الجسد والتاريخ

الجسد قارة عذراء في تصورنا للتاريخ، في تمثلنا للماضي والحاضر، في فهمنا العميق للذات والآخر، للأنا والغيرية، الغيرية القريبة أو البعيدة التي تجعلنا دائما في مدار خلاف واختلاف متواصل ومستدام، فقط وحده الجسد كاشف لمضمرات أفعالنا، فاضح لعمق بنيتنا الرمزية التي تنطق بها شخصيتنا العميقة في الزمن.
الجسد فضاء مهجور ضمن خارطة تحليلنا الذهني للواقع، ضمن تفسير سلوكياتنا، في فهم تفاعل ذاتنا مع الروح، من حيث هو جسد رمزي ومادي في آن، من حيث هو جسد سلطوي، من حيث هو جسد مرغوب فيه بحكم الشهوة والغريزة، وجسد مقموع بحكم العادة والتاريخ.
الجسد احتل مساحة هامة ضمن انشغالات الفلاسفة الكلاسيكيين، من الفلسفة الإغريقية حتى الفلسفة المعاصرة، مرورا بالفلسفة الوسيطية، كتيمة مركزية ضمن الإشكالات المعرفية للبحث الفلسفي، بما هو تعبير عن تمثلات أنتربولوجية وإثنية وروحية تتحكم فيها ثقافات الشعوب، وتترجمها إلى لغة تخاطب وتواصل. صورتنا للجسد تبقى متشظية ومنكسرة، بفعل رقيبنا الذاتي الذي يسكن لاوعينا، ورقيبنا اللاهوتي الذي يرفع سيف التكفير في كل تعبير جسدي، وأيضا رقيبنا المؤسساتي الذي يرفع عصا التشهير والقمع.
بقدر ما يكشف الجسد توترا هوياتيا للإنسان، يعبر عن اضطرابات نفسية داخلية تعتمل في الذات، وعن رغبة الذات في التحرر والتموقع ضمن الكينونة والوجود، بقدر ما يعتبر متعاليا عن الزمان والمكان.
الجسد سلطة وروح، هو شكل ميتافيزيقي خارج الروح البشرية الطبيعية، الجسد السلطوي هو الذي يجعل المستلبين يستصغرون أناتهم، ويقدسون جسد السلطة كجسد خارج عن الطبيعة البشرية. سبق للفيلسوف إرنست كونترفيتش في كتاب مرجعThe King of two Badies أن تناول موضوعة الجسد من منطور مغاير، من خلفية تأثير الجسد السلطوي في سيكولوجية الجماهير، في رسم عالم غير واقعي عن أفعال بشرية يراد بها التقديس والتعالي عن العامة.
للفكر أيضا جسدانية متعالية عن الواقع، مثلما للجسد ذكاء، كما يفصح عن ذلك أصحاب الفن الأول في مقاطعهم التشخيصية. للجسد وضعيات، تعبيرات وإيماءات، حسب السوسيولوجي دافييد لوبرتون صاحب كتاب «سوسيولوجيا الجسد».
من تقنيات الجسد إلى التعبيرات الوجدانية، من الإدراكات الحسية إلى التسجيلات الغلافية، من سلوكيات الوقاية إلى سلوكيات التغذية، من طرق الجلوس إلى المائدة إلى طرق النوم، من نماذج تمثل الذات إلى العناية بالصحة والمرض، من العنصرية إلى التمركز، من الوشم إلى الثقب، يعتبر الجسد شكلا تعبيريا عن كل الممارسات الاجتماعية والبنى المؤسسة للتمثلات، للمتخيلات. من المستحيل الحديث عن الإنسان بدون أن نفترض بشكل أو بآخر بأن الأمر يتعلق بإنسان من لحم ودم، معجون ومشكل من حساسية خاصة، الجسد ترموميتر لفهم الأنا والعالم، للتموقع ضمن قارة الأجساد الكبرى.


الكاتب : مولاي عبد الحكيم الزاوي

  

بتاريخ : 13/09/2019

أخبار مرتبطة

من الواضح أن العلاقة بين القارئ والكاتب شديدة التعقيد؛ ذلك أن لا أحد منهما يثق في الآخر ثقة سميكة، وما

  وُلِدَت الشخصيةُ الأساسيةُ في روايةِ علي بدر (الزعيم) في العامِ الذي بدأت فيه الحملة البريطانية على العراق، وبعد أكثر

  يقول دوستويفسكي: «الجحيم هو عدم قدرة الإنسان على أن يحبّ». هذا ما يعبّر عنه الشاعر طه عدنان في ديوانه

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *