ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
بدأت وتيرة البناء والتعمير ترتفع بالدار البيضاء منذ بداية الدخول الاستعماري إلى المدينة في سنة 1907، اتساع طبعته الفوضى في بداياته، كما سبقت الإشارة إلى ذلك في باقي الحلقات من هذه السلسلة المخصصة لمدينة الدار البيضاء، وفي عهد المهندس المعماري بروست الذي استعانت به الإدارة الفرنسية لإيقاف فوضى التعمير والحد منها سيقوم بوضع تصاميم معمارية لتغيير وجه المدينة، حيث قرر في سنة 1914 إعداد مساحة تقدر بألف هكتار بنسبة 150 ساكنا في الهكتار الواحد، وهو ما يعني أن هذه المساحة بإمكانها إيواء 150000شخص ..لكن هذه المساحة كانت تعتبر في ذلك الوقت كبيرة جدا حتى أن البعض اتهم التصميم بالعملقة والمهندس الفرنسي بمرض العظمة، لكن من سوء حظ المهندس المعماري أن الحرب العالمية الأولى حالت دون إتمام هذا التصميم بل أوقفت إنجاز هذا التوسع الذي تأجل تنفيذه إلى سنة 1918، وهي السنة التي تكونت فيها الجمعيات النقابية الخاصة بالملاكين بأحياء TSFوزنقة مارسيليا، حسب ما جاء في كتاب اندري ادم، “الدار البيضاء تحول المجتمع المغربي في احتكاكه بالغرب”، والذي ترجمه فقيهي راوي الصحراوي…
وابتداء من سنة 1919 ستتم المصادقة على تصاميم أحياء “لورلوج” ولا “جيروند” ، وفي سنة 1920 على أحياء “لوسيطانيا”، مرس السلطان، سيدي بليوط، ألزاس لورين، وفي سنة 1921على حي المحطة ..
وحسب الباحثين والمؤرخين فقد صودق على إعداد نصف أحياء المدينة سنة 1922، واستنادا إلى هذه المعلومات التي جاءت في الكتاب المذكور، سيزيد اتساع الميناء في اتجاه الشرق ثم ستفتح منافذ أخرى من جهة الأحياء الصناعية زيادة على السكك الحديدية التي ربطت بالشبكة، ولكن سيبقى شارع “الزواف الرابع” الذي أصبح شارع محمد الحنصالي أهم الشوارع وأكثرها ارتيادا من طرف الناس خصوصا بعد تغيير موقع مقبرة سيدي بليوط سنة 1945 (كانت هناك مقبرة أخرى توجد قرب ساحة فرنسا، وهي المقبرة الإسبانية ولم تتخل عنها الدولة الإسبانية لصالح الدار البيضاء إلا سنة 1927)، وسمح ببناء محطة جديدة على الجانب الشرقي للشارع خاصة بالمسافرين، وهي أقرب إلى الميناء وإلى الوسط الحضري في ذات الوقت من المحطة الرئيسية، كما قام بروست برصد الساحة الإدارية لتجميع الطرق المحركة للمدينة وأقيمت شيئا فشيئا البنايات التي يوجد على جنباتها المقر الرئيسي للبريد الدائرة العسكرية قصر العدالة دار البلدية المحافظة العقارية مصالح المالية ..إلخ، وتقع هذه الساحة مكان المعسكرات القديمة والتي نقل أغلبها إلى ضاحية المدينة على طريق ولاد زيان باستثناء ثكنة هود ” heude “، كما كان التصميم يتوقع إعداد حديقة من 30هكتارا جنوب الساحة الإدارية مع بقعة مخصصة للرياضة، وهو ما سمي بحديقة ليوطي التي أصبحت اليوم حديقة الجامعة العربية .
أما من الجهة الشرقية للدار البيضاء فكان هناك محج المحطة الذي أصبح محج محمد الخامس، وهو مسلك عرضه 28مترا ربط ساحة فرنسا بالمحطة الرئيسية ويفضي إلى الحي الصناعي، وكان هناك محور آخر في تصميم بروست على المستوى التجاري، وهو يتشكل انطلاقا من ساحة ادموند دوتي ، ساحة 16 نوفمبر القريبة من ساحة فرنسا، شارع الجنرال درود، حمان الفطواكي، وزنقة سطراسبورغ، وطريق مديونة، وهناك تجمع الجزء الأكبر من تجارة الجملة المغربية.
أما الجهة الغربية فتكونت من شوارع رئيسية كشارع الجنرال موانيي (مولاي الحسن الأول) الذي يكون شارع جول فيري (موسى ابن نصير) امتدادا له، كما يمتد في اتجاه آخر عبر شارع جان كورتان( إبراهيم الروداني) وطريق مازاكان، وفي الغرب الأقصى يوجد شارع أنفا الذي يؤدي مرورا بمحج الأكسندر الأكبر إلى طريق أزمور.
