إضاءة:
كانت بدايات الكاتب محمد بنميلود في مِضمار الشعر؛ إلا أن أولَّ عمل مَطبوع له سيخرج للوُجود سيكون روائياً تحت عنوان: «الحي الخطير». وقد صدر هذا المنجز في طبعته الأولى سنة 2017 ،عن: دار الساقي، ضمن برنامج «آفاق لكتابة الرواية»، بدورته الثانية، في 191 صفحة من الحجم المتوسط.
تستمد رواية «الحي الخطير» قوتها باعتبارها «أفقا منفتحا على كل الاحتمالات والتوقعات… إنها رحلة البحث في أفكار وأحلام الشخوص المنتقلين بين الشوارع. أو هي ترجمان لتطلعات الأبطال المحوريين والمهمشين على حد سواء «(1).انطلاقا من هذا التعريف تَتَمَوْقَعُ الرواية قيد الدرس، ضمن ما يُمْكِنُ تسميته بـ»كتابة الهامش»، والتي يُمكن نِسبتها في الأدب العربي إلى مجموعة من الكُتاب، كأبي حيان التوحيدي(2)، بشار بن برد وكذا أبي نواس وابن هانئ الأندلسي…(3). أما في الأدب المغربي، فيعتبر محمد شكري من أشهر الكتاب الذين سلطوا الأضواء على الجوانب الخفية والمسكوت عنها في المجتمع.(4)
ونجد أن الهامش قفز إلى ساحة الاهتمام في مرحلة «مابعد الحداثة» التي يرى عبد الله الغدامي أنها أخفقت في تمثيل الهامش وانتصرت في المقابل لعنصر»واحد على سائر العناصر وهو تغليب يقوم عل الإلغاء»(5).
يُعَرَّفُ الهامشي تعريفا تقابليا، فلا يمكن ذكره إلا والمركز أمامه، فالهامش هو «المثال الإنساني المقصي عن دائرة الاهتمام»(6).أما المركز «فيعني خواص الناس ويحمل مفاهيم القُرب والصفوة والتفوق والتنزيه والسلطة وامتلاك الحقائق والأسرار»(7).
تتبأر الحبكة السردية لرواية»الحي الخطير»من خلال ثلاثي ينتمي لجهة الهامش، في حيّ يكنى:»الحي الخطير»، حيث لا مكان إلا للعراكات الدامية، وتجارة المخدرات، وأوكار الدعارة. ولأن «الشخصيات الفنية، تعكس مواقف مختلفة إزاء الواقع»(8) ؛ فالرواية تتخذ من الثلاثي وسيلة لبيان وجهة نظرها اتجاه المركز.
مراد:
نشأ مراد مع إحساس الغُبن الاجتماعي؛ مما خلق تشظيا كبيرا في روحه، وجعل شخصيته»مفعمة بروح الخصام»(10)؛ وسيكون هذا الصراع الداخلي النازِعَ الأساسي لانخراطه في عالم الإجرام.(11)تأتي أحداث الرواية في غالب الأحيان على لسانه؛حيث تُميط شخصيته اللثام عن مُبتغيات الهامش، وفي المقابل يضطلع بدور أساسي في تسريد وتبرير الانتقام من المركز.
تأخذ شخصية مراد على عاتقها بمهمة عرض رُؤَى الشخصيتين اللتين تكملان الثلاثي(رشيد/عبد الرحمن)، الذين يجمع بينهم خيط ناظم؛ هو: مشاركة الغضب تجاه المركز.
عبد الرحمن:
هو الركن الثاني المكَوِّنُ لثلاثي الهامش، الذي عُومل بظلم شديد من طرف معلمته، التي ظنت أنه ينتسب إلى عائلة طليقها بقرابة بعيدة؛ ونتيجة لذلك صنعت آذان حمار بالورق ووضعتها على رأسه، وكتبت له «حمار» على سبورة صغيرة عُلقت على صدره يجوب بها المدرسة مكسورا مذلولا.(12)لم تنته محنة عبد الرحمن عند طرده من المدرسة بل: «بعثته أمه إلى سِكْلِيسٍ خارج الحي… يقوم بكل أعمال السخرة الخاصة بالورشة بما في ذلك جلب الحشيش والشراب.(13)
سَرَّدَتْ شخصية عبد الرحمن للعنف الممارس من طرف النسق الثقافي النُخبوي، من خلال عقد تناصات مع اليومي، فهناك الكثير من نماذج هذه الشخصية في الواقع ليس لها أي دخل في ما يمارس عليها من عنف من طرف المركز، سوى أنها وجدت نفسها في جهة الهامش!
رشيد:
يأتي الرُكن الآخير ليُكمل الثلاثي، وقد حضر بمظهر الشخصية التي لها بأس شديد، كان «نحيفا وطويلا لكن ملامحه كانت جافة صارمة حتى حين يبتسم وعظامه صلبة جدا بحيث إن وزنه كان أكبر بكثير من هيئته رغم رشاقته».(14) عاش رشيد على ذكرى أبيه الذي لا يتذكر وجهه جيدّا، لكنه يتذكر أنه اغتصب أختيه، واغتصبه هو كذلك.(15)
يُستعمل مَحْكِي رشيد لتبئير ممارسات الإهمال، فهو شخصية متشظية مورست عليها سلطة «أبيسية» مدمرة؛ طفل مغتصب من الشخص الذي ينبغي أن يحميه، لم يتلق أية عناية نفسية أو مساعدة! وهذا ما وَلَّدَ شخصية متمردة مارست العنف المضاد داخل دائرة الهامش نفسه ؛حيث إنه أحرق أباه حيا انتقاما منه.
