الدار البيضاء …تلك المدينة -19- سيدي بليوط الولي الصالح الذي خضعت له الأسود

ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …

 

من يكون ذلك الرجل الذي كان يشاهَد دائما مرافقا للأسود في غابات عين السبع؟ من أين أتى و ما هو اسمه الحقيقي، أبو الليوث أم سيدي بليوط؟ وهل الراقد الآن في الضريح بالمدينة القديمة هو نفسه أم شخص آخر مجهول ؟
الباحثون في الآثار، ومن بينهم الباحث أحمد أشعبان، يؤكدون أن الغموض هو ما يسم هذا الولي الصالح، حول حقيقته وموقع ضريحه الحقيقي. فالمعروف أن
ضريح سيدي بليوط يوجد على الواجهة اليسرى لشارع أحمد الحنصالي سابقا وهوفييت بوانيي حاليا، وقد اشتهر هذا الاسم خلال فترة الاستعمار مثله مثل باقي الأولياء الصالحين بالمدن المغربية، ب»سيد» المدينة أي وليها الرئيسي، بعد أن كانت «السيادة» باسم الولي علال القيرواني، حسب الوثائق الخرائطية الفرنسية المؤرخة قبل الدخول الفرنسي أو خلاله أي سنة 1907، كما اشتهر إداريا بمقاطعة سيدي بليوط، في كتابه «مراكش ..قبائل الشاوية ودكالة والرحامنة» للرحالة والسوسيولوجي الفرنسي ادموند دوتي في رحلته ما بين 1901
و 1902 نجد هذه الفقرة التي ذكر فيها هذا الولي « يعتبرون الدار البيضاء مدينة سيدي بليوط، فلكل مدينة من المدن والقبائل والقرى في المغرب كما في باقي شمال إفريقيا، ولي تتبرك به، ونعلم بالتالي أصل تلك المجموعة من خلال معرفة اسم الولي الذي تتردد عليه، فأهل فاس يتبركون بمولاي ادريس، وأهل مراكش يتبركون بسيدي بلعباس السبتي، وسكان سوس يحلفون بسيدي احماد وموسى إلى غير ذلك»، ويضيف في ذات الكتاب الذي ترجمه محمد ناجي بن عمر، أن «ولي الدار البيضاء حاليا كان شبه مجهول في أواسط القرن الماضي (ويقصد القرن 19)، وكان ضريحه عبارة عن منزل صغير يحرسه شخص يسمى بلمكناسي سيصبح في ما بعد مقدما، ولم يتم بناء قبة الضريح الحالية إلا سنة 1851 بعد ما جمعت لذلك أموال لابأس بها» .
ويورد ذات الرحالة عن سيدي بليوط أنه ركراكي الأصل وأن له بركة وأن الحجاج يأتون للتبرك به قبل الذهاب إلى الحج ويضيف: «كما كان للماء الذي ينزل إلى الدار البيضاء خاصة من قبة سيدي بليوط مكانة خاصة في نفوس الأهالي ويقولون إن من شربه سيعود حتما إلى الدار البيضاء مهما فعلت به الأيام، ويحكون أيضا أن لسيدي بليوط هذا بركة تدجين الحيوان فقد كان يتنزه وسط الأسود ومن هنا جاء اسم سيدي بليوط، وهو تحريف عن العربية الفصحى لأبو الليوث» …
لقد قضى سيدي بليوط أيامه في الغابة رفقة الحيوانات البرية بعيدا عن مخالطة الناس منصرفا إلى التعبد والتأمل، وبعد وفاته لم تأكله تلك الحيوانات بل أبقت على جسده دون أن تلمسه، حسب ما يتم حكيه حول كراماته، ويحكى أيضا أن نافورة المياه الموجودة بصحن الضريح تمارس سحرها، حسب ما يعتقده البعض، على كل من يشرب منها فتدفعه للعودة حتما إلى الدار البيضاء.
نقل من مخطوط فيه تراجيم بعض أولياء الله الصالحين كتبه مؤلف مجهول حسب ما ذكر هاشم المعروفي أن سيدي بليوط كان بالعشرة من المائة الثامنة وكان يحج كل عام، أما معيشه فقد اعتمد فيه على صيد السمك قرب البحر حيث كان يقيم وبوادي بوسكورة.
وقال صاحب التشوف أبو يعقوب يوسف بن عيسى بن عبد الرحمان التادلي المعرف بابن الزيات أن سيدي بليوط هو أبو حفص عمر بن هارون المديوني، وكان من أهل أنفا وكان عبدا صالحا اعتزل الناس وكان أكثر جلوسه في المقابر فيأتيه الأسد فيمسح ظهره بيده ويقول له اذهب جعل الله رزقك حيث لا تضر أحدا من المسلمين فينصرف عنه .
