ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
مثلها مثل باقي المدن القديمة المغربية، كان للدار البيضاء سورها الذي أحاط بها مثل سوار بمعصم، وكان ينتصب شامخا ضمن المنظومة الدفاعية الرامية إلى حمايتها من الهجمات الأجنبية، تذكر كتب التاريخ خصوصا منها كتاب «عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار أنفا والشاوية عبر العصور» لكاتبه هاشم المعروفي، أن سيدي محمد بن عبد الله هو من أمر ببناء أسوارها عندما وقف على موقع الدار البيضاء في طريق رجوعه من الصويرة، التي كان قد بناها سنة 1771، فأعجبه مرساها وأمر بإخراجها من حالة الخراب والدمار التي امتدت ثلاثة قرون أصبحت خلالها مسكنا للهوام، تنعق في أرجائها البوم والغربان مستوحشة منسية مقفرة لا يسكنها بشر ولا يجاورها إنسان، مانحا شركة إسبانية موقعها بقاديس الامتياز في تصدير الحبوب، وولى على الشاوية صهره عبد الله بن محمد الرحماني، بعد أن أطلق سراحه من سجن آسفي وأمره أن يبني داره بالدار البيضاء، فبناها بطريق الرباط قرب عين مازي، وبقيت آثارها إلى الاحتلال الفرنسي، وكانت تسمى عند البيضاويين «قصبة الرحماني»، ويؤكد الباحثون أن موقعها كان قرب نقابة العمال بالدار البيضاء، وبخصوص الأسوار ذكر هاشم المعروفي أن البيضاويين يتداولون على ألسنتهم كيف كلف السلطان سيدي محمد بن عبد الله رؤساء قبائل الشاوية بواسطة عبد الله الرحماني هذا ببناء الأسوار، وفرض الرؤساء على هذه القبائل ضرائب لإنجاز هذا المشروع، وكلفت كل قبيلة ببناء ربع، ومما يدل على أن قبائل الشاوية قامت ببناء ذلك السور ذكر المعروفي أن بجانب السور المفتوح فيه باب مراكش بداخل المدينة القديمة توجد بناية تسمى «اروى ابن رشيد»، وهذا ما يدل على أن السور المفتوح في باب مراكش تكلف ببنائه أولاد حريز وبقي إلى أن تولى عبد السلام بن رشيد فاستعمله كنزل له ونسب له وصار يسمى «اروى ولد رشيد»…
كما استعمل قائد مزاب، حسب ما يذكر هاشم المعروفي دائما، دارا داخل المدينة واسعة الأرجاء على السور المفتوح فيه باب المرسى، ويوجد باب هذه الدار بشارع طنجة مما يدل، حسب نفس الكاتب، على أن المكلف ببنائه هم قبيلة مزاب، وعندما تم احتلال الدار البيضاء من طرف الفرنسيين جعلوا هذه الدار مركزا للمقيم العام كنزل له، وفي عصر الاستقلال استعملتها وزارة الأشغال العمومية في مصالحها لكن بابها سد بعد ذلك بالحجارة، كما يوجد بهذا السور جامع ولد الحمراء، وولد الحمراء هذا كان من أعيان مزاب، إضافة إلى ثكنة للجنود الموجودين بالدار البيضاء بنيت بالسور المذكور وصارت مدرسة في ما بعد أطلق عليها مدرسة فاطمة الفهرية.
لقد بلغ طول شكل المدينة المضلع، كما سبقت الإشارة، خلال 1907 تقريبا 1000 متر، ومتوسط عرضه 500 متر، يحيط بها سور حصين ذو فتحات استعمل في بنائه الحجارة والباط mortier، وكان علوه يتراوح مابين 8 و 10أمتار مدعم بعدد من الأبراج تفصل بين كل منها مسافة محددة، لكن هذا السور لم يعد له وجود في الكثير من نقطه إلا على طول شارع الموحدين (بالاند سابقا).
