل إلى بعض هذه الكتابات وتتقاطع معها طيلة ثلاثة عقود ونيف .
هذه الأقواس والذكريات يعتبرها الكاتب «رخوة وباطنية لا يسلس تذكرها لأي ذهن مهما احتمى بالفطنة من نسيان عارم مراوغ « الصفحة 60 . وهنا اعتراف بكون عملية التذكر عملية معقدة ومركبة complexe et compliquée ، وتصبح بقوة الأشياء انتقائية لما قبل الواقعة وخلالها وبعدها إذ تتنازع البوح الذاتية الحميمية والموضوعية الهشة، ويختل صبيب التدفق تارة ويشح تارة أخرى : هناك تفاصيل – مثلا- في التقابل بين نقد الخطيب للطريس ونقد الكاتب لعلال الفاسي وما جرته تلك الجرأة من لعنة التطوانيين على إبراهيم الخطيب ولعنة (العلم) في شخص الراحل عبد الكريم غلاب على عبد القادر الشاوي . ونجد نفس السيولة في قضايا فلسطين وأدبائها وقصة السفرية، لقاء إشارات عابرة كما في }تداعيات الراحل الحسن الثاني. وهنا يطرح سؤال : لماذا استعادت الذاكرة شخصيات دون أخرى وفضاءات دون غيرها وأحداثا ووقائع تتماهى بشكل جلي مع تجربة الكاتب وتشكل وعيه؟
يأتي الجواب من الكاتب نفسه وفي معرض حديثه عن الكاتب الياباني موراكامي في الصفحة 65»أنا ربيب صدف تعتبرها أنت ( من هو هذا الأنت ؟) اتفاقات مقررة، صدفا ماكرة كما أدعي لأنها لا تبوح بأسرارها ولا تعلم بمجراها ولاتقول شيئا عن ( الدهشات) التي يمكن أن تصاحبها « .
و»التيهاء»، من خلال هذه المحاولة الرامية لاقتحامها، تحتمل معان لغوية متعددة منها «المفازة» وهي الأرض الواسعة يضيع فيها الإنسان ولا علامة فيها يهتدى بها وهو ما ينطبق إلى حد ما على هذا المنجز: العنوان، وحده، كاف ليفسر أن النص الذي بين أيدينا هو تجميع قسري لشذرات ذاكرة مترنحة بين وثوقية هشة وشك واضح في ما اختزنته هذه الذاكرة . ومنه ، فإن الحقيقة، بدورها، وجدت نفسها نسبية مشبعة بذات جريحة، ثملة بالإيحاء  والتلميح l’art de l’insinuation وهو في الغالب أبلغ في التعبير وأقسى في البوح من لغة مباشرة سردية، ولو كان البهار الفواح من التيهاء قوامه شيء اسمه «التخييل الذاتي» .


الكاتب : الحسين لعزيز

  

بتاريخ : 09/12/2022