الحماية الاجتماعية: مسارات متقاطعة والسرعة النهائية

ملف الحماية الاجتماعية كان دائما من المواضيع الحارقة، والتي تجادبها الفرقاء الاجتماعيين والسياسيين، تارة في إطار محاولات جادة وأطوارا في خضم الاستخدام السياسي والحزبي، بل وفي إطار الصراعات السياسية والاجتماعية وتسييد المعنى، بل هناك من يوظفها بشكل فرجوي أو ما يعرف بالبروبكاندا، ودلك كله في مسارات متقاطعة.
فالدولة في العقدين الأخيرين دخلت في تجربة تقاسم الموضوع الاجتماعي مع مكونات المجتمع المدني، وخصوصا جمعيات القرب التي شجعتها ومولتها و فوضت لها جانب كبير من هدا الموضوع، لكن على ما يبدو أن هدا التفويض غير المشروط استنفد وجوده و لم يعد يجد نفعا استقالة الدولة من أحد أهم التزاماتها، خصوصا بعد الفشل الدي أبانت عنه هده التجربة من جهة والاستخدام السياسي لبعض الجماعات والأحزاب دات المرجعية الدينية، بل و ما أبانت عنه هده الأخيرة من منافسة شرسة للدولة في ميدان خصب وخطير في الان نفسه، وأيضا بعد انسحاب الأحزاب دات الحمولة الاجتماعية وبعدها المركزيات النقابية من الصفوف الامامية، هده المقدمة تمنحنا شرعية طرح السؤال المحوري التالي: هل هدا السخاء التشريعي مرده لسياسة اجتماعية محكمة تهم انتاج منظومة اجتماعية تقطع مع المقاربة الإحسانية وتؤسس لمقاربة مؤسساتية أم هي الأخرى تأتي في سياق مناسباتي أم أن الأمر يتعلق بصراع سياسي لضبط المجال الاحساني الدي سيطرت عليه الجماعات والأحزاب الدعوية؟
للإنصاف التاريخي، فان حكومة التناوب برئاسة المرحوم اليوسفي _رغم توجهاتها الماكر واقتصادية التي إعطاء الأولوية للتوازنات الاقتصادية _، بحكم مرجعيتها الاشتراكية قادت مجموعة من المحاولات، توجت بسن القانون رقم 00.65 بمثابة مدونة التغطية الصحية الأساسية الدي صدر بتنفيذه ظهير شريف رقم 1.02.296 بتاريخ 03-10-2002 والدي ينص في مادته الثانية على أنه «يسري التأمين الاجباري الأساسي عن المرض على:……..- العمال المستقلين والأشخاص الدين يزاولون مهنة حرة، وجميع الأشخاص الاخرين الدين يزاولون نشاطا غير مأجور….».
الا أن هدا النص بقي دون بعده الى حدود صور الوثيقة الدستورية سنة 2011، حيث نصت في فصلها 31 على أن الدولة و المؤسسات العمومية والجماعات الترابية على تعبئة كل الوسائل المتاحة لتيسير استفادة المواطنات والمواطنين، على قدم المساواة، من الحق في: …..العلاج و العناية والصحة والحماية الاجتماعية والتغطية الصحية والتضامن التعاضدي أو المنظم من لدن الدولة، وكدلك أسند الفصل 71 منه هدا الاختصاص للقانون، بمعنى أنه اختصاص أصيل للسلطة التشريعية – البرلمان .
بقي هدا النص شعارا دستوريا الى أن بدأ النبش في رماده في بحر سنة 2015 عسى أن تنبعث منه نارا أو نورا، تكلل يوم 7 يناير 2016 حينما صادق المجلس الحكومي على مشروعي القان ورقم 98.15 و99.15 المتعلقين على التوالي بإحداث نظام التأمين الاجباري الأساسي عن المرض ونظام المعاشات لفائدة فئات المهنيين و العمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الدين يزاولون نشاطا خاصا، وهما المشروعان اللدان أخدا مسارا تشريعيا كلل بالمصادقة عليهما.
وبصدور الظهير الشريف رقم 1.17.15 بتاريخ 23-06 – 2017 بتنفيد القانون رقم 98.15 انعطف مجال الحماية الاجتماعية منعطفا تاريخيا سكون لا محاله، له ما بعده، لكن هل هدا قطع هدا القانون مع الماضي أم أنه يستدعيه من أجل شرعية معينة ؟ هدا السؤال تجيب عنه المادة الأولى التي جاء فيها أنه جاء وفقا لأحكام المادتين 2و 4 من القانون رقم 65.00 ولأجل إرساء قواعده التي ستسري على فئات من المجتمع تتوفر فيها الشروط المحددة وفقا للمادة 3 منه، يبقى السؤال ما هي الشروط التي تحدثت عنها المادة 3؟
