خطة عمل استراتيجية ونظام داخلي جديد
ورش جــديـد لــلإصــلاح
بالحرصِ نَفْسِه على هذا التقليد الشخصي، أحاول أن أقف الموقفَ نَفْسَه تُجاهَ مَهَامّي على رَأْسِ مجلس النواب في المملكة المغربية خلال الولاية التَّشْريعية العاشرة (2021-2016).
وهذه المرة، حاولتُ أَنْ أُشْرِكَ معي عددًا من أطر المجلس في تجميع المعطيات وفتح ما يشبه ورشةً من الحوار الجماعي حول عملنا وأدائنا ونوعية النتائج التي حققناها. وقد وجدتُ من الأصدقاء والزملاء في مجلس النواب روحًا سمحة من الإنصات والتفاعل، إِذْ أدرك الجميع معنى هذا التقليد، وبالخصوص أدركوا أَن ذلك من أجل الإِسهام في لَمْلَمَةِ عناصر ذاكرةٍ مشتركة وترصيد التجربة التي كانت جماعيةً بامتياز من أجل المزيد من فهم واقعنا السياسي في المغرب وتأمل سيرورة نضالنا الديموقراطي في أحد أهم أمكنة الممارسة الديموقراطية.
تحت إدارة بّْرُوسْتْ (1874-1959) الذي أصبح مُشْرِفًا على مصالح الهندسة المعمارية في الفترة ما بين 1913 و1923، تَمَّ وضع التصاميم الخاصة بإنشاء مدن جديدة، تم الشروع في إنشاء المُرَكَّب الإِداري لسلطة الحماية في الرباط وضمنها الإِقامة العامة ابتداء من سنة 1914. وتوقفت الأشغال بسبب دخول فرنسا في الحرب العالمية الأولى قبل أن تُسْتَأْنَف سنة 1917 تحت إِشراف فرق من المهندسين المعماريين، وضمنهم : جان كلود فُوريسْتيِي Jean Claude Forestier (1930-1861)، ألبير لابّْراد Albert Laprade (1883-1978) وأدريان لافورغ Adrien Laforgue (1952-1871) الذي أُسْنِدَت إِليه مَهَمَّة تصميم بناية قصر العدالة (محكمة الاستيناف)، البناية الحالية لمجلس النواب (البرلمان) المغربي.
وأظن أن بناية مجلس النواب كان من حظها أن وضع تصميمها معماري موهوب ومثقف مثل أندريان لافورغ الذي أَحبَّ المغرب ولم يغادره منذ قدومه إليه سنة 1912 إلى أن توفي فيه. ولافورغ من مواليد مونتيفيديو، عاصمة الأوروغواي في أمريكا اللاتينية. وهو للإشارة شقيق الشاعر الفرنسي جيل لافورغ (Jules Laforgue). وحسب علمي، فإن المهندس الفرنسي-المغربي المعروف بـ باتريس دومازيير (Patrice de Mazières ) هو أحد أحفاده. ويعود الفضل إلى أندريان لافورغ في تصميم محطة القطار الرباط-المدينة وسط العاصمة وكاتدرائية سان بيير بالرباط. ومن قوة تصاميمه، ودقة تفاصيلها الهندسية والتقنية والجمالية، يصعب أن يتصور المرء أن هذا المهندس الفرنسي الموهوب كان يحركه وازع كولونيالي فحسب أو ينفذ رؤية المقيم العام، ذلك أن استعمال أقصى ما كان لديه من حِسٍّ فني ورصيد معرفي وثقافي وخبرة تقنية، يَنِمُّ بوضوح عن تعلُّقٍ عميق بالمغرب، بِفضائِهِ وضوئِه ومناخِه وإِنسانِه.
وحتى الآن، لا يشبع نظري من التطلع إِلى هيبة وعظمة هذه البناية الشامخة. ثمة لمسةُ فنانٍ خَلَّاق فعلًا مُنِحَتْ له أرض عارية بمساحة 11130 متر مربع فأقام فيها إحدى العلامات المعمارية اللاَّفِتَة للانتباه وأَنْشَأَ كتلةً سامقةً وشكلًا هندسيًّا طلائعيًّا بالنظر إلى السياق المعماري الذي كان سائدًا آنذاك في عشرينيات القرن العشرين. صحيح، كان مضطرًّا لأن يتجاوب مع دفاتر التحملات التي وُضعت من قبل للبناية ووظيفتها القضائية، لكنَّ رؤيته النَّفَّاذة تخطتها نحو بناء شامخ يجسد سلطة القضاء وهيبته، وأكثر من ذلك يجسد عظمة التعبير المعماري بكل جمالياته ورقة تكويناته ووظائف فضاءاته المختلفة.
صحيح أن البرلمان المغربي في تجربته الأولى سنة 1956 حَلَّ ضيفًا في قصر المامونية، ثم وَجَدَ ملاذًا له خلال ولاية 1963-1965 في كلية العلوم بالرباط، لكن البرلمان سيجد خلال ولاية 1970-1971 القصيرة مكانه الأثير في البناية التي صممها أندريان لافورغ، إِذْ سيستعمل جزءًا من هذه البناية قبل أَن يتخذ جلالةُ الملك الحسن الثاني رحمه الله القرار لاحقًا بتخصيص البناية كلها للمؤسسة التشريعية.