مقابل الميناء بين ساحة فرنسا(محمد الخامس) سابقا وباب
مراكش شارع الطاهر العلوي..ما كان يسمى بالتيرايور(Tirailleur) ، حسب ما جاء في كتاب «الدار البيضاء تحول المجتمع المغربي في احتكاكه بالغرب» لأندري آدم.
جاء في كتاب «المدينة القديمة بالدار البيضاء ذاكرة وتراث» لكاتبه حسن لعروس أن» المدينة القديمة كانت مسورة بسور يحيط بها بداية من ساحة لبحيرة لاصقا بالباب الكبير على الجهة الشرقية نزولا باتجاه ضريح سيدي بليوط والمقبرة ليصل إلى شاطئ البحر الذي كانت مياهه قديما تصل إلى حدود المدينة حتى تلتطم بالسور».
لقد كانت المدينة القديمة تعيش داخل أسوارها في دعة واطمئنان لكنها كانت محط أطماع القوات الاستعمارية التي خططت لاحتلالها، وكانت هي البوابة التي ولجت منها فرنسا لاحتلال باقي التراب المغربي، ذلك أن المحتلين خططوا ثم نفذوا مخططهم ليقينهم أنه لا يمكن احتلال المغرب دون احتلال بعض الشواطئ المغربية، والتي كان من بينها أنفا بسبب موقعها المتميز، وكذا لكونها تعد صلة الوصل بين شمال المغرب وجنوبه، ولم يحل سورها الذي بني في الأول لحمايتها من الهجمات الخارجية دون سقوطها في يد الغزاة. لقد كان هذا السور مفتوحا على البحر من الباب القديم أو باب الديوانة أو باب السقالة، لكن هذا الباب أزيل وبقي منه فقط ممر يؤدي إلى ضريح سيدي بوسمارة، كما ردم الشاطئ لتوضع مكانه سكة حديدية تسير فوقها قاطرة تحمل الصخور لبناء الرصيف الكبير للميناء ..كان السور من هناك يمتد إلى بداية حي كوبا ثم يتعرج يسارا ويشق طريقه على شارع البحرية، ثم امتد باتجاه حي «الجران» لينعرج يمينا على شارع الطاهر العلوي لاصقا بجانب سطوح المنازل وراء دكاكين الحلاقين وقسارية بمحاذاة بوسبير لقديم..
بعد أن كانت هذه الأحياء تابعة للمدينة القديمة انفصلت عنها بعد هدم السور القديم وكان يمتد إلى باب مراكش ثم يكمل سيره إلى أن يمر ب»فندق باشكو» بجانب الملاح، ثم يخرج من الشارع ويتصل بالجهة اليسرى بالباب الكبير على ساحة لبحيرة من حيث بدأ.
قبل أن تتم إزالة السور يذكر ذات الكاتب(حسن لعروس) أنه كان لاصقا ببرج الساعة القديمة ويمر فوق نفق الكرة الأرضية، وبعيدا عنه بقليل شيد فندق الدار البيضاء، بعد أن أزيل السور وبرج الساعة القديم وأزيلت أيضا منازل آيلة للسقوط كانت توجد وراء الفندق تم بناء برج آخر به ساعة وسور صغير بباب مقوس يؤدي إلى سوق لبحيرة والمسجد وإلى داخل المدينة القديمة، وذلك بهدف إنشاء طريق ستتمم شارع الجيش الملكي، كما هدم جزء كبير من السور من حي الجباص وحتى شاطئ البحر لكن أعيد بناؤه بعد ذلك بعد أن فصل جانب كبير بمنازله كان داخل السور من ناحية بوسبير لقديم وحي الجران إلى حدود حي كوبا، وفتح باب جديد من جهة بوسبير لقديم بزنقة العافية، وذلك حتى يتمكن السكان من دخول منازلهم بسهولة عوض الاضطرار إلى التوجه إلى باب مراكش ..ولا يزال جانب من السور القديم شامخا إلى اليوم …