هذه الأحياء الجديدة ستعرف ارتفاعا كبيرا في أثمنتها، وهي الأحياء التي تم تصميمها داخل المساحة الشاسعة التي حددها بروست من قبل، مساحة كانت قد أثارت استغراب الكثيرين لشساعتها وامتدادها الكبير لكن ارتفاع الأثمنة داخلها سيدفع الراغبين في السكن بالدار البيضاء ذوي الدخل الضعيف إلى الاستقرار خارج المدار الحضري للدار البيضاء ابتداء من أواخر الحرب، وكان من بين الأحياء التي بنيت خارج التصميم حي المعاريف الشهير الذي يعتبر اليوم من أرقى الأحياء البيضاوية بمحلاته التجارية ومقاهيه الفاخرة ومطاعمه العالمية، لقد أخذ هذا الحي اسمه من إحدى قبائل مديونة، وسكنه الشرفاء المعروفيين، المنتمين إلى قبيلة مزاب وكانوا من أوائل السكان بهذه الأرض وكانوا عبارة عن فلاحين يزرعون الخضر بهذه الأراضي التي لا تبعد عن المدينة القديمة كثيرا، لكنهم سيبيعون أراضيهم للسماسرة و الأوروبيين بأثمنة بخسة، ومن بين من اشترى هاته الأراضي ثلاثة تجار انجليز.
يذكر الباحثون أن حي المعاريف الذي يعتبر اليوم مركزا من مراكز التجارة بالعاصمة الاقتصادية ويضم أعلى بناية في بالمغرب، وهي “التوين سنتر” جاذبا إليه رجال الأعمال ويعتبر مقرا لكبريات الشركات العالمية والمحلية قد استمد اسمه من قبيلة مديونة، وكانت تسكنه عائلات يعرفون بالشرفاء المعروفيين يزاولون الفلاحة بهذه الأراضي التي لا تبعد كثيرا عن مركز المدينة، وخصوصا فلاحة الخضر، لكن العائلات المستقرة به قبل الحماية تبخرت بعد أن باعت كل أملاكها للأوروبيين والسماسرة ومع دخول المستعمر الفرنسي تناثرت حول أرض المعاريف أكواخ خشبية سكنها أفواج الأوروبيين البسطاء الإسبان والبرتغاليين الباحثين عن لقمة عيش تبعوها إلى الدار البيضاء.
في سنة 1911 سيقوم ثلاثة تجار انجليز على رأسهم التاجر مردوخ الذي سيطلق اسمه على “جردة مردوخ”، وإنجليزي آخر اسمه باتلر باقتناء جزء كبير من الأرض التي كان يملكها الشرفاء المعروفيين، مقابل أثمنة بخسة كانت أقل 50 مرة من الثمن المعروف، وهي توجد على بعد كيلومترين من الأراضي المحيطة بالأسوار، وقام التجار الثلاثة ببيع الأرض بعد أن سجلوها بأسمائهم بخلاف السكان الأصليين الذين كانوا يقومون فقط بإحاطة أراضيهم بجدار دون أي وثيقة تدل على ملكيتهم للأرض، وبعد أربع سنوات أي في سنة 1914 سيقوم هؤلاء التجار بإنشاء شركة عقارية قامت ببيعها هي أيضا بما يعادل عشرة آلاف فرنك، كما قامت ببناء مساكن خشبية منظمة وفوتتها بأثمنة تراوحت ما بين 100 ووو120 فرنك.
في بداية العشرينيات كانت المعاريف تشبه قرية تشكلت من أكواخ تقطن بها عائلات أوروبية، خصوصا الإيطاليين والإسبان، وكان أكثرهم يشتغلون كعمال بناء أو مستخدمين، ومع بداية هيكلة أحياء البيضاء بموجب مخطط بروست سنة 1913 وهو مجال كان ينتهي عند ما يعرف خاليا بشارع الزرقطوني، ستنزعج سلطات الحماية من تلك المساكن العشوائية القريبة من أحيائها الأوروبية المنظمة، نفس القلق كان مصدره تجمع آخر كان يعرف بعزيب غلف الذي أخذ هو الآخر أبعادا مقلقة لسلطات الاستعمار فبات من الضروري البدء بهيكلة التجمع الأوروبي عن طريق تزويده بالماء والكهرباء والصرف الصحي وبعض المرافق الضرورية خصوصا أن هدا التجمع أصبح يشبه المستنقع الآسن تنبعث منه الروائح الكريهة، وسيشهد تجمع حي المعاريف هيكلة ستعطيه شكله المنظم المعروف انطلاقا من سنة 1927 مع تواجد مقري شركتي نقل كبيرتين هما شركة الحافلات “الطاك” وشركة “الستيام” وسيتحول إلى حي للأوروبيين الفقراء والمتوسطين.
كما نشأت بأطراف المدينة قرى منها عين الدياب، تجزئة مونس، الوازيس، لارميطاج، عين البرجة ، بوليو، عين السبع، لتبتدئ المطالبة ابتداء من سنة 1923 بشارع دائري ثان تكون مهمته جمع هذه القرى حتى تدخل في المحيط الحضري، وكان سكانها الأوائل يتعاطون الفلاحة، غير أن بعضهم كان يستهويه السكن بعيدا عن المجال الحضري، وشيئا فشيئا ستجذب شواطئ عين الذياب وعين السبع سكان الدار البيضاء للاستجمام أيام الآحاد بعيدا عن شاطئ سيدي بليوط الذي ملأه تراب الميناء المتراكم.