الخرجة الإعلامية لرئيس الحكومة… ما لم يُقل أهم مما قيل

لم تكن الخرجة الإعلامية الأخيرة لرئيس الحكومة مجرد لقاء للتواصل مع الرأي العام بقدر ما بدت أقرب إلى حملة انتخابية سابقة لأوانها. فالمفردات المستعملة واللغة المنتقاة حرصت على إعادة إنتاج نفس العناوين التي رافقت الحملة الانتخابية لسنة 2021، وكأن عمر الولاية الذي انقضى، أو شارف على الانقضاء، لم يكن كافيا لاستخلاص حصيلة عملية تكشف ما تحقق وما تعثر. بدا الخطاب موجها لتلميع صورة الفريق الحكومي أكثر مما كان محاولة لتقييم واقعي لما آلت إليه الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية، وهو ما أفرغ المناسبة من مضمونها وحولها إلى تمرين دعائي يعيد تسويق الوعود بدل مساءلة المنجزات.
ففي ملف التشغيل، لم يقدم رئيس الحكومة أي إقرار بالهوة الواسعة بين الالتزام بخلق مليون منصب شغل الذي وعد به في 2021 والواقع الذي ما زالت البطالة فيه تسجل أرقاما كارثية عند حدود 13,3 % ضمنها 36 % في صفوف الشباب ومعدل في المدن فاق 16.4 %أي 1.6 مليون عاطل و108 آلاف منصب مفقود سنويا في الفلاحة مع العلم أن مساهمة النساء في النشاط الاقتصادي تراجعت إلى 18,9 %.. ولم يتحدث رئيس الحكومة عن حقيقة برامج مثل “أوراش” التي التهمت اعتمادات مالية ضخمة ولم تترك أثرا يذكر، بينما ظل برنامج “خارطة الطريق للتشغيل” مؤجلا رغم إدراجه في قانون المالية لسنة 2025. وبدل الاعتراف بهذه التعثرات، اختار رئيس الحكومة الاستمرار في تقديم الوعود المستقبلية، كما لو أن الزمن السياسي متوقف عند مرحلة الحملات الانتخابية.
أما في قطاع الصحة، فقد ركز الخطاب الرسمي على تعميم التغطية الصحية، لكنه تجاهل أن هذه المظلة الشاملة تصطدم بواقع هش من حيث الموارد البشرية والبنيات التحتية، حيث يتركز سبعون في المئة من العرض الصحي في المدن الكبرى مقابل تهميش شبه كامل للقرى والمناطق الداخلية. كما أن القطاع الخاص يستحوذ على واحد وتسعين في المئة من نفقات العلاج، في حين لا تغطي الأنظمة العمومية سوى ثمانية فاصلة أربعة في المئة، وهو ما يقوض مبدأ المساواة في الولوج إلى الخدمات الصحية ويجعل من تعميم التغطية خطوة شكلية أكثر منها إصلاحا عميقا.
ولم يكن ملف الحماية الاجتماعية أفضل حالا، فعدد المنخرطين خارج الأجراء لم يتجاوز 1,4 مليون شخص، مع نسبة التزام بأداء الواجبات لا تفوق 37 في المئة، وهو ما يهدد الاستدامة المالية للنظام برمته. الدعم الاجتماعي الذي كان يفترض أن يشكل رافعة للإدماج الاقتصادي تحول في الواقع إلى مجرد تحويلات ظرفية لا تفتح آفاقا إنتاجية للفئات الهشة، في تناقض تام مع الخطاب الرسمي الذي يصر على تقديمه كإصلاح بنيوي.
