لا ينج الحديث عن الثقافة والأدب والفنون، باعتبارهم «تعابير» ثقافية عن مجتمعاتها من سؤال «الجسد»، فإذا كان الفن يُنظر إليه «على أنه مرآة للقدرات البشرية في مرحلة تاريخية معينة، بوصفه الشكل المتفوق الذي تُعرف فيه ثقافة ما عن نفسها»، وجب علينا تناول تمثلات الجسد في كل هذه الأجناس الثقافية، باعتبارها أنماطًا خطابية، تعكس موضعه-الجسد- في الفكر والتعبير، وبالذات في عصر الصورة.
السينما، وهي مجال حديثنا هاهنا، تتأثر -كغيرها من أنماط الخطاب الثقافية- بانعكاسات الأوضاع الاقتصادية والسياسية والإجتماعية على الجسد، وبالذات في ظل هذا الهوس الحداثي به وبهندسته ورقابته والتضحية به إلى السماء، وتفجيره، وتراسيم الأفضلية والدونية الواقعتان عليه، وجنوسته وغير ذلك.
يقول دولوز عن قيمة السينما الموضوعية، أنها «تؤسس ادراكنا لأجسادنا، بطريقة تعيد إلينا إيماننا بالعالم، وبالعقل»، بل وأكثر من ذلك، فبالجسد تغرس فينا السينما بذورها الفلسفية، «متحالفًا مع الروح و الفكرة». وبالتالي فـ»الجسد» في السينما – أي جسد- هو جسد بالضرورة «سياسي»، وهو كذلك بفضل خاصية الحركة ماديًا ورمزيًا في زمن السرد السينمائي، وماتنتجه تلك الحركة من أفكار.
الأفلام السينمائية التي سنتناول فيها تداعيات أنساق ثقافية معينة على الجسد، والتداعيات المقابلة لها هما الفيلمين اليونانيين الطويلين: 2009»Dogtooth» ليورغوس لانثيموس، و»Attenberg» 2010 لأثينا راشيل سانغاريس، وفيهما يمكننا تتبع البنية الفنية التي أشار إليها دولوز في تناوله للجسد الإنساني سينمائيًا، فكلا الفيلمين يتناولان الآثار المترتبة على الجسد من القوى الإجتماعية والتاريخية الخارجة عنه، من خلال مجموعة من المفاوضات العنفية و/أو الخطابية التي تتم بين الجسد والآخر من ناحية، وبين الجسد والذات من ناحية أخرى.
وهو مايدفعنا إلى تفهم إصرار المخرجين على خلق صور لجسد إنساني «غريب» في أوضاعه وأصواته وتفاصيله وحركته، بل وعلاقاته بأجساد أخرى مقابلة وكيفية إدراك علاقاته الاجتماعية، بشكل وإن كان صادمًا في بعض المواقع إلا أنه جميل سرديًا (سينمائيًا)، لما يدفع المتلقي إلى مواقع في علاقته بالجسد الإنساني عامة والشخصي تارة إلى مواقع تأمل عميق.
في فيلم «Dogtooth» اليوناني، نرى عائلة مكونة من أب وأم وإبنتين وابن، يعيشون منعزلين في بيت فخم على أطراف المدينة التي يصر المخرج على إظاهرها مقارنة بجسد الأب في الصورة على أنها كبيرة جدًا، ومتوحشة صناعيًا، وهو ما نراه مقصودًا ليتأسس بشكل أعمق لدى المتلقي ما يريد السرد ايصاله وغرسه في عقل أفراد العائلة من أن العالم الخارجي متوحش وخطير جدًا (حتى القطة تمثل لهم خطرًا كبيرًا)، حتى أن الخروج من البيت يستلزم فقط سيارة، ولا يتحقق إلا حينما يفقد المرء «نابه» (وهنا سبب التسمية).
