«الحصار الفايسبوكي» لكريمة دلياس

هل نحن مواطنون أحرار في الفايسبوك؟

 

الذين يعرفونني حق المعرفة، يعلمون أني شديد الالتزام بالقراءة المنهجية واحترام الأعراف النقدية في تقديم أو عرض أي عمل أدبي، لكن اسمحوا أن أنزاح لأول مرة عن هذه القاعدة في مستهل هذه القراءة لأستعمل وصفا عاطفيا في حق الأديبة كريمة دلياس، وأقول عنها إنها «كاتبة شجاعة».
هناك فرق بين أن تكتب عن الشجاعة، وبين أن تكون كاتبا شجاعا.
كريمة دلياس، في كتابها «الحصار الفايسبوكي» الصادر عن دار النشر افريقيا الشرق لسنة 2023، لم تؤلف كتابا في «مديح الشجاعة» كما روجت لها أخلاقيات أدب النبالة والفروسية.. بل ألفت كتابا في «إدانة الجبن الأخلاقي» الذي يطبع سلوكيات الممارسة الإعلامية لأكبر مؤسسة تتحكم في الرأي العام عبر الوسائط الإعلامية، وهي المؤسسة الجبروتية، المعروفة باسم «الفايسبوك».
كلنا مواطنون فايسبوكيون، بالضرورة وبالقوة، الإدارات ومصالح التشغيل في مختلف ولايات أمريكا تشترط إثبات صفحة الفايسبوك ضمن وثائق الهوية المهنية؛ ثلاثة أرباع عدد جمعيات المجتمع المدني في المغرب تعتمد الفايسبوك وخدماته قناة تواصلية بين الأعضاء والمرافق الاجتماعية. ما يناهز 500 جمعية موضوع اشتغالها هو المواطنة والحريات العامة وإدماج الشباب توجد بجهة الدار البيضاء – سطات تضطرب أعمالها إذا حجبت أو تعطلت صفحاتها على الفايسبوك.
الكثير من الأفراد يصابون ب «سكتة وجودية» إذا استفاقوا ذات صباح ووجدوا صفحتهم الفايسبوكية قد تم حجبها أو حذفها أو التشويش عليها بضائقة منع التصرف.
– هل نحن مواطنون أحرار في الفايسبوك؟
هذا هو سؤال الشجاعة في كتاب «الحصار الفايسبوكي».
سأقتبس هنا، من ميشيل فوكو عنوان كتابه «المراقبة والعقاب» الذي يحمل تناصا شديد الدلالة مع رواية دوستويفسكي «الجريمة والعقاب» ويلتقي في تشريح عمل المؤسسات والسلط القمعية مع رواية «المحاكمة» لفرانز كافكا، ورواية «1948» .« Big Broder » لجورج أوريل حول عنف وسيادة ال
ففي شساعة العالم العنكبوتي المتشعب لوسائط الإعلام، ومن بينها مؤسسة الفايسبوك الدولية هناك ترسيمة رقمية تجمع مفردات منتقاة مثل: فلسطين، إسرائيل، القدس، العرب، الإرهاب، السلاح، الجنس، المخدرات، التجسس، القمار، الحريات، وزارة كذا في دولة كذا، الماسونية، الله أكبر، عبدة الشيطان.. الخ
يكفي أن يلتقط الجهاز الاستخباراتي واحدة من هذه الكلمات في متن تدوينة فايسبوكية حتى تصير الصفحة موضوع تقرير ومتابعة.. وتطويق وحصار وعقاب، إذا بدا أن التدوينة تمثل خروجا عن «بيت الطاعة» الفايسبوكية.