وكما نَذْكُر، ففي سنة 1984 أعطى جلالة الملك الراحل الحسن الثاني طَيَّبَ الله ثَراه تعليماته لإِحداثِ تغييراتٍ على عَدَدٍ من مكوِّنات البناية من الدَّاخِل لكي تتلاءم مع حاجيات ومتطلبات ومهام وطرائق اشتغال المؤسسة التشريعية، وكلَّفَ بهذه المهمة المهندس المعماري الفرنسي أَنْدري بَّاكَّارْ André Paccard (1995-1929). وهكذا أجرى تحويلاتٍ بنيويةً لإحداث قاعة كبرى للجلسات البرلمانية العامة، وكذا قاعات متوسطة وصغرى ومكاتب وممرات وبَهوَيْن، أحدهما علوي والآخر سفلي. فكان هذا التعديل الكبير فرصة للمعماري الناجح لإدماج تكوينات وعناصر ووحدات الهندسة المغربية ببعدها العربي الإسلامي في النسق المعماري القائم في منجز دو لَافُورغْ الأصلي وأتاح للصناع التقليديين المغاربة إِبراز مهاراتهم المغربية وأَصْدَر حولها كتابًا جميلًا فاخرًا وثمينًا أصبح العثور على نسخة منه اليوم من قبيل البحث عن النفائس النادرة، وهو ما يستدعي – من دون شك – تفكير بعضٍ من ذوي الحقوق في إعادة نشر طبعة جديدة له. وتعتبر القُبَّة التي تعتلي قاعة الجلسات الكبرى شاهدًا حيًّا على هذا الإِدماج الموفق للفن التقليدي المغربي ومهارات صُنَّاعه الكبار.
وكان الملك الراحل رحمه الله يتابع الورش الكبير بعناية شخصية وتوجيهات لم تكن تتوقف حرصًا على أن تتحقق الصورة التي كانت في ذهنه، خصوصًا ما كان يتعلق منها باحترام النمط المعماري المغربي الأصيل، سواء من حيث الأَشكال والتناسق مع أسلوب دولافورغ والمواد المُسْتَعْمَلة، إِلى أن تَمَّ البناء بكامل استحداثاته وإِضافاته وتعديلاته للفضاء الداخلي بل والخارجي أيضًا، خصوصًا ونحن نعرف أن تعديلات سابقة كانت قد لَحِقَت بالشرفات الثلاث في الطابق الأعلى أواخر ستينيات القرن العشرين.
ولابد أن أُشِيرَ بدوري، كما سبق وأشار الأخ الأستاذ عبد الواحد الراضي في كتاب سيرته “المغرب الذي عِشْتُه”، إلى أن الملك الحسن الثاني رحمه الله كان يعتزم بناء مُرَكَّب إداري شاسع يضم مؤسسة برلمانية متكاملة وقصرًا للمؤتمرات وإِقامات فاخرة لضيوف المغرب الكبار من ملوك ورؤساء الدول الشقيقة والصديقة، وذلك في المساحة التي شيدت عليها لاحقًا حديقة الحسن الثاني الجديدة بأمرٍ من جلالة الملك محمد السادس حفظه الله، خصوصًا بعد أن كانت فكرة العاهل الراحل قد حالت دون إنجازها الظروف المالية الصعبة التي كان يجتازها المغرب. وبالتالي، سَتَطُول بناية المجلس عدة توسيعات وإصلاحات أساسية بما يتلاءم مع حجم ومكانة المؤسسة التشريعية وسلطاتها وصلاحياتها ووظائفها ومهامها بل وأَذِنَ جلالة الملك محمد السادس حفظه الله بإلحاق البناية المجاورة التي كانت مَقَرًّا للخزينة العامة لتشكل امتدادًا جديدًا لمساحة المجلس، ما وَفَّرَ قاعة كبرى إضافية وعدة قاعات وفضاءات ومكاتب تم الحرص على أن تظل منسجمة مع بناية المجلس وفضائها الداخلي والخارجي.
*
ثم بدأتُ مع زملائي وزميلاتي في مكتب مجلس النواب العمل اليومي المكثف لاستدراك الوقت الضائع خلال أشهر أزمة تشكيل الأزمة الحكومية، وذلك مباشرة بعد انتخاب الهياكل السياسية لمجلس النواب. طبعًا، الاختصاصات الدستورية والمهام السياسية البرلمانية كانت واضحة تمام الوضوح في ذهني وفي أذهان الجميع، إِن تَعَلَّق الأَمر بالتشريع أو بالمراقبة أو تقييم السياسات العمومية أو تَعلَّق بالدبلوماسية البرلمانية أو بالأنشطة ذات الصلة بالإِدارة واللوجستيك. ومن منطلق كون العمل البرلماني ورشًا متجدِّدًا ويحتاج باستمرار إِلى دعامات جديدة، وروح وأفق جديدَيْن، كان ينبغي التفكير فورًا في بلورة عدة آليات وأدوات تمكننا من تأهيل ممارساتنا الديموقراطية وتقوية رصيدنا البرلماني انسجامًا مع السقف الدستوري، وتجاوبًا مع انتظارات شعبنا وبلادنا، وكذا ما تتوقعه منا الفعاليات السياسية الوطنية والمكونات الدستورية الشريكة والمجتمع المدني من خلال المنظمات والجمعيات ذات الصلة بالعمل النّيابي والبرلماني عمومًا.
وكانت تلمع في ذهني، وبوضوح أيضًا، فِكْرةُ أنني وزملائي لن نَبْدَأَ عَمَلَنا من الصِّفْر، فهناك تراكم ينبغي مواصلة العمل على هَدْيِهِ، والسعي إلى إِثرائه بالإِضافة أو بالتعديل والمراجعة. وهناك تجربة ينبغي استحضارها من هذا التراكم الإِيجابي، وأقصد تجربة مجلس النواب في وضع الخطط وبرامج العمل، والتي كانت قد أصبحت ضمن مستلزمات العمل البرلماني خلال كُلِّ ولاية تشريعية. وهو تقليد يُتَوَخَّى منه الرفع من نجاعة العمل البرلماني وترسيخ مكانته المؤسساتية والتمثيلية.
