الدار البيضاء …تلك المدينة -10- الهجرة القروية ..كل الطرق تؤدي إلى الدار البيضاء

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

كانت الدار البيضاء، ومنذ إعادة إعمارها، نقطة جذب للمهاجرين والنازحين الذين يبحثون فيها عن فرص أفضل للعيش، فبعد ثلاثة قرون من الخراب والدمار الذي خلفه البرتغاليون لم تكن الدار البيضاء لتعود إلى الحياة لولا أعداد النازحين الذين وجدوا فيها طوق النجاة من السنوات العجاف ومن بطش القياد في قراهم النائية، ومقر تحقيق أحلامهم وآمالهم، وهكذا أصبحت الدار البيضاء تلك المدينة التي تدور في فلكها، وبدرجات متفاوتة، أقاليم ومدن ومناطق كثيرة من المغرب سواء القريبة منها أو البعيدة، لكن هذا السيل الجارف من البشر سيظهر، بشكل أكثر قوة، ابتداء من القرن التاسع عشر، لقد كان الميناء، بما يوفره من فرص شغل، يجذبهم كنقطة ضوء في نفق العوز والحاجة، الذي يتيهون فيه إبان السنوات الجافة وشح الأمطار، وابتداء من القرن العشرين وتحديدا في سنة 1907 ستغمر أمواج المهاجرين الدار البيضاء وستغرق المدينة التي كانت كل المنابع التي تطعم البلد تنتهي إليها وتنطلق منها.
يخبرنا الباحثون أن أكبر عدد من المهاجرين الذين نجدهم يؤثثون جوانب الدار البيضاء هم أهل الشاوية، وذلك لأن المدينة أنشئت فوق أرض إحدى قبائلهم، مديونة، كما أن فخذة من فخذات هذه القبيلة أصبحت حيا من أحياء الدار البيضاء ويتعلق الأمر بحي المعاريف، وصارت فخذات أخرى من ضواحيها، لقد استقطبت الدار البيضاء أكبر عدد من أهل الشاوية القريبين منها «فهذه المدينة الضخمة تمارس إغراءها إذن على جيرانها الأقربين الذين قل ألا تجد لهم أهلا بها، فلا نندهش إذن بأن يكون نصيبهم في تعمير هذه المدينة، التي كانت عاصمتهم( …)، هو الأوفر» أندري آدم.
إذن فسكان الشاوية منتشرون في جميع الأماكن بالدار البيضاء، ويعتبرون الأغلبية بجميع أنحائها ما عدا درب اجديد حيث تفوق عليهم عدد أهل دكالة بعض الشيء، كما أن عددهم أقل بحي الحبوس، في حين أن تمثيلية قبيلة مديونة التي أنشئت المدينة على أراضيها ضعيفة وكذا قبائل الزيايدة، رغم قرب المسافة، في حين تبعث قبائل أولاد حريز وقبائل أولاد زياد، اللتان تتمتعان بأراضي التيرس الخصبة، أكبر عدد من المهاجرين، مثلها مثل قبائل مزاب واولاد سعيد والمداكرة أما بلاد بني مسكين فكان عددهم قليلا في الدار البيضاء، وذلك راجع، حسب باحثين، إلى أن تواجدهم أقصى جنوب الدار البيضاء يدفعهم نحو مناجم الفوسفاط بخريبكة كما يتوجه الزيايديون الموجودون بأقصى الغرب نحو افضالة، أما ساكنة السهول الأطلسية أوالقبائل الأخرى كقبائل الرحامنة والسراغنة زمران واحمر فلم تستطع أعداد الوافدين منهم أن تسحب البساط من تحت أقدام أهل الشاوية، ولا أن تخطف منهم جزءا من الأهمية التي كانوا يتمتعون بها في الدار البيضاء، وفي ما يتعلق بقبائل تادلة فإن جزءا مهما منها كانت تمتصه خريبكة كما أن بناء سد بين الويدان سنة 1952 جعل العديد من رجال الناحية يفضلون البقاء بمنطقتهم.
وبالنسبة لقبائل دكالة التي تهاجر بكثرة، وربما بكاملها نحو الدار البيضاء فهي تعتبر ثاني جالية بعد الشاوية على مستوى العدد، ويوجد عدد كبير من أهل دكالة بابن مسيك ودرب اجديد الذي يقع على طريق أزمور القديمة، فقد كانت هذه هي نقط وصولهم في ما قبل إلى البيضاء ثم أهل عبدة والشياظمة ثم بلاد حاحا الأطلس الكبير الغربي ووادي سوس والأطلس الصغير ثم تيزنيت.. وبنسب متفاوتة يحضر الأمازيغ، ذوو الطابع الاستقراري، في كل أنحاء الدار البيضاء، لكن هذا الحضور هو أقل بأحياء الصفيح منه بالأحياء المبنية، بابن مسيك، بحي الحبوس، بمارتيني، بالبلدية، ببوشنتوف، بعين الشق، بدرب مولاي الشريف، فهم يتمتعون بالقدرة على التأقلم مع المدينة تفوق قدرة السكان الآخرين، لقد استقر البعض منهم بالدار البيضاء منذ زمن بعيد وهكذا فقد سجل حضور مكثف لايت باعمران إفني… إضافة إلى كل هؤلاء المهاجرين من كل مناطق المغرب توجد أصناف أخرى من منطقة درعة وواحاتها ومنهم الرحل من السهب والواحات حيث يوجدون بكثافة بابن مسيك 21.7 في المئة ثم فرانسفيل الوازيس بنسبة 11.2 في المئة