كريمة دلياس في الجزء الثالث من الكتاب (ص 169 إلى ص 197) وتحت العناوين التالية: خوارزميات الفايسبوك، خوارزميات خلف الكواليس، أدوات رقمية جديدة «تلاعب الخوارزميات»، حرب الخوارزميات، تقدم لنا تفصيلا مجملا عن اشتغال الآلية الرقمية للفايسبوك في ضبط «نظام المراقبة والعقاب». وهذا التبيان من طرف الكاتبة في غاية الأهمية، إذ يبرز أن أغلب مستخدمي الفايسبوك يجهلون أنهم منخرطون تحت نظام وصاية استخباراتية تجردهم من حق احترام الخصوصية، مقابل منحهم ما يمكن وصفه ب «الوهم الطوباوي للحرية الفردية»، و .« Manipulation » امتياز زائف، مغشوش وهو
ذلك ما توضحه الكاتبة بجلاء في الجزء المعنون ب «شهادات في الحظر الفايسبوكي: ص 83 إلى ص 130»، وفي الجزء المعنون ب «شهادات في الاعتذار الرسمي والمحتوى الفلسطيني: ص 135 إلى ص 165».
في هذين الجزأين تورد الكاتبة شهادات حية لـ 32 شخصية من أدباء وفنانين ومثقفين وفاعلين سياسيين تعرضوا عبر إدارة الفايسبوك إلى أشكال عدة من القمع الفايسبوكي: حظر، حجب، تلاعب بالمنشورات، تشويش على الصفحات، اختراق الخصوصية، الاختراق الفيروسي.. الخ
الشهادات كلها تبرز تعرض نشطاء الرأي العام والحقوقيين، والفاعلين السياسيين لهذا الاضطهاد الإعلامي، وجذير بالذكر أن المنطق الذرائعي والتبريري لهذا الحظر يستغل استغلالا سيئا تهمة العنصرية والتطرف مع تصريف سيء الاستعمال لهذه التهم. وحين نرى أن هذا الحظر والمنع موجه بحصة الأسد نحو الشعب الفلسطيني والمقاومة العربية للاحتلال الإسرائيلي، فإنه لا داعي لاستخلاص حقيقة مفادها أن نظام اشتغال الفايسبوك يخدم أجندة ومصالح سلط (خلف الكواليس) هي الداعمة بثراء فاحش لعمل هذه المؤسسة.
نعود الآن إلى الجانب الأدبي والإبداعي في مؤلف الكاتبة الشجاعة كريمة دلياس الشبيهة بمحارب يقف أعزل إلا من كلمته الصادقة في مواجهة مؤسسة
«كليانية السلطة». Omni-totalitaire
هذا كتاب جمع من الناحية الجمالية بين أدب اليوميات (وهو من الأجناس الأدبية السيرية كما يوضح ذلك فيليب لوجون في كتابيه «الميثاق الأوتوبيوغرافي» و»الأنا هو الآخر»»)، وأدب الشهادة الذي هو في الأصل من الأجناس الأدبية الإعلامية، لكنه جنس أدبي مترحل، يتنقل من المجال الإعلامي إلى مجالات معرفية وفكرية أوسع.
وانطلاقا من هذا التداخل العبر – أجناسي، فإن هُوِيَّة الكتابة تجسدتْ كبِنية مفتوحة على السجلات التعبيرية التالية:
– لغة المحكي اليومياتي ذات الطابع السيرذاتي: وتشغل الحيز الذي يحمل عنوان «سرد يوميات حصار فايسبوكي».
– لغة السرد الإخباري: وهي لغة واصفة لأشكال الحظر الفايسبوكي الذي تعرض له أدباء ومثقفون ومناضلون سياسيون من طرف إدارة الفايسبوك. وكما ذكرنا سابقا فإن إجراء الحظر غالبا ما يأتي بتهمة «معاداة إسرائيل، معاداة السامية، العنصرية، التطرف، التشهير». وجل الشهادات الواردة في الكتاب هي بلغة السرد الإخباري.