وهكذا، فتحتُ استشارات مع مختلف الهياكل السياسية لمجلسنا حول أفق إِعداد خطة عمل مجلس النواب برسم ما تبقى من الولاية التشريعية. وبالفعل، وبعد حوار استغرق عدة اجتماعات مُثْمِرة على مستوى إِدارة المجلس وتحديد الخطوط العريضة للخطة، شَكَّلْتُ خليةً محدودةَ العَدَد من ثلاثة أطر إِلى جانب الكاتب العام للمجلس، وذلك لإعداد مسودة أولية تحت مُسَمَّى “خطة عمل مجلس النواب برسم 2018-2021”. وكان علينا أن نعيد قراءة الخُطَّتَيْن السَّابقَتَيْن اللتين أُنْجِزَتَا خلال ولاية واحدة، الولاية التشريعية التاسعة، “الخطة الاستراتيجية لتأهيل وتطوير عمل مجلس النواب” التي اعتمدت في دجنبر 2012، في ظل رئاسة السيد كريم غلاب، ثم الخطة الاستدراكية المحينة “المخطط الاستراتيجي لمجلس النواب” برسم النصف الثاني من الولاية، في ظل رئاسة سَلَفِي السيد راشيد الطالبي العلمي. وتكريسًا لهذا المسار، وكما قلتُ، فقد تم إعداد المُسَوَّدَة الأولى من خطة العمل الجديدة باستحضار التخطيط الاستراتيجي السابق، ورصد المنجز ومستجدات العمل البرلماني في بلادنا ومقتضيات النص الدستوري الجديد، فضلًا عن استلهام الممارسات البرلمانية الدولية التي أبانت عن قيمة نوعية في هذا الإطار.
*
من جانب آخر، وبموازاة التحضير لإعداد الخطة، قررنا تعديل النظام الداخلي لمجلس النواب على نحو أعمق، وذلك لأن مقتضيات هذا النظام تبقى مرجعًا موجِّهًا لعملنا كُلَّ يوم وفي كل خطوة انسجامًا مع دستور البلاد روحًا ونصًّا ومع القوانين التنظيمية ذات الصلة.
وتظهر أهمية هذا النص أولًا في مكانته الدستورية الواضحة، إذْ أشار إليه دست ور 2011 ثَمَانَ (8) مراتٍ. كما أن قيمته تفرضها أهمية تنفيذ المقتضيات العامة، فضلًا عن الإِشارات الملكية في الخُطَب السامية الـمُوَجَّهة إِلى البرلمان، والتي تضمنت توجيهات واضحة قصد إِيلاء الاعتبار لتنسيق عمل غُرفَتَيْ البرلمان وإقرار مدونة للسلوك البرلماني ؛ هذه العملية التي لا يمكن إنجازها في الواقع إلَّا إِذا تم إِسْبَاغ طابع الإِلزام القانوني عليها، وبالتالي تأطيرها داخل النظام الداخلي.
وكان علينا أن ننطلق من النظام الداخلي السابق الذي كان قد عَرَفَ إِصلاحًا شموليًّا خلال بداية الولاية التشريعية التاسعة، مباشرةً بعد إِقرار دستور المملكة في يوليوز 2011، وتمثلت أهدافُ الإِصلاح آنذاك بالخصوص في ملاءمة النظام الداخلي مع المستجدَّات الدستورية الجديدة والقوانين التنظيمية ذات الصلة، فضلا عن استحضار منجز وممارسة التجارب البرلمانية السابقة ونتائجها.
وانطلاقًا من ذلك، عمدنا إلى فتحِ ورشٍ جديدٍ لإصلاح وتحيين النظام الداخلي للمجلس على نحو يستوعِب مستجدات الواقع البرلماني والحاجيات والرغبات الجديدة، وذلك في إطار مقاربة تشاركية لمختلف المكونات السياسية للمجلس. وتجسيدًا لهذه الروح شكلنا لجنة النظام الداخلي التي عُهِد إليها النظر في مقترحات التعديلات المتعلقة بالنظام الداخلي للمجلس.
ونظرًا لكون هذه اللجنة بدت لنا موسَّعة جدًّا، إذ تتألف من رئيس المجلس وأعضاء المكتب ورؤساء اللجن النيابية الدائمة ورؤساء الفرق والمجموعة النيابية، آثرنا أن نكتفي بلجنة تقنية محدودة العدد وتمثل جميع الفرق والمجموعة النيابية من أجل البت في التعديلات المقترحة لتعديل النظام الداخلي، والتي اشتغلت بروحِ الزَّمالة والاحترام والتَّوافق.
وشَمَلَ الإِصلاح الذي أدخلناه على النظام الداخلي للمجلس عدة مَحَاور هَمَّتْ بناءَه كَكُلّ مَبْنًى ومَعْنًى، فَعَلَى مستوى المَبْنَى أُضيفتْ أجزاء وأبواب وفروع جديدة. كما انضافت 112 مادة جديدة، وتم تعديل وتصحيح 144 مادة. أما من حيث المَعْنَى فقد أَولينا اهتمامًا لجملة من المبادئ والمفاهيم كالحصانة البرلمانية التي أضفنا إليها مقتضيات واضحة للشرح والتوضيح، وكذا لإبداء الرأي وربطه بالمواقف والاقتناعات التي يعبّر عنها النائبات والنّواب داخل المجلس وخارجه. وتركز الإِصلاح أيضًا على جملة من المبادئ العامة المُتَعَارَف عليها في الممارسات البرلمانية الديموقراطية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر : التعددية السياسية أو الديموقراطية، مبدأ المناصفة، تمثيلية المعارضة، تمثيلية النساء، تمثيلية الشباب، وذلك في إطار المشاركة العادلة المتوازنة لمختلف مكونات المجلس.