محاولة العُبور:
جمعت بين الثلاثي علاقة وطيدة قامت على تشارك حلم العبور من الحي الخطير نحو المركز، وما يميز هذا العبور أنه ليس نحو دولة أخرى، بل هو داخل نفس المدينة(الرباط)، لكنه من نسقين مختلفين؛ من ظلمات «الحي الخطير»، نحو أنوار العاصمة.
تأتي اللحظة الحاسمة حين يقرر الثلاثي تنفيذ مخططاته، لتكون طريقة العبور مستمدة مما تعلموه في حيّهم.بدأوا ببيع المخدرات، وعندما تمكنت عصابة الثُلاثي من ادخار مال إضافي، تنامت الرغبة من الرحيل للمركز إلى الانتقام منه،حيث فَكَرَ الثلاثي في تغيير السلعة من «الحشيش» إلى بيع «البودرة» لأبناء العائلات الغنية بمدينة الرباط(16)، مما يشكل لحظة فارقة؛فالهامشي هنا يَتَنَطَعُ على كونه فقط خادما للمركز، بل يسعى إلى تأسيس نسق سردي خاص به.
تنتهي خطة الثلاثي بأفول حلم العبور نحو المركز؛ فقد دخلت عصابة الثلاثي في صراعات مضادة مع عصابة «الشَعْبَة» المسيطرة، حتى وصلت حدة النزاع بالثلاثي إلى قتل أحد أفراد العصابة المنافسة(17).وهذا ما أدى إلى تصفية رشيد انتقاما من طرف عصابة «الشعبة»، وتم قتل عبد الرحمن من طرف الشرطة في كمين،أما مراد فنجا بصعوبة وحكم بمدة سجنية طويلة.(18)
يتأكد من هذا الفشل مدى صعوبة العبور من الهامش نحو المركز، الذي يُكرس ثقافته النخبوية بفَرِضِ حدوده الصارمة، يقول مراد: «في حقيقة الأمر، لا أحد يحقق تلك الأحلام…لا أحد أبدا يخرج من الجحيم ليلتحق بالجنة.».(19)
تعكس الرواية من خلال الثلاثي وعي الهامش تجاه المركز؛ فالسرد ها هنا يَهُزُّ يقينية الجانب المركزي ويشكل رؤيته الخاصة بالحياة، بالإضافة إلى كونه يخلق فسحة لإسماع الأصوات المغموطة التي تكالبت عليها الظروف السياسية والاجتماعية، فدور الكتابة الهامشية هو «تحرير المقهورين والمقموعين الذين أسيء تمثيلهم: من خلال تقويض الإيديولوجيات والمؤسسات التي تسعى لتسويغ اضطهادهم «.(20)
تخرج الشخصيات في هذا العمل الروائي لتنفتح نحو الهامشي المقصي؛ مما جعل القالب السردي في رواية «الحي الخطير» مجالا لعيش «دَمَقْرطَة اللغة»، من خلال إسماع أصوات من لا صوت لهم.
هوامش الدراسة:
1-عبد القادر الطاهري، الهامش في روايتي: «خوارم العشق السبعة و مدارج الهبوط». مجلة مقاربات، العدد رقم 13، 1يونيو 2013، المجلد السابع، ص:70.
2- محمد المسعودي، سمات أدب الهامش من التوحيدي إلى شكري، مجلة آفاق، العدد 77-78، 1 يناير 2010. ص:97.
3- لوي فيردينان سلين وجون جوني، الهامش رؤية للعالم وأفقا للكتابة، ترجمة: رشيد بنحدو، نفسه، ص: 107.
4- محمد المسعودي سمات أدب الهامش من التوحيدي إلى شكري،نفسه. ص:103.
5-عبد الله الغدامي، القبيلة والقبائلية: أو هويات ما بعد الحداثة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء – بيروت، ط1، 2009، ص:45.
6- شرف الدين ماجدولين، الهامشي والآخر والسرد الهزلي، قراءة في الموروث الخبري، نفسه. ص: 142.
7- مزار بن حسن، المركز والهامش أو الخاصة والعامة من خلال كتاب الأذكياء لابن الجوزي، مجلة الحياة الثقافية العدد: 160، 1 أكتوبر 2004، ص: 50.
8- عبد العالي بوطيب، الشخصية الروائية بين الأمس واليوم، مجلة البيان-الكويتية العدد: 404، 1 مارس 2004،ص: 16.
9- محمد بنميلود، الحي الخطير، فازت الرواية بمنحة «آفاق لكتابة الرواية»، الدورة الثانية، بإشراف الروائي جبور الدويهي. دار الساقي، الطبعة الأولى 2017، ص: 157.
10- ميخائيل باختين، شعرية دوستويفسكي، ترجمة: جميل نصيف التكريتي، مراجعة: حياة شرارة ،نشر مشترك بين: دار توبقال للنشر(الطبعة الأولى:1986)، ودار الشؤون الثقافية العامة، تم نشر الكتاب ضمن سلسة المعرفة الأدبية،ص: 47.
11- الحي الخطير، ص: 10.
12-نفسه، ص: 61-62.
13-نفسه، ص: 61-62.
14-نفسه، ص: 33.
15-نفسه، ص:147-148.
16-نفسه، ص: 24-25.
17-نفسه، ص: 25-26-27.
18-نفسه، ص: 38-39.
19- نفسه، ص: 11.
20- أحمد فرشوخ، وعي الكتابة ولغة الهامش، مجلة آفاق، العدد 77-78، مرجع سابق، ص: 136.