يبدأ الفيلم بتشويه لغوي مقصود، تتبين أهميته فيما بعد في هندسة إدراك أفراد العائلة لإعطاب وتوجيه إدراكهم لإخضاعهم لسلطة الأب بشكل أكبر، وهنا تظهر مختلف ديناميات السلطة و السيطرة بداة من مفاهيم الحيز العام والخاص، والجندر والخارج والداخل، فنرى مثلًا أن اللغة لدى الفتاتين وأخاهما، تمت إعادة هندستها من خلال الأب والأم، ما أدى إلى اعطاب إدراكهم (الابن والفتاتين، ويبدو أنهما بين ال17 و 20 عامًا) للعديد من الأشياء، كالمسافة، واللذة، والذات، وحتى الموسيقى، باعتبارها ناقلًا صوتيًا، يتم تشويه إدراكهم لها بالرقص، حيث أن الأب يغير كلمات الأغاني حسب ما يرتأيه هو، وبالتالي تتغير الإستجابة لحوامل المعنى المعاد توجيهه (كلمات الأغنية)
فنجد مثلًا، أن الفتاة الكبرى أعطت نفسها إسمًا، «بروس»، في حين أنهم لم يكونوا ينادونها بغير «الأخت الكبرى»، وإذا أعدنا الإشارة إلى أن «وجود الشيء تسميته»، فغياب اسمها (كأختها وأخاها) يعني غيابها ذاتيًا، وأنها باعطاءها إسمًا لنفسها، قد منحت لذاتها حيزًا من الوجود المُقاوم منتزعًا من سلطة اللغة أولًا، وسلطة الأب مانح التسمية ومانعها، الذي شكل اللغة ثانيًا (بالتواطؤ مع الأم)، وفي المقابل نجد أن السرد الأبوي/السلطوي/البطريركي وكجزء من هندسة ادراكهم للدخال والخارج والأنا والآخر والعام والخاص، يمنح لأخاهم المتخيل الذي يستخدمه الأب كأداة سيطرة عليهم، اسمًا، يُستخدم كقناة لبث الخوف من الآخر/الخارج.
بالعودة لموقع الجسد في الفيلم، يمكننا رؤية وقوعه تحت تعصب ووحشية الرأسمالية الصناعية في الفضاء العام/الخارجي بماديتها من ناحية، وتعصب السلطة الأبوية البطريركية في المنزل/الفضاء الخاص، من ناحية أخرى، وكلا السلطتان تهندسان الأجساد في السرد (والصورة):
أولًا – رمزيًا : يتم طمس أجزاء من الجسد ليغدو»المهبل» «لمبة إضاءة» ، ويتحول «الزومبي» إلى «وردة صفراء» في الإدراك، وماديًا من خلال تقييد العلاقة بالذات من ناحية كالجنس الذي يفقد معناه ودلالاته في مشاهد جنسية غاية في البرودة، وبالتالي فغياب وطمس دور الجسد في فكرة الولادة جاء كنتيجة طبيعية لذلك القمع اللغوي، وذلك في رد فعل العائلة على خبر «حمل» الأم. وكما أن التصرفات الشبقية غدت فاقدة لأي معنى له علاقة بالمتعة؛ كذلك الإدراك الذاتي للجسد الإنساني، في غياب مفاهيم لغوية عن الكائنات الأخرى، حيث نرى في مرحلة ما أن العائلة تتدرب على النباح كالكلاب على جاثيين أربع، ليحموا أنفسهم من وحوش العالم الخارجي المتخيلة وهي القطط، ويدربهم الأب صاحب سلطة تشكيل اللغة و الجسد والإدراك، والآخر.
الجسد الواقع تحت كل هذا القمع اللغوي، والوجودي (متمثلًا في سادية الأب)، لا يمكن له إلا أن يغدو جسدًا «غريبًا/غرائبيًا»، ولعل مشهد الرقص على أنغام الموسيقى يؤسس لتلك المقاربة، ففي حين يعزب الشاب/الإبن لحنًا رتيبًا، تصاب احدى الفاتين (بروس) بحالة من الهيستيريا في الرقص، التي لم تستطع مجاراتها فيها أختها الصغرى، وياب الجسد هاهنا بحالة من شدة الغرابة مقارنة بالموسيقى الرتيبة، وهو ما يثير لدى المتلقي في ذلك المشهد الطويل حالة من الضغط المتكون بتزايد عنف وكثافة الرقص، ولكن تلك الحالة لم تستثر أفراد العائلة إلا متأخرًا، حتى تنهار الفتاة برغم إصرارها على المتابعة، وتنهمك بنهم في أكل الحلوى. إلى إن هذا الجسد الواقع تحت سلطة قمعية إدراكية، تقمعه داخليًا/ماديًا وليس فقط خارجيًا/ماديًا فقط، حتى حينما يقرر الهرب من هذا السجن المنزلي، لا تفعل الفتاة (بروس) ذلك مباشرة ولكنها تكسر بسادية مغروسة من السلطة/الأب نابها في مشهد عنيف، مستخدمة الأوزان الرياضية، وفي مشهد يؤكد تغلغل السلطة في العقل، يجثو أفراد العائلة على أربع لينبحوا ليحموا الأب الذي خرج على قدميه باحثًا عن ابنته الهاربة.