وفي ما يخص انتخاب واختصاصات أجهزة وهياكل المجلس أضفنا مقتضًى جديدًا باستبدال المترشح الأصغر سنًّا في حالة تعادل الأصوات بالمترشِّحِ الأكبر سنًّا، وذلك اعتبارا لأهمية مؤسسة الرئاسة والتجربة التي يتعين أن يتحلَّى بها المترشِّحُ إلى الرئاسة. كما تم التنصيص على نمط اقتراعٍ جديد لانتخاب أعضاء المكتب ورؤساء اللجن النيابية الدائمة من خلال النَّص على علانية اقتراع أعضاء مكتب المجلس ورؤساء اللجن الدائمة.
وبخصوص اختصاصات رئيس مجلس النواب، أفردنا بابًا جديدًا يتضمن مقتضيات جديدة توضح مهام الرئيس ووظيفته الدستورية، ومن بينها عقد لقاءات تشاورية مع رؤساء الفرق والمجموعات النيابية. وبالنسبة إلى اختصاصات مكتب المجلس، تم التنصيص على مهام جديدة منها تفعيل المقتضى الدستوري المتعلق بالأمازيغية، وتم كذلك إعمال مقتضيات إجرائية يتولى مكتب المجلس العمل بها بخصوص هذه اللغة الرسمية، توزيع المهام على مرحلتين، في مستهل وفي منتصف الولاية التشريعية، وكذا تحديد الضوابط المرجعية الواجب اتباعها في علاقات المجلس الخارجية، وإمكانية إدراج نقط في جدول أعمال المكتب، ووجوب تمثيلية الشباب في أجهزة المجلس، فضلًا عن المساواة والمناصفة باستكمال المادة 75 بما يتطابق مع قرار المحكمة الدستورية. أما بخصوص اللجن الدائمة، فأشرنا إلى أن اللجن الفرعية المنبثقة عن اللجن الدائمة تقوم بوظيفة تتبع شروط تطبيق نصٍّ تشريعي وتقييم الأثر على المجتمع وتتبع إصدار المراسيم، وإضافة الطلب المقدم إلى رؤساء الفرق أو المجموعات النيابية لعقد اجتماعٍ مشترك بين اللجنتين. وبخصوص إصلاح الدور الاستطلاعي للجن الدائمة، ألْحَحْنا على أن يدخُل موضوع الاستطلاع في اختصاص اللجنة، وأن يضع المكتب لائحةً داخليةً لتنظيم هذه الأشغال والضوابط والشروط الواجب التقيُّدُ بها، فضلًا عن تحديد وظيفة المقرِّرين في جردِ تعهُّدات الحكومة خلال أشغال اللجن. وعن مجموعات العمل الموضوعاتية، نظمنا مسألة إسناد الرئاسة، وحدَّدنا وظيفة المكتب في ضبط التكليف بالمهمة أثناء قرار الإحداث.
وهناك بالطبع تفاصيل أخرى كثيرة حول سلطة التشريع والمساطر، وحول اللجن النيابية، وحول البعد القاري للعمل البرلماني، وتنزيل مقتضيات القوانين التنظيمية، خصوصًا ما يتَّصِل بمشروع قانون المالية، والملتمسات في مجال التشريع، والعرائض، وأضفنا حالة العضو في المجلس الأعلى للسلطة القضائية إلى حالات التنافي، وكذا حول العلاقات بين غرفتي البرلمان، ومراقبة العمل الحكومي، والدبلوماسية البرلمانية، والعلاقة مع المؤسسات الدستورية، بالإضافة إلى تعديلات وإضافات جديدة تشمل حقل الدراسات، وذلك بإحداث مركز للدراسات والأبحاث البرلمانية، والإشعاع الإعلامي البرلماني ومدونة السلوك والأخلاقيات البرلمانية، فضلًا عن تنظيم الجلسات التي أضفنا إليها مقتضى جديدا يخصُّ ترديد النشيد الوطني المغربي في افتتاح الدورة الثانية من السنة التشريعية (دورة أبريل) ومحدِّدات إضافية لضبط احترام نظام القاعة وسير الجلسات ونظام تداول الكلمة، وتناول الكلمة بالأسبقية لرؤساء الفرق في ما يتعلق بنقطِ النظام. كما شَمَلتْ التعديلات تصويبات متعددة على المستوى اللغوي والاصطلاحي والتركيبي حرصًا على سلامة وجودة النَّص والتطابق مع المصطلحات القانونية المعيارية.
*
والواقع أن ورشة إصلاح النظام الداخلي سبقت في عملها اللجينة المكلفة بإعداد مسودة خطتنا الاستراتيجية. لذا أصبحنا، بعد مرحلة الإِعداد العملي للوثيقة المرجعية المنشودة، أَمام نَصٍّ جيِّد لخُطة استراتيجية من أربعة مَحَاور و131 إِجراءً وتدبيرًا تَقَرَّر عرضها على مختلف الهياكل السياسية للمجلس من مكتب ورؤساء الفرق والمجموعة النيابية ورؤساء اللجن النيابية قصد مناقشتها وإغنائها بالملاحظات والاقتراحات. وبعد تجميع مختلف الأفكار تمت الصياغة النهائية لخطتنا الاستراتيجية، ثم أعيد عرضها على أنظار أعضاء مكتب مجلس النواب قصد المصادقة عليها.
وقبل أن أقدم الخطوط العريضة لخطة العمل الجديدة، ينبغي أن أقول إنها لم تكن تكتسي بُعدًا تقنيًّا، وإِنما هي ورش تَوخَّيْنا من خلاله أن نكرس أكثر العمل البرلماني في الفضاء الدستوري والسياسي والمجتمعي، إذ كنا أمام ولاية تشريعية لها خصوصيات، فهي الولاية التشريعية الثانية التي تأتي في أعقاب إقرار دستور المملكة الجديد. كما كان أمامنا برنامج عمل غني، وفي مقدمته استكمال الورش الدستوري الذي انطلق سنة 2011 وتأخرت المصادقة على بعض قوانينه التنظيمية العالقة والقوانين المُنَظِّمَة لعدد من المؤسسات الدستورية، فضلًا عن مهامنا في تطوير مشروعنا الديموقراطي الذي يتَغَذَّى أساسًا – لكي لا نَنْسى ذلك – من ممارساتنا البرلمانية اليومية، ومن دينامية وأَداء وإِنتاج المؤسسات الدستورية الوطنية وضمنها المؤسسة التشريعية. وفي العمق، أردنا أن نتوفر من خلال هذه الخطة على خريطة طريق توضح لنا الرؤية، وتمنحنا تصورًا شاملًا حول عمل برلماني متجدد متفاعل مع محيطه وسياقه السياسي والمجتمعي، وتجعلنا نشتغل على أساس ترصيد التراكم البرلماني، وننفذ مختلف المشاريع والإجراءات والتدابير بفعالية ونجاعة وحكامة جيدة، وبِبُعْدِ نظر وحرص على تعزيز مكانة مؤسستنا.