للجواب على هدا السؤال نسرد جزءا من هدا النص: ‹›يخضع لنظام التأمين الاجباري الأساسي عن المرض المشار اليه في المادة الأولى أعلاه الأشخاص المنتمون لإحدى الفئات التالية، شريطة أن لا يكونوا خاضعين لأي نظام اخر للتأمين الاجباري الأساسي عن المرض: المهنيون المستقلون……، ادن على ما يبدو أن الشرط الأساسي ومربط الفرس الدي يعتبر استثناء على القاعدة: التوفر على تأمين اجباري أساسي عن المرض.
ويستشف مما فصل أعلاه أن المهنيين المستقلين أو أصحاب المهن الحرة، معنيون بهذا القانون وكدلك بالقانون الاطار بعده كقاعدة والاستثناء أن المهنيين الدين يتوفرون على تأمين اجباري أساسي عن المرض لا يشملهم هدا النظام.
الى حدود الان، القانون في صف المهنيين الدين لهم تأمينهم الاجباري الأساسي الخاص بهم، واحتمال فرض النظام المستحدث عليهم صعب بصريح النص، حيث أن الدولة ممثلة في وزارة الشغل من جهة تتشبث بقراءتها و ضرورة خضوع الجميع له وليس هناك استثناءات وأصحاب المهن الحرة المشمولين بنظام خاص بهم والدين يتشبثون بقراءتهم الصحيحة للمادة 3 ويقولون أنهم مستثنون بصريح القانون، بقي النقاش هل نظامهم اجباري وأساسي أم اختياري أو تكميلي، وبقي الوضع في حالة «اللوم بارا» كما يسميها الفرنسيون أي معلقا، الى حدود إعادة ترتيب الدولة لأولوياتها و تسلق الملف الاجتماعي السلم و تبوأه الصدارة، فأصبح ملفا يشم منه رائحة سياسية وسيادية، حيث أن الخطاب الملكي بمناسبة عيد العرش لسنة 2020 أكد على ضرورة ضمان الحماية الاجتماعية لجميع المغاربة، وسيشمل هدا التعميم حسب الخطاب الملكي أولا التأمين الاجباري عن المرض والتعويضات العائلية، ثم سيتم تمديده ليشمل التقاعد والتعويض عن فقدان الشغل، هنا وصلنا الى النقطة والرجوع للسطر، بمعنى أن هدا النقاش أصبح جزء كبير منه متجاوزا، دلك أن القانون الاطار رقم 21.09 المتعلق بالحماية الاجتماعية أحال في هده النقطة في مادته الخامسة على القانون رقم 98.15 بالنسبة للمهنيين والعمال المستقلين والأشخاص غير الأجراء الدين يزاولون نشاطا خاصا، بل تحدث عن ما أسماه التنزيل التام لهدا التأمين، هده الفقرة التي أراد منها واضعوها انهاء النقاش العمومي المطروح و الحسم فيه عبر الالية التشريعية، خصوصا وأن المواد 11 و12 و13 منه تتحدث على مجموعة من الاليات لإنجاحه نخص بالدكر التضامن بين – مهني، أي أن المهن الميسورة تتضامن مع المهن المعسرة أو التي في وضعية صعبة أو هشاشة، ثم أ.التمويل سيكون من خلال الاشتراكات بالنسبة للمهن الميسورة بين مزدوجتين، فيما سيتم الأداء من طرف الدولة والتحصيل الضريبي ومدخرات صندوق المقاصة بالنسبة للباقين، وبالتالي يستشف أن الدولة تراهن على تمويل فئات معينة من المهن، و حينما نتحدث على الرهان فمعنى دلك أنه لا يهم ان كنت تتوفر على تأمين تتوفر فيه الشروط المذكورة أعلاه من عدمه بقدر ما يهم إنجاح مشروع وطني يراهن على التضامن بين الأنساق المهنية ها من جهة ومن جهة أخرى فان الرهان أيضا على صندوق المقاصة والدي يوحي بإصلاح عميق على الأبواب لكي يستطيع أن يضطلع بالمهام الاجتماعية الجديدة المرتقبة.
لكن يبقى لنا كل الحق في طرح بعض الأسئلة التقنية:
ألا تتعارض المادة 5 من القانون الاطار رقم 09.21 مع المادة 3 من القانون 98.15 المحال عليها؟ ألم يكن على المشرع أن يضيف فقرة في المادة 5 من القانون الاطار تستثني الفئات التي لها نظام تأمين اجباري أساسي عن المرض، حتى تكون منسجمة مع المادة 3 من القانون 98.15 أو أن يتم نسخ هده الفقرة من المادة 3 بمقتضى القانون الاطار ؟ ألا يرى المشرع أن التضخم التشريعي يساهم في الارتباك و التناقض في بعض الأحيان ، الشيء الدي قد يضعنا في مطب دستوري يتجلى في طرح سؤال أي القانونين أجدر بالتطبيق وكدلك نقاش فقهي بخصوص تراتبية القوانين وتدرجها وسمو بعضها على البعض، وهي الإشكالية التي لا يجيب عنها الدستور خصوصا فيما يتعلق بالقانون من جهة و القانون الاطار من جهة ثانية و القانون التنظيمي من جهة ثالثة؟
