يجمع تعبير «المهندس الثقافي» بين متناقضين: الهندسة والثقافة. فكيف للمهندس، بكل ما تحمله الكلمة من حمولات تاريخية ومهنية مرتبطة بالبناء والتصميم والتخطيط والتشييد العمراني والمجالي والبينتحتي، أن يتصل بالثقافة التي تحتمل معان ودلالات لا تستقر عند أرض صلبة وثابتة، وذلك لتعلقها بالمجالات الإنسانية والاجتماعية والأنثروبولوجية، وأيضا لاتصالها الوثيق بالممارسات والعادات والمعتقدات المجتمعية، التي تعدّ متحركة ومتغيرة داخل أصغر رقعة جغرافية. فبالتالي، كيف يمكن أن نهندس الثقافة؟ وذلك ارتباطا بمفهومنا الخاص لمعنى كلمة «مهندس»، التي لا تنصرف أبدا في أذهاننا عن الحرفي والصنائعي والمصمم والمدبّر.. وكلها مصطلحات وتسميات تتصل أساسا بتدبير ما هو مادي وملموس.
غير أنه وفي ظلّ بروز أهمية الثقافة والإبداع في إشعاع البلدان، وجعلها موردا اقتصاديا، قادرا على إنعاش اليد العاملة وتوفير مناصب عمل دائمة وشبه دائمة، وبمقدوره أن يتكيّف مع التغيرات الاقتصادية الطارئة، بدأ التفكير في عدة أنشطة تسعى للتدبير الثقافي والترويج للثقافة المحلية وربطها بالاقتصاد، على ضوء تجلي ما سمي بـ»السياسات الثقافية»، حيث غدت بفعل الأمر الدولة فاعلا ثقافيا، لأنها الـ»مالك” لمجموعة من المؤسسات والبنايات والمعدات العمومية، التي تعد أساسية في الفعل الثقافي.. بالإضافة لكونها داعما.. ومن بين تلك الأنشطة التي تعمل على تنظيم وتسيير الشأن الثقافي بزغ منذ ثمانينيات القرن الماضي اصطلاح «المهندس الثقافي».. وهو شخص ينظم ويعدّ ويدبّر ويسيّر الفضاءات والأنشطة والشؤون والمشاريع الثقافية، خدمة للتراث والثقافة المحليين، وفاعلا في علية استقطاب الجمهور والترويج للمنتوج الإبداعي ببلده.
لهذا يمكن للمهندس الثقافي أن يلعب دورًا حاسمًا بوصفه «مصدرا للتفكير» وفاعلا في التنمية المحلية وحاملا ومطورا للمشاريع الثقافية والفنية بطرق مختلفة، وذلك من خلال عدة أبعاد تضم القدرة على «التحليل الثقافي»، إذ يستطيع المهندس الثقافي تقديم فهم متعمق للثقافة المحلية، وتحديد القيم والمعتقدات والممارسات التي تشكل المجتمع الذي ينتمي إليه ويعمل في صلبه ومن أجله. عبر امتلاك «التفكير النقدي»، الذي يتحقق من خلال دراسة القضايا الثقافية والاجتماعية.. حيثُ يمكن للمهندس الثقافي تقديم وجهات نظر نقدية حول المشاكل المحلية والمساعدة في تصميم الحلول المناسبة. لكونه «فاعلا جوهريا في التنمية المحلية». ويستطيع المهندس الثقافي تقديم منظور معمّق للثقافة المحلية، وفهم تقاليد وقيم وأساليب حياة المجتمع. وهو ما من شأنه أن يكون بمثابة أساس لاعتبارات التنمية المتعمقة؛ إذ من خلال تحليل الاحتياجات الثقافية للمجتمع، بمقدور المهندس الثقافي تحديد الفجوات والفرص، مما يسمح بـ»التفكير النقدي» لإيجاد -وبفعالية- الحلول المناسبة.
وتكمن هذه الفعالية في قدرته على تعزيز المجتمع، وإشعاع الثقافة المحلية والتراث والإعلاء من الموروث، والمحافظة على القيم الجمالية، والدفاع عن الأسس الفنية وإدراجها ضمن السيرورات والتغيرات العالمية. إذ يستطيع المهندس الثقافي تسهيل تقوية الروابط الاجتماعية من خلال تعزيز الثقافة المحلية، وبالتالي تعزيز تنمية مجتمع أكثر مرونة. وذلك من خلال عدة نقط أساسية، أهمها إقامة شراكات مع الفاعلين المحليين، لكونه يستطيع المساهمة في تطوير استراتيجيات التنمية التي تأخذ الخصوصيات الثقافية بعين الاعتبار. ولا تتحقق هذه الشركات إلا بفعل قدرته على حمل وتطوير المشاريع بوصفه «مدير المشروع» وفاعلا ثقافيا ممتلكا للخبرة والدربة الميدانية، مما يجعل منه «واضع استراتيجيات» و»مُدبّر أزمات”.