لا يتوقف العنف الرمزي والمادي الواقع على الجسد على هذا فقط، فصناعة الصورة تؤسس للمزيد منه في الفيلم، ففي مشهد صنع سينمائيًا بدقة وحرفية عالية، حيث تتركز الكامير (عين المتلقي) على جسدي الفتاتين، يلعبان لعبة «التخدير»، فيغدو الجسد كاملًا أداة عبث، تؤدي لغيابه، وذلك لأن مفهوم الغياب والخدر معطوبان لغويًا في سرد يبدأ بمقولة : «كلمة (بحر) تعني كرسي»، من مشهده الأول. ويستمر العبث بالجسد وإدراكه، وصولًا إلى مشهد تتقمص فيه «بروس» شخصية «روكي بالبوا» من فيم روكي (4)، والذي قايضته مقابل متعة جنسية فارغة مع حارسة الأمن التي تعمل لدى الأب، وهو ما استلزم عقابًا ساديًا من الأب صاحب الحق في الأجساد كلها، أوقعه على الإثنتين: بروس وحارسة الأمن في مشهد عنيف وصادم. والمشهد السينمائي مصمم بحيث يضع المتلقي/المشاهد قريبًا جدًا من الجسد وكأنه فكرة (روكي) التي تتقمصها «بروس «.
أما في فيلم «Attenberg» لأثينا رايتشل سانغاريس، فيرتبط فيه الجسد، بالنسق المديني وتطوره كفكرة، في مدينة صغيرة على ساحل البحر، تأكلها المصانع، جاعلة من حالة التضاد الفجة بين الطبيعة الجميلة في البر الأخضر بسهوله والجبال العالية والمساحات المفتوحة والبحر والسماء الزرقاوان، والمحيط الصناعي الحداثي المفرط الصلابة من حيث منازل وبيوت متطابقة في الشكل واللون، حادة الزوايا، خطّية الامتدادات، ومصانع ضخمة ذات لون رمادي أو بني أقرب للموت، هو امتداد معاكس مضامينيًا للراقبة على الجسد، فالفتاة إبنة الرجل الذي تأمل كثيرًا في ثورة يونانية خانته وخانت قناعاته بالتحرر، وأورثت مدينته القبح الصناعي الرأسمالي البرجوازي، لم ترث من أبيها الذي قارب موته أي طريقة للدفاع عن نفسها من هذا التوحس المحيط بها، فبقدر ما كان الأب في «Dogtooth» قمعيًا وسلوطيًا، فوالد هذه الفتاة يبدو يائسًا متخليًا تمامًا عن سلطته الأبوية وسلطته على جسده حتى تلك الجندرية على الإبنة، وهو مايبدو صادمًا في أحاديثهما عن الأعضاء الجنسية والإشتهاء المتبادل (من عدمه) والعلاقات الجنسية، وتابوهات علاقات الدم.
هذا الفيلم كسابقه يستثير في المتلقي نفسيًا مفهوم «الغرابة/ das Unheimliche/UnCanny» الفرويدي (نسبة لفرويد)، وذلك بدرجة تفرض تحررًا من الكليشيه السينمائي الذي موضع «الجسد الغريب» فقط في أفلام الرعب. فالجسد هاهنا غريب حتى في علاقته مع ذاته، وإدراكه لها، مثل ما تبرزه مشاهد تقليد الحيوانات حركيًا وجسديًا التي تقوم بها الفتاة في الفيلم، إستنادًا إلى مرجعية مثلتها لها الأفلام الوثائقية عن الحيوانات ورقصها. فكذلك كما يذهب كاموس وبياجيه وهيديغر في مَنطَّقةِ «الغريب»، باعتباره ما شابه أو ما إرتبط حميميًا بمشاعر غريبة»، صناعة الصورة في هذا الفيلم تلقي بالمتلقي باعتباره طرفًا سلبيًا، في حالة من التيه وغياب المعنى عن الإدراك، وليس غيابه بالمطلق، وهنا تمكن صعوبة الفيلم/السرد، وذلك بين عناصر مختلفة: الجسد، المادة، الفكرة ، التمثل، والسرد. تعيدنا استراتيجيات توظيف هذه «الغرابة» سينمائيًا، إلى ما أسماه دولوز في تأملاته عن السينما إلى فكرة «جمالية الخطأ»، و التي تلقي بظلالها على كل أنواع الفنون، (ولعل مثالها الأبرز روائيًا، آنا كارينينا)، جمالية الخطأ هذه، تنفتح على تنوع في التمثلات، بما يغني مفهوم التلقي، لأفق مفتوح لا يقوم على المسلمات والحقائق والإدراكات الجمعية الثابتة، بل يقوم المعنى فيه على الغير أكيد، والملتبس، والغير دائم، والغير مفهوم.