هكذا إذن وَضَعْنَا لهذه الخطة أُسُسًا ومرتكزاتٍ هي :
أولًا: الاستناد في ممارستنا البرلمانية على ثوابتنا الوطنية.
ثانيًا : ترسيخ مشروعية التمثيل الديموقراطي بكل أبعاده الفلسفية والفكرية والثقافية والسياسية والدستورية والقانونية.
ثالثًا : تكريس علاقة التوازن والتعاون بين السلطة التشريعية وباقي السلط الدستورية.
رابعًا : تكريس استقلالية السلطة التشريعية.
خامسًا : تكريس الممارسة السياسية والبرلمانية المبنية على التعددية، والحرص على تمكين المعارضة البرلمانية من ممارسة حقوقها الدستورية.
سادسًا : بناء علاقات تشاور وتعاون مع باقي المؤسسات الدستورية وهيآت الحكامة.
سابعًا: السعي الجاد إِلى تكريس الديموقراطية المُواطِنَة ومبادئ الديموقراطية التشاركية من خلال إعمال المقتضيات الدستورية والتشريعية ذاتِ الصلة.
وحددنا الهدف لخطتنا : أي برلمان نريد ؟ وثمة إِجابات متعددة، لكننا حددناها في أن يمارس مَجْلِسُنا، باعتباره مؤسسةً دستورية، اختصاصاتِهِ باستقلالية ومسؤولية وفعالية، وأن يتفاعل مع محيطه الوطني والخارجي، وذلك عبر : ممارسة هذه الاختصاصات باستقلالية وفعالية في الممارسة والإنتاج، والرفع من وتيرة التشريع والعمل على تجويد مشاريع النصوص القانونية، وإِتقان العمل الرقابي وتقوية فعاليته، وتكريس الاختصاص البرلماني في مجال تقييم السياسات العمومية كمرجع رئيسي في الممارسة الوطنية في هذا الإطار، اليقظة والاستباق والإسهام المؤثر والنوعي في ديلوماسيتنا البرلمانية، سواء على مستوى علاقاتنا البرلمانية الثنائية أو متعددة الأَطراف، ثم أداء مهامنا والقيام بالوظائف البرلمانية بشفافية وبتفاعل وتجاوب ومواكبة لانشغالات المجتمع تجسيدًا لمفهوم برلمان القرب.
وكنا واعين بالسياق العام الذي كان يحيط بوضع الخطة، كما أثبتنا ذلك في نص الخطة ذاتِهِ، إِذْ جاء ذلك في سياق الإصلاحات الكبرى التي أعقبت المصادقة الشعبية على الدستور الجديد في يوليوز 2011، والتي اعتمدتها بلادنا بإرادة وطنية قوية لتحقيق تنمية سياسية وتطوير أداء مؤسسات الدولة، وتعزيز بناء مجتمع ديموقراطي متضامن ومنفتح على مختلف الثقافات والحضارات الإنسانية بما في ذلك استيعاب التحولات الفكرية والنظرية التي تَعْرفُها النظرية الديموقراطية على الصعيد الدولي، وتنامي حجم الأنظمة الديموقراطية في العالم، وتزايد دور البرلمانات في تأطير النقاش العام، وكذا الوعي بالمخاطر وعناصر التهديد المحيطة بالفكرة الديموقراطية وبالديموقراطية التمثيلية تحديدًا. كما تميز السيَّاق السياسي الجديد آنذاك بالتوجه نحو توسيع مجال القانون وتعزيز آليات المراقبة البرلمانية، ودعم اختصاصات المؤسسة التشريعية في مجال تقييم السياسات العمومية… وما إلى ذلك.
وكان واضحًا بالنسبة إلينا على ضوء خبراتنا وسيرورة العمل البرلماني في المغرب، أن الانخراط في السياق السياسي الجديد أصبح يتطلب من مجلس النواب تجديدًا متواصلًا في الرؤية، وفي منهجية العمل، وفي وضع الأولويات، وفي السعي إلى توفير الإمكانيات والوسائل الضرورية للتنفيذ، وللرفع من قُدُراتِ مؤسَّسَتِنَا، تأطيرًا وتحديثًا وفعاليةً وإِقدامًا واستباقًا، وإلَّا لن نكون قادرين على بناء مؤسسةٍ برلمانية تنتمي إلى عصرها، وإلى المستقبل.
وبالطبع، فإِنَّ لِهذَا الخيار الاستراتيجي الجديد مرجعياتِهِ الثابتة وعلى رأسها المقتضياتُ الدستورية التي توفر لنا وثيقةً مرجعيةً أساسية من حيث مكانةُ البرلمان الاعتباريةُ ووظائِفُهُ الدستورية، سواء على مستوى التشريع أو على المستوى الرقابي أو تقييم السياسات العمومية أو من حيث علاقاتُه مع مختلف السُّلَط والمؤسسات والهيآت.