يعمل المهندس الثقافي على تصميم مشاريع ثقافية تعزز الإدماج والمشاركة المجتمعية والتنمية المستدامة. وتعزيز تطوير الشأن المحلي، على المستوى القريب والبعيد. وذلك إيمانا بأن عملية دمج القيمة الاقتصادية بالفنون والثقافة المحلية والتراث، قادرة على أن تجعل من الإبداع والثقافة مدخلا حاسما في التدبير الاقتصادي المحلي والوطني. وهو ما يجعل منه فعليا «مهندسا» بالمعنى الذي يتقاطع مع مجالات أخرى تهتم بالبناء والتشييد والتطوير البينتحتي والاقتصادي. ويتجسد الأمر من خلال استخدام الموارد الثقافية المتاحة، التي يستطيع المهندس الثقافي من خلالها تطوير مشاريع تستفيد من المهارات والتقاليد والمعارف المحلية، واستدراج الجمهور الواسع للاهتمام بالمنتوج الثقافي والإبداعي الوطني والمحلي. مما يساهم فعليا في تعزيز وتثمين الموارد الثقافية المحلية، سواء الحرف اليدوية أو تقاليد الطهي أو الفنون أو أشكال التعبير الثقافي الأخرى، وبالتالي المساهمة في التنمية الاقتصادية الوطنية. وذلك بدعم المبادرات المحلية، من خلال التعاون مع أصحاب الشأن المحلي، لتمويل ودعم والدفع بمبادرات تنمية المجتمع من خلال دمج العناصر الثقافية، ومنه تعزيز الهوية المحلية.
مما يجعل من المهندس الثقافي جسرا بين الثقافة المحلية والتنمية على الصعيديْن القريب والبعيد، ودامجا للقيم الثقافية في مبادرات التنمية المستدامة. ويمكنه أن يلهم التفكير ويحفز التغيير الاجتماعي ويساهم في المشاريع التي تلبي الاحتياجات المحددة للمجتمع مع الحفاظ على ثروته الثقافية وتعزيزها. يتطلب هذا الدور متعدد الأوجه مهارات متعددة التخصصات، والقدرة على بناء الشراكات والحساسية الثقافية المتعمقة. لهذا فإن المهندس الثقافي هو شخص متعدد التخصصات، مرن، وممتلك لشبكة صلبة ومتماسكة من المعارف والمعرفة، وقادر على امتلاك حس المسؤولية والقدرة الفعالة في التواصل البناء والخلاق.غير أن الأمر كله لا يمكن أن يجسد على أرض الواقع، دون أن يمتلك المهندس الثقافي خصالا وميزات، أهمها الجمع بين الصرامة وروح الفريق والتنظيم، مما يسمح له بتطوير مبادرات ثقافية مدروسة، وتعزيز التعاون بين التخصصات وضمان التنفيذ الفعال، كل ذلك في احترام الخصائص الثقافية المحلية.
يتيح النهج الصارم في البحث وتحليل الجوانب الثقافية والفنية والتراثية، للمهندس الثقافي أن يفهم بعمق احتياجات المجتمع وتحدياته وفرصه. مما يمكّنه من التخطيط الدقيق للمشاريع التي يحملها ويدبرها. وذلك من خلال وضع خطط تفصيلية للمشاريع الثقافية، فيستطيع المهندس من خلالها توقع العقبات المحتملة ووضع التدابير اللازمة للتغلب عليها، وتجاوز المعيقات غير المتوقعة.
ويجب أن يكون المهندس الثقافي قادرًا على إدارة الموارد والجدول الزمني والمراحل الرئيسية للمشروع، وذلك من خلال امتلاك حس «التنظيم» على المستويات الفضائية والمكانية والزمنية والفريقية وحتى الشخصية. ويتحقق الأمر عبر الاحتفاظ بسجلات منظمة وتوثيق خطوات المشروع، وتحديد أولويات المهام حسب أهميتها وإلحاحها، وبالتالي ضمان الاستخدام الفعال للوقت والفضاء والفريق المتاح. مما يسمح بالتقييم اللاحق ويسهل التواصل مع أصحاب المشاريع والشركاء والداعمين الذين يعمل معهم على تطوير وتعزيز وإشعاع الثقافة المحلية.