وفي الجانب الاقتصادي، بدت محاولة رئيس الحكومة لإقناع الرأي العام بصمود النمو بعيدة عن الواقع. فالمعدل الموعود كان يفترض أن يتجاوز 4 في المئة، بينما لم يتحقق في المتوسط سوى 3 في المئة في أفضل التقديرات. بينما سجل عجز الميزانية مستويات مقلقة، فيما المديونية العمومية واصلت الصعود لتلتهم حيزا واسعا من الموارد المالية، ويُتوقع في متم 2025 أن يصل الدين العام الإجمالي إلى حوالي 79.2% من الناتج الداخلي الإجمالي. وهو ما يقيد قدرة الدولة على تمويل الاستثمار العمومي. هذه الأرقام التي وردت في الوثائق الرسمية كان يفترض أن تكون صلب النقاش، لكنها غابت عن خطاب رئيس الحكومة الذي فضل التعميم بدل مواجهة الرأي العام بالحقيقة.
وخلال هذه الخرجة الإعلامية قدم الاستثمار باعتباره رافعة للنمو غبر أن الواقع يكشف بدوره عن الفجوة بين الوعود والنتائج. فالميثاق الوطني الجديد الذي كان يفترض أن يعبئ 550 مليار درهم في أفق 2026 لم يحقق بعد أي اختراق ملموس، إذ لم تتجاوز الاستثمارات الخاصة في 2024 حاجز 23 مليار درهم، منها حوالي 8 مليارات فقط استثمارات أجنبية مباشرة. هذه الأرقام الضعيفة تطرح سؤالا حول جدوى الأدوات التحفيزية التي تم الإعلان عنها، وحول قدرة الحكومة على توفير شروط الثقة للمستثمرين المحليين والأجانب على حد سواء، خاصة في ظل ضعف مردودية الاستثمار على مستوى خلق فرص الشغل.
وعند الحديث عن ورش التقاعد، تجنب رئيس الحكومة الخوض في التفاصيل رغم أن هذا الملف يشكل تهديدا وشيكا لاستدامة المالية العمومية. فالصندوق الرئيسي للمعاشات المدنية (الصندوق المغربي للتقاعد) مهدد بالنفاد سنة 2028، وهو ما يفرض على الدولة ضخ 14 مليار درهم سنويا لضمان استمراره، لكن الحكومة فضلت تأجيل الإصلاح إلى ما بعد 2031، وهو ما لا يمكن تفسيره سوى بتغليب الحسابات الانتخابية على الضرورات الاستراتيجية. هذا السلوك يعكس من جديد أن الخطاب الموجه للرأي العام لا ينطلق من مقاربة مسؤولية بقدر ما يستجيب لمقتضيات الحفاظ على الشعبية وتجنب القرارات الصعبة.
وعلى امتداد اللقاء، ظل التناقض صارخا بين لغة الأرقام التي تحاول الحكومة استثمارها ولغة الواقع التي تفرض نفسها يوميا على المواطنين. ففي الوقت الذي تحدث فيه رئيس الحكومة عن منجزات في مجالات التشغيل والصحة والحماية الاجتماعية، ما يلمسه المواطن هو تآكل القدرة الشرائية وارتفاع كلفة المعيشة واستمرار ضعف جودة الخدمات العمومية. وبينما روج الخطاب لآفاق واعدة في الاستثمار والنمو، تكشف المؤشرات الرسمية عن اقتصاد هش، مرتهن لتقلبات الفلاحة وضعف الصناعة والابتكار، مثقل بالمديونية والعجز المالي.
إن ما يميز هذه الخرجة الإعلامية ليس مضمونها بل غياب ما كان منتظرا منها: كشف حساب الحكومة في آخر عام من الولاية والاعتراف بالاختلالات وعرض إجراءات تصحيحية بأجندة واضحة. غير أن ما قدمه رئيس الحكومة كان خطابا انتخابيا مؤجلا يستند إلى وعود مستقبلية دون أي تقييم دقيق للحاضر. وبذلك، بدل أن تعزز الحكومة الثقة عبر المكاشفة والشفافية، أسهمت هذه الخرجة في تعميق الفجوة بين الخطاب الرسمي الذي حاول رئيس الحكومة تلوينه و الصورة الرمادية التي يرسمها الواقع، وأكدت أن الزمن السياسي ما زال رهين لغة الحملة الانتخابية حتى وهو في قلب التجربة الحكومية.


الكاتب : عماد عماد

  

بتاريخ : 15/09/2025