وشكلت خطب جلالة الملك وتوجيهاته ذاتِ الصلة بالعمل البرلماني مرجعًا أساسيًّا في وضع كل خطة استراتيجية جديدة لمجلس النواب. وقد أشرنا ضمن المرجعيات في نَصِّ هذه الخطة تحديدًا إِلى تأكيد جلالة الملك محمد السادس، في خطاب جلالته بتاريخ 14 أكتوبر 2011 أمام أعضاء مجلسَيْ البرلمان في افتتاح الدورة الأولى من الولاية التشريعية الثامنة، على أن عِمَاد المؤسسات الجديدة يقوم على “برلمان قوي، مُعَبِّر عن الإِرادة الشعبية الحرة، يمارس صلاحياته التشريعية الحصرية والرقابية الواسعة، وينهض بدوره الفاعل في المجال الدبلوماسي خدمةً للقضايا العادلة للأمة وفي طليعتها قضية وحدتنا الترابية”.
وفضلا عن ذلك هناك القوانين التنظيمية التي تُكْمِلُ وتُتَمِّمُ نصَّ الدستور، والتي لها قيمتُها وسلطتها المرجعية. كما أن النظام الداخلي لمجلس النواب يُشَكِّلُ مرجعًا يوميًّا مُوَجِّها لعملنا داخل المجلس، إذ إنه ليس مجرَّد وثيقة تقنية لتنظيم عمل المؤسسة النيابية وتأطير أشغالها على أهميتهما، وإنما يشكل، بالقوَّة وبالفعل، أساسًا مرجعيًّا مهمًّا لمواصلة تحسين أداء المجلس وضمان فعاليته في ممارسة مهامه الدستورية، والسُّمو بالمؤسسة النيابية بأبعادها الرمزية والديموقراطية والحضارية.
فإذا كان المجلس قد شهد منذ سنة 2011، أي بعد إقرار دستور جديد للمملكة، عددا من المراجعات لنظامه الداخلي، وكانت في كثير من الأحيان مراجعات لتحقيق نوع من الانسجام مع الواقع الدستوري الجديد، إلا أننا خلال هذه الولاية التشريعية آثرنا أن نُعطِيَ العمل البرلماني روحًا جديدة ونَفَسًا متجددًا، وذلك تماشيا مع خصوصية المرحلة وآفاقها الواسعة.
وفي هذا الصدد، واستحضارا للمقاربة التشاركية في بلورة هذا الورش البرلماني المهم، قررت مع زملائي في مكتب المجلس أن نراسل الفرق والمجموعة النيابية قصد إبداء مقترحاتها وملاحظاتها حول المشروع الجديد.
غير أن طموحنا كان أقوى سواء في التطرق لمحاورَ تَهُمُّ الاختصاص التشريعي والرَّقابي وتقييم السياسات العمومية، وكذا في عدد من المَحاوِر التي تم التنصيص عليها في الوثيقة الدستورية، وذلك لأول مرة في تاريخ المؤسسة البرلمانية، لا سيما تلك المرتبطة بالانفتاح على المؤسسات الجامعية، وإحداث المركز البرلماني للدراسات والأبحاث، والعلاقة مع المجتمع المدني، ومع الصحافة والإِعلام بشكل عام.. وغيرها. وكان هذا الورش بالفعل فرصةً للانتقال من نظام داخلي يتكون من 249 مادة خلال الولاية التشريعية التاسعة الى 369 مادة في الصيغة الجديدة لهذا النظام الداخلي. وكان الخيط الناظم لمجمل هذه الإصلاحات الشاملة والعميقة هو تعزيز مكانة المؤسسة النيابية وتكريس دورها في المشهد السياسي، وفي تقوية الديموقراطية التمثيلية والممارسات البرلمانية.
وضمن المرجعيات المُعْتَمَدة أيضًا، هناك الممارسات البرلمانية النموذجية التي نواكبها ونستَلْهِمُها في وضع خططنا وتصوراتنا، وذلك عَبْرَ المواكبة المتواصلة والمُتَابَعَة المباشرة من خلال إرسال أطرنا وكفاءاتنا في مجلس النواب إِلى بعض المنتديات واللقاءات التكوينية للتعرف عن قرب على مختلف التجارب أو من خلال تبادل الخبرات في الندوات والمؤتمرات واللقاءات التي دَأَبَ مجلسُ النواب على تنظيمها في الرباط. ولا حاجة إلى القول إن استلهام مثل هذه التجارب البرلمانية المختلفة في العالم يتم بمراعاة كاملة لرصيدنا الذاتي وتراكمنا الوطني في الممارسة البرلمانية، ومراعاة نظامنا الدستوري وسياقنا السياسي والسوسيو-ثقافي الوطني، وإن شئنا القول أخذ خُصُوصية العمل البرلماني في المغرب بالاعتبار، ذلك لأن مثل هذا التفاعل لا يُعَبِّر بالضرورة عن نَقْصٍ في الخبرة، وإِنما يترجم إِرادة قوية في مواكبة ما يحدث في جهات العالم البرلمانية والتَّفاعل مع التجارب الأخرى والانفتاح على التطورات والتحولات والمُسْتَجدَّات المتعددة في هذا الإطار.
وتوزع محتوى هذه الخطة الجديدة على أربعة محاور أساسية :
أولها : تقوية ممارسة اختصاصات المجلس التشريعية والرقابية وفي مجال تقييم السياسات العمومية والدبلوماسية البرلمانية خصوصًا من خلال تمكين النائب من القيام بمهامه. وذلك باعتماد ستة برامج، كل برنامج قائم على جملة من التدابير، كل تدبير له هدف واضح ومسطَّر داخل الخطة. وهذه البرامج هي :
الارتقاء بالوظيفة التشريعية لمجلس النواب إنتاجًا وجودةً ومبادراتٍ.
الحرص على إعمال جميع آليات الفعل الرقابي بما ينتج الأثر المتوخى ويكرس مبدأ المحاسبة.
ممارسة اختصاص تقييم السياسات العمومية على أساس النجاعة والفعالية وترصيد مخرجات التقييم.