قال « حدثني عبد الواحد بن سالم المصمودي قال حدثنا عبد الرحمان بن إسماعيل البناني قال زرت أبا حفص وكان عندي مخلات فيها موطأ مالك بن أنس رحمه الله، وقال لي أنت عندي ضيف ولو كان عندي خادم يقوم بك لبت عندي ولكني منقطع هنا ثم قال: أحق ما قرئ كتاب الله وما في مخلاتك، يعني موطأ مالك، وما رآه ولا أخبرته به.
ثم قال أتعرف الشيخ أبا إبراهيم الركراكي من أهل الدار فقلت نعم، ثم قال لي لم يبق من ينبغي أن يزار ببلد المصامدة غير أبي إبراهيم ولا في بلاد القبلة غير أبي موسى.
يقول هاشم المعروفي إن كرامته واتصاله بالأسد ومسح ظهره بيده منقول عند سكان الدار البيضاء بسيدي بليوط ، وهذه الكرامة هي التي كني بها أبو الليوث وأن اسمه هو أبو حفص عمر بن هارون وأنه مديوني الأصل وأن وفاته كانت سنة 595 هجرية، وفي هذا القرن كان معاصرا لمولاي بوشعيب المدفون بأزمور و لسيدي ابي العباس السبتي بمراكش ولمولاي عبد السلام بن مشيش بجبل العلم ولمولاي بوعزة بن عبد الرحمان المدفون بزعير قرب ازمور اشلح والله أعلم . ولعل الأسود التي كان يتصل بها صاحب الترجمة ولقب من أجلها بابي الليوث هي التي ذكرها الشريف الإدريسي في كتابه «نزهة المشتاق في اختراق الآفاق عندما تعرض في رحلته من مراكش إلى إقليم تامسنا ووصف مرسى فضالة فذكر أنه توجد بعدها غابة مملوءة بالأسود، كما يمكن احتمال أن اتصاله بهذه الأسود كان يحدث عندما يخلو بنفسه مبتعدا عن العمارة والسكنى حسب ما جاء في ترجمته و الله اعلم. «
لقد كانت الفتوحات (الفتوح) التي يتقرب بها هذا الولي الصالح إلى الله صدقة على الفقراء، وكانت توضع في صندوق يسمى «ربيعة الشيخ « ، وفي بحث المعروفي عن ترجمة هذا الولي الصالح، الذي يوجد ضريحه بوسط العاصمة الاقتصادية وبالضبط بالمدينة القديمة، وجد ظهائر عزيزية في الجزء الأول من إتحاف ابن زيدان تتعلق بوجوه صرف تلك الربيعة، يقول النص الأول « نأمر خديمنا ناظر أحباس الولي الصالح سيدي أبي الليوث بمحروس الدار البيضاء أن يكون يدفع الأجرة المتعارفة للمتعلمين الذين يختانون الصبيان اليتامى وأولاد الضعفاء بالزاوية القادرية هنالك، وأن يكسوهم بما يناسب حالهم كل عام وقت الاختتان من فتوحات الولي المذكور، والسلام في 8 ربيع الثاني عام 1316». وجاء في وثيقة أخرى «خديمنا الأرضى ناظر الشيخ أبي الليوث بمحروسة ثغر الدار البيضاء وفقك الله وسلام عليك ورحمة الله وبعد، فقد بلغ علمنا الشريف أن المرضي من الأفاقيين وأهل البلد الذين لا مأوى لهم يمرضون في الطرقات وينقلون لبيوت خارج المدينة ويبقون هناك حتى يموتوا جوعا وعطشا وقد اقتضى نظرنا الشريف جمعهم بالبيوت التي قرب ضريح الشيخ المذكور فنأمرك أن تجمعهم فيها وتخص الرجال ببيوت منها والنساء ببيوت منها كذلك بعد أن تصلح ما لابد من إصلاحه منها وتزيد ما يتوقفون عليه من البيوت، وتكون تدفع لكل مريض خبزتين أو ثمنهما في كل يوم، ومن توفي منهم يقوم بتجهيزه ناظر المواريث ومن حصلت له العافية يتوجه لحاله وتسقط مؤونته ومن زاد تزداد له مؤونة أمثاله وهكذا، وقد أمرنا الخديم المديوني بالوقوف في ذلك وشد العضد فيه حتى ينفذ شريف أمرنا على مقتضاه والسلام في 6 قعدة عام 1318».

( يتبع)


الكاتب : خديجة مشتري