ويستند الأمر كله أساسا على حسّ التواصل البناء، إذ يجب أن يكون المهندس الثقافي قادرًا على التواصل بطريقة واضحة وسهلة مع المجتمع والفاعلين الثقافيين والشركاء والداعمين، وشرح أهداف المشاريع، وممتلكا لحس الانصات والتأني والتريث والعمل ضمن الفريق، ومستعدا لأخذ المبادرة في الوقت المناسب لكونه»مدبر الإشكاليات والأزمات». ومن الضروري أن يكون التنظيم والدقة في التواصل مصحوبين بحساسية ثقافية كبيرة لتجنب أي سوء فهم واحترام الأعراف والقيم المحلية.
ينضاف إلى كل هذه الميزات التي ينبغي أن تتوفر في المهندس الثقافي، القدرة على تقديم التقارير المنظمة والتقييمات التفصيلية تساهم في زيادة الشفافية وفهم النتائج التي تم الحصول عليها. وهو ما لا يتجسد على أرض الواقع دون التوفر على “التخطيط الاستراتيجي”، الذي يعدّ أمرا بالغ الأهمية لتصميم المشاريع الثقافية الناجحة. إذ ينبغي أن يكون المهندس الثقافي قادرًا على تحديد أهداف واضحة وتطوير خطط العمل وإدارة الموارد بشكل فعال. وإدارة المشروع من ألفه إلى يائه، مع مراعات الفروقات داخل فريق عمله، وتدبير الأزمات وتوقع العقبات. حيث يتضمن التنظيم في إدارة المشروع الالتزام بالمواعيد النهائية ومراقبة الميزانيات وتنسيق المراحل المختلفة. وتضمن الإدارة المنظمة والتنفيذ الفعال للأنشطة المخططة، بصرامة ودقة وفعالية ومرونة.
هذا ولا تنفصل الهندسة الثقافية أبدا عن الصناعات الإبداعية التي يتم تعريفها على أنها: «مجموعة إنتاجية أكثر اتساعا، تشمل السلع والخدمات التي تُنتج من خلال الصناعات الثقافية (التي تشير إلى أشكال الإنتاج والاستهلاك الثقافية التي يوجد في جوهرها عنصر رمزي وتعبيري)، وكذلك تلك السلع والخدمات التي تعتمد على الابتكار، بما في ذلك كثير من أنماط البحوث والبرامج الجاهزة المتطور»،مما يجعل من المهندس الثقافي فاعلا رئيسا في تنمية الاقتصاد الوطنين من خلال إنعاش الاقتصاد الثقافي. فلا انفصال بين الحقلين: الاقتصاد والثقافة، فكل منهما يمكنه أن يخدم الآخر من أجل تحقيق نماء وطني. وهو ما يجعل الثقافة رافدا من روافد التقدم الحضاري لكل بلد.
لا يمكن إذن، الفصل بين التنمية الاقتصادية والتنمية الثقافية، هذه الأخيرة التي تعمل على تعزيز الروابط الوثيقة بين الأفراد وموروثهم الفني والجمالي والثقافي، وفي الوقت عينه بمقدورها توفير مناصب شغل وعمل للعديد منهم. وهو ما من شأنه أن يخدم ويعزز السياحة والدعاية للبلد، ويتقاطع مع ميادين أخرى. إذ إن للصناعات الإبداعية أثر واضح على المستوى النمائي الاقتصادي وأيضا على المستوى الاجتماعي.
في وطننا العربي، والمغرب خصيصا، ما زلنا نفتقر إلى صناعات إبداعية حقيقية، في ظل عدم وجود قوانين مؤطرة، ورؤى استراتيجية بعيدة المدى وواضحة المعالم، بالإضافة لضعف الميزانية الممنوحة للحقل الثقافي والفني، وشبه غياب آليات استقطاب استثمارات في هذا القطاع الهام والحيوي. فلا يمكن أن يحدث أي تطور محلي ووطني، في إطار المتغيرات العالمية اليوم، دون الوقوف فعليا عند الصناعات الإبداعية بوصفها رافدا هاما في النماء الاقتصادي والاجتماعي.
يعدّ بلدنا، بلدا غنيا ثقافيا، وهو ما باستطاعته أن يوفر العديد من فرص الشغل والاستثمار إن تم إعادة التفكير جديا في مكانة الثقافية داخل المنظومة الاقتصادية. ويلعب المهندس الثقافي الدور الجوهري في هذه العملية النمائية، لكونه شخص واع بالدور الاقتصادي للثقافة، وأهمية هذه الأخيرة في ربط أواصل قوية بين مكونات المجتمع الواحد، وبمقدوره أن يعمل على اختلاق أشكال اقتصادية مبنية على استثمار الثقافة المحلية.
الثقافة والهندسة: كيف يصير المثقف مهندسا؟
الكاتب : عزالدين بوركة
بتاريخ : 13/07/2024