الرفع من قدرات أعضاء المجلس الدبلوماسية والترافعية في انسجام مع الدبلوماسية الرسمية.
توفير الدعم اللازم لأعضاء المجلس من خلال آليات الخبرة والاستشارة.
تكريس الوضع الاعتباري للنائبات والنواب.
المحور الثاني : تكريس المكانة الدستورية لمجلس النواب، وذلك من خلال تقوية علاقة مجلس النواب مع مجلس المستشارين وعلاقة المجلس مع السلطتين التنفيذية والقضائية، فضلا عن علاقات المجلس مع المجالس والهيآت الدستورية الأخرى؛ وذلك عبر أربعة برامج :
تكريس البرلمان الواحد بمجلسين.
علاقة فصل (استقلالية) وتعاون وتوازن مع السلطة التنفيذية.
أجرأة المقتضيات الدستورية والتشريعية في شأن علاقة مجلس النواب مع السلطة القضائية.
الاستثمار الأمثل لآليات التشاور والحوار مع الهيآت الدستورية.
المحور الثالث : تكريس البرلمان المنفتح والمتفاعل مع محيطه وسياقه، وذلك عبر ثلاثة برامج هي :
تفعيل الآليات الدستورية المتعلقة بالملتمسات في مجال التشريع وتلقي عرائض المواطنين.
الانفتاح على الخبرات والكفاءات المؤسساتية لاستثمارها في تطوير الأداء البرلماني.
آليات جديدة في مجال التواصل والإعلام وتكريس مبدأ الحق في الولوج إلى المعلومة واستعمالها.
المحور الرابع : تأهيل بنيات الإدارة ومواردها البشرية على أساس الحكامة الجيدة. ووضعنا لهذا المحور ستة برامج هي :
إعادة هيكلة الإدارة لتواكب المهام والوظائف الجديدة للمجلس في إطار منظام (Organigramme) ملائم وجديد في معظم تفاصيل بنائه ووظائفه وأهدافه.
تأهيل وتكوين الموارد البشرية واستقطاب كفاءات وخبرات جديدة وفق تدبير مرن وفعال.
تدبير إداري ومالي شفاف يتلاءم مع المعايير الدولية للإدارات البرلمانية.
تسريع وتيرة رَقْمَنَة المؤسسة وتيسير استعمالات هذه الرَّقْمَنة في مختلف مهام واختصاصات المجلس ومهن الإدارة.
البرلمان الإيكولوجي والنجاعة الطاقية.
تعزيز أمن البنايات والأشخاص بمجلس النواب.
ودون أن أُوغِلَ أكثر في عرض تفاصيل هذه الخطة الاستراتيجية، وفي تقديم تدابيرها وهي تتخطى المائة والثلاثين تدبيرًا، خصوصًا وأن هذه الوثيقة متاحة في مكتبة مجلس النواب لمن يرغب في الإطلاع عليها، فإن ما يهمني بالأساس في هذا السيّاق هو أن التخطيط الاستراتيجي في عمل مجلس النواب بدأ يترسخ بالفعل في الممارسة البرلمانية ويجعل الجميع مقتنعين بأن العمل داخل المؤسسة التشريعية محكومٌ لا فقط بمقتضيات الدستور والنظام الداخلي للمجلس بل أيضًا بخطة عمل يتم وضعها واعتمادها بصفة جماعية، وتشكل خريطة طريق لأداء مجلس النواب وتأهيله وتطويره والرفع من إِنتاجيته الوظيفية، في التشريع ومراقبة العمل الحكومي وتقييم السياسات العمومية وخلق ديناميات على مستوى الدبلوماسية البرلمانية.
إِنَّ الخطط الاستراتيجية منذ 2012 على الأقل وفرت أداةَ عملٍ حقيقية تحدد أهداف الولاية التشريعية، وترسم الخطوط العريضة لمسار تحقيق هذه الأهداف، وتُحدِّد نوعية البرامج والتدابير والأوراش، وتحرص على ضبط إِيقاعها وواقعيتها وسقوفها الزمنية، ومَنْ يتكلَّف بماذا، وأيضًا كلفة كل ورش في طبيعته ونوعيته وحجمه وتوقيت تنفيذه بالنظر إلى المدة المحددة للولاية التشريعية.