ودرب الكبير 10.9 (أرقام مستقاة من إحصاء 1952 لأندري آدم)، وهم يقدمون بأعداد كثيرة من الوادي الأعلى لدرعة ابتداء من اكدز إلى تاكونيت وكلما اتجهنا نحو الجنوب نجد أن عددهم أكبر لأن فرص السقي تتضاءل كثيرا ويقل الماء مع ابتعاد النهر عن منبعه…
لقد كان المنحدرون من وادي درعة كثيري العدد بالمدينة القديمة على الخصوص نظرا لوجود «نزالة ضراوة»، حيث أن هجرتهم إلى المدينة ابتدأت من القرن التاسع عشر أما بالنسبة للمهاجرين من أهل تافيلالت فقد كان عددهم قليلا في إحصاء 1952، وكانوا يتوزعون بين سكان المدينة من بينهم 367 بالمدينة الجديدة و129 بابن مسيك وعددهم قليل بالأحياء الأخرى كما بالمدينة القديمة ودرب غلف ولا يوجد منهم أحد بدرب مولاي الشريف «وجودهم بالدار البيضاء يفاجئ ..إنهم يهاجرون عادة إلى فاس الذين تربطهم بأرضه علاقات اقتصادية دينية وسياسية في ذات الوقت، وفيما لم تعد هذه العاصمة القديمة قادرة على استقبالهم جميعا كان من المنتظر أن تحل محلها مكناس، ويبدو أن هجرة فيلالة نحو الدار البيضاء كانت نتيجة لهجرة أهل فاس إليها . لقد مر كل شيء وكأن الأرض غيرت من مدارها فجرت وراءها الأفلاك التابعة لها « أندري آدم….
كانت المشاكل الناتجة عن البحث عن القوت اليومي من أهم العوامل التي أدت إلى هجرة القرويين إلى المدينة وخصوصا منهم أهل الجنوب في الجزء الأول من القرن العشرين، كما عرفت أواسط الأربعينيات ما سمي بعام البون وعام «بوهيوف” إثر مجاعة رهيبة، نتيجة جفاف قاتل، حيث قلت المساحات المزروعة ونضب الماء في الأودية والآبار والعيون، وتضررت الماشية وأصيبت بأمراض أتت على قطعان كبيرة منها، كانت هذه المجاعة ذات خطورة كبيرة وتأثير على عدة مستويات، ومما زاد من حدتها ما قامت به سلطات الحماية من نقل مواد غذائية إلى جبهات قتال بفرنسا في إطار ما أسمته بـ”المجهود الحربي”. واقع كان بأثر بليغ على وضع المغاربة الغذائي والاجتماعي والصحي، لشدة ما حصل من جوع عصف بجهات البلاد مع تفاوتات محدودة، وهو ما دفع بجحافل المهاجرين الضعفاء والمعوزين إلى اتخاذ قرار الرحيل إلى المدن واستقبلت البيضاء أكبر عدد منهم .
يقسم الباحثون الهجرة التي عرفتها البيضاء إلى ثلاثة أقسام :
الأولى، كانت هجرة عائلية ونهائية يذهب الزوج وحده بعد أخذ قرار الهجرة بالدار البيضاء في رحلة استكشافية يقيم خلالها عند أحد الأقارب أو المعارف من المنطقة، ثم يبدأ في البحث عن عمل وسكنى، بعد العثور عليهما أو على السكن، على الأقل، يأتي بزوجته وأبنائه دون التفكير في العودة، «فهو إنسان فقدته القبيلة هو مديني كامن»، حسب أندري آدم، ثم الهجرة الثانية وهي مؤقتة خاصة بالرجال ويمتاز بها أهل سوس وقد وصفها «روبير مونطان» قي كتابه «ولادة الطبقة العاملة في المغرب» حيث يرحل الزوج بمفرده للإقامة هناك مدة طويلة ويترك زوجته وأبناءه بمنزل أبيه وأخوته، ويبعث إليهم بانتظام بالأموال وتتكلف الزوجة بحرث الأرض إلى درجة صارت الفلاحة ببعض مناطق الأطلس الصغير نسائية بامتياز، ثم يعود إلى قريته ويحل محله في الدكان أو الورشة أحد أقاربه، ويتميز هذا النوع من الهجرة بخاصية الارتباط بالأرض وبالقرية..
ثم النوع الثالث من الهجرة هو نوع مختلط، هجرة مؤقتة وعائلية، وهذه الهجرة يمتاز بها أهل وادي درعة فعندما ينخفض مستوى المياه في النهر بسبب الجفاف يحمل الرجل متاعه القليل وأسرته ويرحل نحو الدار البيضاء، لكنه لا ينسى أرضه وعندما يعلم أن الأمطار تهاطلت السنة الموالية يعود بسرعة ليحرث ويزرع، وقد تتكرر هذه الدورة مرات ومرات في رحلة ذهاب وإياب متجددة قاسمها المشترك الارتباط بأرض الأجداد وبمسقط الرأس…


الكاتب : n خديجة مشتري

  

بتاريخ : 22/03/2024