هدا القانون _ على ما يبدو _ دق اخر مسمار في نعش حلم راود المحامين مند زمن طويل، والدي تحقق بفضل تضحيات وانكار للدات و بالإمكانيات الخاصة للمحامين و مدخراتهم و تدبيرهم الخاص.
تأسيس المحامين لنظامهم الصحي لم يأت من فراغ، بل فرضه وضع بئيس عاشه المحامون لسنوات، بعد أن تنكرت لهم الدولة ولم تتحمل مسؤولياتها في هدا الاتجاه و لم تستجب لنداءات مؤتمرات جمعيتهم و غيره من الندوات التي نظمت في هدا الاطار.
فبعد مسار دام مند 2009، التعاضدية العامة لهيئات المحامين مستهدفة في داتها و نية تصفيتها تبدو واضحة، فما هو جواب القائمين على الشأن المهني؟، ففي الوقت الدي ندق فيه ناقوس الخطر، نقدم تشريحا واليات تفاوض يمكن استعمالها للضغط من أجل استثناء المحامين من نظام الدولة والإبقاء على التعاضدية العامة لهيئات المحامين بالمغرب، باعتباره نظاما تعاضديا والمنظم بمقتضى قانون التعاضد التبادلي والدي يصنف بموجبه هدا النظام اجباريا من جهة ومن جهة ثانية فهو منصوص عليه في القانون رقم 00.65، ثم أن هناك تعاضديات أخرى يتم تصنيفها تأمينا اجباريا نخص بالدكر الكنوبس، بالإضافة الى أن التامين لدى التعاضدية يعتبر تامينا أساسيا واجباريا بحكم أن الهيئات تؤدي على جميع المحامين رسميين ومتمرنين، وبالتالي فان جزء كبير من الاجبارية يتحقق، بقي على القائمين على شأنها اليوم أن يدفعوا وفي أقرب الآجال في اتجاه أداء الهيئات على الأزواج وأبنائهم لتوفير الاجبارية المطلقة وفي اقصى حدودها، وبالتالي تقوية ملفهم الترافعي، لأن الدولة أو الوزارة الوصية تتحدث عن المواطن وليس فقط عن، المحامي، وزوج المحامي ليس بالضرورة محاميا وابنه كدلك لكنه مواطن، والدولة ملزمة بتوفير تامين اجباري أساسي عن المرض لكل المغاربة.
أعتقد أن مسؤولينا ليس لهم الكثير من الوقت للاشتغال على هدا الملف في أفق التوصل الى اتفاق في غضون هده السنة، وفي نفس الوقت عليهم من الان التفكير في كيفية الانخراط في نظام الدولة عبر البحث عن سبل التمويل والياته، ويبقى ما استقر عليه المحامون من أنظمة للتكافل والتضامن مع إمكانية تطويره وتعميمه ليصبح اجباريا على غرار التامين الاجباري، فالأمر لم يعد ترفا فكريا بل فرضته مستجدات، أهمها تغريم القانون للهيئات التي لن تؤد في الآجال، فالدولة لا تريد أن تتعامل مع المحامي كفرد بل مع الجهاز الدي ينتمي اليه باعتبار أن قطاع المحاماة من القطاعات الأكثر تنظيما وجاهزية، فالدولة وفي اطار ما أسمته بالتضامن بين مهني، فهي تراهن على مهنة المحاماة ولا أعتقد أنها ستتراجع عن هدا الامر.
ثم التفكير في مال التعاضدية، هل يتم حلها أم تصبح تأمينا تكميليا؟ وفي حال تقرر دلك، هل للهيئات من الإمكانيات المالية والمقدرات للانخراط وأداء اشتراكات الدولة وكدلك أداء أقساط التكميلي لدى التعاضدية؟ وكيف سيتم تعبئة الاعتمادات من أجل تأمين الاشتراكات؟ ثم ما مصير المستخدمين المعهود اليهم حصريا التعامل مع التعاضدية؟ ثم كيفية التواصل مع مؤسسة الضمان الاجتماعي سواء فيما يخص إيداع الملفات أو الحصول على التكفلات أو كيفية استرجاع المبالغ؟ هل سيتم دلك بشكل شخصي بين المحامي و المرفق العمومي أم بواسطة هيئته؟
ادن مادا حضرنا، هل فتحنا نقاشا في هدا الاطار كيف سنرافع من أجل الدفاع عن مكتسباتنا؟ كلها أسئلة واسعة، يجب فتح حوارا واسعا وجديا بشأنها مع الوضع بعين الاعتبار عامل الزمن والتعامل معه باقتصاد، فـ 2022 هي غدا و الغد ليس ببعيد، رحى حرب الانتخابات وضعت أوزارها، فحيا على العمل.

(*) محامي بهيئة القنيطرة


الكاتب : عبد العالي الصافي (*)

  

بتاريخ : 16/12/2023