– اللغة التقريرية الإعلامية: وهي التي تؤطر الفصول ذات العناوين التالية: «ما جدوى هذا الكتاب؟، ماذا يعني لي الفايسبوك ككاتبة؟، ماذا يعني لي الفايسبوك كشاعرة؟، الفايسبوك وخرق الخصوصية، آليات الحصار الفايسبوكي وأسبابه، عواصف الهاشتاغات والنضال الرقمي، واقع المحتوى الفلسطيني وخطاب الكراهية الإسرائيلي، ازدواجية معايير الفايسبوك.
– لغة الكتابة التحقيقية: وهي تغطي الجزء الأخير من الكتاب الذي يمكن اعتباره (تحقيقا) أنجزته الكاتبة حول: «خوارزميات الفايسبوك والمواقع الإلكترونية».
هذه الكثافة على مستوى تداخل الأجناس التعبيرية (اليوميات – الشهادات – التحقيق) وتعدد الحقول المعرفية (الأدبي – الإعلامي – الحقوقي) سيفتح لهذا الكتاب أفقا واسعا من التداول: حيث هو كتاب موجه في آن واحد للمهتمين بالأدب، وللمهتمين بالصحافة والإعلام وكذا معاهد تدريس الفنون الإعلامية، ويهم أيضا المؤسسات والجمعيات المدنية الناشطة في مجال حقوق الإنسان والحريات العامة.
يقول جان ماريا ريلكه في كتابه الشهير «رسائل إلى شاعر شاب»: «عد إلى نفسك، الكتابة الحقة تجدها في عمق ذاتك». الحقيقة أن هذا الكتاب ما كان لِيَشْهد الميلاد إلا لكون الكاتبة كريمة دلياس اهتدت فيه ب «ضوء ذاتها»، انطلاقا من تجربة حية مُعاشة وليس تجربة مُتخيَّلة أو مُتوهَّمة.
انطلقت الكاتبة من نشر تدوينات تتعلق بأشكال التنكيل التي تعرض لها الشعب الفلسطيني في الفترة الممتدة ما بين ماي ويونيو 2021 (التنكيل بالفلسطينيين في باحات المسجد الأقصى وفي الحي المقدسي «الشيخ جراح»، واقتحام قوات الاحتلال للمسجد وقتل المصلين بدم بارد، وما أعقب ذلك من اندلاع حرب غزة الأخيرة التي أقدمت فيها الهمجية الصهيونية على الإبادة الجماعية في حق الفلسطينيين العزل).
توًّا بعد هذا النشر تحركت الآلة القمعية الفايسبوكية على صفحة الكاتبة كريمة دلياس بأشكال متعددة من الحظر والاختراق بالتشويش والتضليل على الصفحة والاختراق الفايروسي الممنهج لمنع تدويل كتاباتها وآرائها وحجب مواقفها السياسية والإنسانية.
من «الحق في الحياة» تجسد هذا الجرح ليتخلق من دمه نداء «الحق في الكتابة» وفي مصير هذه التجربة يَنْبَني المعنى العميق لهذا الكتاب الذي يجعلنا نتمثّل تمثُّلا واعيا أن الحق في الكتابة هو المعادل الرمزي للحق في الحياة.
يجسد الكتاب المعادلة اللامتكافئة بين الأخلاقيات الجبانة لآلة الفايسبوك والمبدأ الشجاع للقضية الفلسطينية، تعرف هذه الآلة أن «الكلمة هي سلاح الشعب الفلسطيني الأعزل»، سواء أكانت هذه الكلمة لفظا أو صورة في شكل عَلَم أو كوفية أو حجارة.. فلتجأ إلى محاصرتها.
كريمة دلياس، من خلال مؤلفها الذي تنشره ككتاب خارج أسوار وقلعة الفايسبوك، تقوم ب»اختراق مضاد»؛ لأن كلمتها دخلت الآن الأرشيف التدويني الخالد للذاكرة غير القابلة للمحو والإبادة.


الكاتب : محمد علوط

  

بتاريخ : 10/07/2023