تسير مارينا (الإبنة) مع بيلا (صديقتها المفضلة، في فستانين متماثلين في الشكل لا اللون، بحركات تبدو غريبة وإن متعاقبة، لتؤكد لدى المتلقي سلطة العقل على الجسد حتى في أبسط حقوقه وحرياته وهي الحركة، فتغدو حركتهما غير مفهومة، وبالذات بعد وضع تعقبات الحركة تلك ضمن خلفية حادة وهي المدينة التي تتآكلها الخطوط الحادة، والموت الصناعي، وهذا التضاد بين الحركتين الحرة و المعقلنة، يصل للمتلقي وكأنه فضح لمفهوم السلطة على الجسد، بالمنطق الفوكوي.
تعيدنا مشاهد المشي الراقص المتعاقب الحر للفتاتين، إلى إرث إدوارد مويبرديج، العالم البريطاني الذي أسس لمفهوم تعاقب الصورة في الزمن ما يعطي السرد جسدًا (أنظر الصورة)، وهي الفكرة العضوية الأساس التي تقوم عليها السينما، من حيث هي أجساد ثابتة في صور متحركة زمنيًا، تعاقبيًا.
تتواطأ الصورة مع الفكرة في الفيلم على المتلقي، فتقحمه –فعليًا- في «غرابة الجسد»، ففي المشهد حيث تعري مارينا، ظهرها، لتحرك عظمتي «لوح الكتف» لصديقتها، تقترب الصورة سريعًا من جسده، وكأن الصورة تدفع المتلقي (العين الثالثة/الرائية) إلى اقتحام ذلك الجسد الغريب، في مشهد قريب «Close Up»، ما يؤدي لإنهيار الخلفية تمامًا، سواءًا المكان، حيث توجد الفتاتان، أو حتى وجود بيلا (الفتاة الثانية) في المكان، وهنا يصبح المعنى كاملًا للغرابة، متمثلًا بالجسد، دون السياق الذي يحويه. وهو مايحقق مقولة دولوز «الصورة المؤثرة»، حيث تنفصل الصورة كاملة عن السرد المكاني و المادي والمعنوي المحيط بها، وتغدو هي وحدها المعنى. وتستمر الغرابة حتى في العلاقة الجنسية، حيث أن تلك الأخيرة، والتي تبدو مسلمة طقوسية لدى البشر، مفتوحة على عديد الغرائب في الخيالات، تغدو صدمة لجسد لا يعرف حدوده ولا تداعياته، كمشهد الجنس بين بيلا والشاب الذي رغبته، تلك الرغبة التي لم تفسر لها (وللمتلقي) لماذا لم تفصح عن وجوده في حياتها لأحد، إلا لأسباب لا تتعلق به في ذاته، بل بغيره، فهي تخاف من صديقتها بيلا أن «تسرقه» منها، في حين أنها أقرت بأنه لا يحبها. وهو ما نراه امتدادًا لخفة العلاقة بين مارينا والجسد إجمالًا، مادفعها إلى التأكد من حلم راود صديقتها عن شجرة صبار تنبت أعضاءً ذكورية، في حين أن ذلك لم يستثرها، ولم تنجه شجرتها هي في الحلم، والتي تزهر أثداءً أنثوية أن تترك عليها إنطباعًا جنوسيًا مغايرًا.
وإمعانًا في تحرير الجسد وخفته المتهافتة، يأتي موت الأب كمثال لإنهيار المعنى ككل، معنى الحضارة التي لا تتوقف أما الجسد و الروح، فتطالب إدارة المستشفى مارينا أن «تنظف» الغرفة من متعلقاته، ويناقشه «وكيل الدفن» عن إجراءات الدفن وكأنها عملية عرض سلعة وتوابيت وجرار، ويتم شحن الجسد الميت في صندوق بضائع، وكأنه لا معنى له، مادفع مارينا لأن تطلب من صديقتها بيلا ممارسة الجنس مع أبيها قبل موته، لتحقق للجسد البارد، كالمدينة الباردة حلمًا أخيرًا، لأب قال لإبنته قبل وفاته: «لم أترك لك شيئًا تدافعين به عن نفسك».
الجسد والسلطة في السينما
الكاتب : عبد الله البياري
بتاريخ : 25/06/2022