طبعًا، لا أقصد أن العمل البرلماني قبل 2012 كان قائمًا على الارتجال، وإِنما أصبح التخطيط الاستراتيجي، منذ هذا التاريخ، يُقيَّدُ في وثيقةٍ مرجعيةٍ توفر لجميع مكونات المؤسسة إِمكانية الإطلاع بوضوح على خرائط الولاية التشريعية، وعلى كل المستويات بل ويمكن للملاحظين والمهتمين وعموم المواطنين أن يطلعوا على محتوى العمل اليومي الذي ينجزه نواب الأمة داخل وخارج المجلس، وأيضًا داخل وخارج المغرب، خصوصًا وأن المؤسسة التشريعية توجد على الدوام تحت مراقبة الرأي العام والملاحظة الشعبية، وجميع أعمالها وأنشطتها لها كلفة مالية تُسْتَخْلَص من المالية العمومية. وبالتالي، لا يمكن لعمل مؤسساتي كالعمل البرلماني أَلَّا يكون مُعَقْلنًا، مُنَظَّمًا ومُخَطَّطًا له ومحكومًا بمرجعيات ومُوَجِّهاتٍ ومُحدِّداتٍ واضحةٍ ومُتَوَافَقٍ أو مُتَّفَقٍ ومصَدَّقٍ عليها. وأعرف بالتجربة أن العمل البرلماني من قبل، حتى حين كان لا يتوفر على خطة عمل استراتيجية، كان في العمق يشتغل وفق توجهات ومبادئ مُحدَّدة تؤطر عمله ونشاطه، وإلَّا كيف كانت تتحقق تلك اللحظات القوية والمضيئة في تاريخنا البرلماني الوطني، والتي جعلت بعض رؤساء مجلس النواب يتحملون مسؤوليات قيادية على رأس مؤسسات ومنظمات برلمانية مغاربية وعربية وأفريقية ومتوسطية وأورو-متوسطية بل وتحمل رئيس أسبق لمجلس النواب رئاسة الاتحاد البرلماني الدولي، الأخ الأستاذ عبد الواحد الراضي ؟
كان يكفي في الماضي أن تتوفر الإرادة الوطنية وتتوفق وجهاتُ النظر حول الأهداف والمقاصد والمصالح العليا للبلاد لتتحرك الآلة البرلمانية بدون مرجعية استراتيجية مكتوبة ؛ ولكن الخَطَّ كان واضحًا، والسَّقفَ كان معلومًا، وكذا الضمانة، والاحترام، والتوقير، والواجب الوطني، والإلزام المؤسساتي والتلاؤم بين المقاصد والإمكانيات المادية المتاحة. وطبعًا، كانت هناك هفوات وأخطاء وعثرات تَحْدُثُ من حينٍ لأخر ليس بالضرورة لانعدام أي تخطيط استراتيجي مسبق، وإنما للشروط والظروف التي كانت تطبع حياتنا السياسية، وربما لمستوى بعض “البّْروفَايْلاتْ” التي كانت تُفْرزُها الانتخابات التشريعية في الماضي، وأظن أنها لا تزال ممكنة حتى اليوم بالنظر إلى طبيعة نسيجنا السوسيو-ثقافي والخلفية التربوية والتعليمية السائدة… وغيرها، وإن تَحسَّنَ الوضع على العموم بتوافد فئات وشرائح جديدة على العمل البرلماني، خصوصًا من النّساء والشباب ومن ذوي المستويات الدراسية المتقدمة والجامعية.
وأظن أن علينا، ونحن نفكر في مستقبلنا السياسي والديموقراطي الوطني، أن نفكر في المزيد من صيغ التربية على الممارسة البرلمانية بالانفتاح على جمهور أوسع من الأطفال والشباب الذين سيتشكل منهم مواطنو ومواطنات مغرب الغد، وتربيتهم على العملية الانتخابية، وعلى عمل المؤسسات الدستورية، وعلى أُلْفَة التمثيل الديموقراطي واحترام نسقه وآلياته، وعلى معنى وظائف التشريع والمراقبة. ومن هُنَا جدارةُ فكرة برلمان الطفل الذي تترأسه صاحبة السمو الملكي الأميرة الجليلة لالة مريم. ولِمَ لا نفكر في برلمان للشباب بالانفتاح على المنظمات والجمعيات ومكونات المجتمع المدني في بلادنا ؟ وكذا تعزيز دور المدرسة في هذه التربية على المُوَاطَنة وفي تنشيط الحياة المدرسية بمهام تربوية جديدة تستهدف أسس الخبرة الديموقراطية لدى النشء الجديد. فلا ينبغي أن نبقى مكتوفي الأيدي أمام ظواهر مرفوضة وهي تتزايد وتفترس تطلعات وأحلام وخيالات أجيالنا الصاعدة.
أُقَدِّرُ أيضًا، في الاتجاه نَفْسِهِ، أهمية انفتاح مجلس النواب على جمهور تَلامِذَة المدارس وأطفال الجمعيات التربوية الوطنية، خصوصًا الرحلات المدرسية والجمعوية المنظمة والزيارات التربوية إلى مقر المجلس في الرباط، ومتابعة بعضهم لبعض الجلسات العامة والتنقل بين أروقة وممرات وقاعات المجلس وفضاء الذاكرة البرلمانية الذي نأمل أن يكبر إن شاء الله ليصبح متحفًا برلمانيًا حقيقيًا، وهو ما يساهم في تقوية القاعدة التربوية لدى هذا الجمهور اليافع. وهذا أفق لا ينبغي أن نتراجع عنه بل ينبغي توسيعه أكثر فأكثر، وإعداد المزيد من رسائل التوضيح الموجهة لتلامذة المدارس وإلى نساء ورجال التعليم لاستغلالها في مختلف التَّعَلُّمات الملائمة للتربية على الديموقراطية التمثيلية وعلى العمل المؤسساتي ؛ وحين لا تأتي الأجيال الجديدة إلى البرلمان على البرلمان أن يتجه صَوْبَها بمختلف الوسائل الإعلامية والتواصلية والتربوية. هذا دون أن أغفل ذِكْر الجهد الذي بذلناه في التواصل مع الفضاء الجامعي طلابًا وأساتذة، والفضاء الإِعلامي الوطني، وعدد من أفراد النخبة المغربية المهتمة بالعمل البرلماني…، وذلك ما سأعرض له في فصلٍ آخر من هذا الكتاب.
في سيَّاقٍ آخر، وضمن متطلبات الهيكلة الجديدة التي تَمَّ اعتمادُها لاحقًا، تم توظيف شَابَّيْن في هذه الوظيفة، وهما السيدان : جمال الهَبْري (من مواليد سنة 1994 بمكناس) وإبراهيم بُورَسْ (من مواليد سنة 1987 بتيزنيت).
لمزيد من التفاصيل والتدقيقات، أنظر الكتاب الجميل (le beau livre) الذي أصدرناه في مجلس النواب : مجلس النواب – تاريخ وتراث، الفصل الخاص ببناية المجلس الذي حرَّرَه محمد مْطَالسي – تقديم الحبيب المالكي، الرباط – 2018.
عبد الواحد الراضي : المغرب الذي عشته – المركز العربي للكتاب، الدار البيضاء – الطبعة الأولى، 2017 – ص 597.
أنظر نص هذه الخطة ضمن منشورات مجلس النواب برسم الولاية التشريعية 2016-2021.