ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
بدأت المدينة الأوروبية للدار البيضاء في التمدد والانتشار، وابتداء من سنة 1917 ستفكر سلطات الحماية في بناء مدينة جديدة خاصة بالمسلمين بعد ما لاحظت أن المدينة القديمة بدأت تنوء بحملها، فقد تكاثر بها السكان، خصوصا مع موجات الهجرات المتتالية إليها، فلم تعد مساحتها تتسع لهم، وبدأت أحياء عشوائية تنتشر خارج الأسوار في عدم تناسق بينها وبين التصميم الأوروبي الذي وضعه المهندس المعماري بروست، هذا الأخير الذي اضطلع بمهمة بناء مدينة أوروبية عصرية خاصة بالأوربيين، وهي المهمة الاستعجالية التي أعطيت له بعد الفوضى المعمارية التي كانت تتخبط فيها المدينة في بدايات الاستعمار، بروست سيفكر في خلق مدينة إسلامية جديدة خاصة بالمسلمين، وحرص على إقامة هذا الحي بعيدا عن التجمعات السكانية الأوروبية بجانب قصر السلطان على طريق مديونة الذي يتردد عليه المغاربة كثيرا على مقربة من المحطة الجديدة ومن مشروع الأحياء التجارية والصناعية.
لقد كان الفرنسيون حريصون على مبدأ فصل السكن الأوروبي عن الأحياء المغربية ولتحقيق ذلك أعطى بروست أوامره بإنشاء مدينة جديدة على بعد كيلومترين من المدينة القديمة في اتجاه عرض المدينة الأوروبية لكن هذا الفصل الذي كانت تتوخاه السلطات الاستعمارية لم ينجح، فخلال الحرب استقرت أحياء ضحوية على جانب الشارع الدائري عند تقاطعه مع طريقي مازكان ومراكش ويتعلق الأمر بطريق مديونة ..وكان من بين هذه الدروب درب ابن جدية الذي كان موجودا بشارع لا لورين (رحال المسكيني)، تقريبا بالزاوية التي يشكلها شارع المقاومة الفرنسية، وزنقة ستراسبورغ، وحسب أندري ادم فإن هذه الزنقة تعد أحد المحاور الرئيسية للتجارة المغربية، مسلمة كانت أو يهودية، وكانت تتكون من 235 منزلا، ثم درب عمر الذي يوجد بالجزء الجنوبي الشرقي من نفس الحي وعدد منازله 430يسكنها 2500 شخص، أما درب باشكو الذي يوجد شمال درب بن جدية فيقع على مساحة خمس هكتارات ويتكون من 45 دارا يسكنها 500 ساكن، ولكن هذه الدروب اندثر معظم دورها بسبب وباء حمى المستنقعات الذي ضرب المنطقة في عام 1938، ووجدتها فرنسا فرصة سانحة لتدميرها تطبيقا لظهير 8يوليوز 1938 القاضي بحماية النظافة والصحة العموميين بالمدن حسب ما جاء في كتاب «الدار البيضاء تحول المجتمع المغربي في احتكاكه بالغرب»، ولم ينج من هذا التدمير إلا 93 مسكنا بدرب بن جدية لأنها كانت مطابقة للقواعد الصحية الاستعمارية، ثم بنيت مساكن أخرى في ما بعد.
وغير بعيد نشأ درب غلف ذلك الحي الشعبي المعروف الذي قاوم هو أيضا نية الفرنسيين في الابتعاد بمساكنهم عن الأهالي وفصل السكن الأوروبي عن المغربي، فقد تم إنشاؤه محاذيا تماما للأحياء الأوروبية بل مجاورا لها مثل حي ابلاطو وحي المعاريف.
وتعود قصة حي درب غلف الذي يعتبر مدينة صغيرة وسط الأحياء الأوروبية التي هندس إنشاءها المقيم العام الفرنسي ليوطي بمعية مهندسه المعماري بروست، إلى نهاية القرن التاسع عشر، حين كان أحد المديونيين الحاج بوعزة المديوني لهراوي المكنى بغلف، وقد كان أمينا لتجار الجلد يغلف السروج وربما من هنا جاءت تسميته أو كنيته غلف، وفي رواية أخرى أن كنيته ترجع إلى كونه كان يرتدي حايكه صيف شتاء مما جعل الناس يطلقون عليه هذا اللقب، كان الحاج غلف يملك أراض شاسعة في تلك المنطقة، تمتد من بين حي المستشفيات وطريق مازاكان طريق الجديدة حاليا، أقام بها مساكنه ومساكن خدمه، وسيتوفى في سنة 1905، تاركا أراضي كانت في ملكيته تقدر بستة عشر هكتارا لتعود إلى ستة من ورثته، وأهم وارث منهم ورث الحصة الأكبر من هذه الأراضي حفيده الحاج علي بن المكي الحريزي، وبقيت هذه الأرض ملكا على الشياع إلى حدود سنة 1953، خلال تلك السنوات سيبدأ أحد ورثته، وكان يسمى محمد الزموري، والذي كان يتصرف باسم جميع الورثة، خلال الحرب العالمية الأولى، بتأجير قطع أرضية أو ما يسمى بالزرائب (36 مترا مربعا)للمغاربة، مع إعطائهم الحق في الزينة، لقد كانت من بنود عقد الزينة أن سومة الكراء الشهرية هي ثلاثة فرنكات في الشهر لكل زريبة زيادة على فرنك لكل طابق وفرنكا لكل دكان فتح ..وفي حالة بيع العمارة (للمسلمين فقط حيث كان يمنع البيع اليهود والنصارى) يمكن لصاحب الأرض أن يشفع فإذا لم يفعل فمن حقه 10في المئة من ثمن الصفقة، كما كان يمنع على المكتري أن يبني حماما أو فرنا أو طاحونة أو فندقا، وكان للمالك الحق في ذلك.
كما كان على المكتري أن يؤدي كل الضرائب ويمكن للمالك أن يسترجع أرضه شريطة أن يؤدي المصاريف أما إذا غاب المكتري أكثر من ثلاثة أشهر فمن حق المالك أن يطلب منه الإفراغ مع تأدية التعويضات…
عند كرائهم للأراضي ستبتدئ حمى البناء، وسيشرع المستأجرون في إنشاء مساكن دون تصاميم أو طرق أو مزارب أو تجهيزات،حسب ما جاء في كتابات الفرنسيين، الذين لم يستسيغوا إنشاء حي مغربي يسكنه مغاربة مسلمون بالقرب من مساكنهم الأوروبية، لتصل المساكن إلى 52 منزلا، لكن المصالح البلدية ستحاول هدمها بأمر من محكمة الباشا سنة 1920، تحت مبرر أن هذه الأرض مخصصة لتوسيع السكن الأوروبي، غير أن هذا القرار لم يتم تطبيقه، وقاوم المغاربة رغبة المستعمر في الاستيلاء على تلك الأراضي لتوسيع أحيائه الأوروبية، ووقفوا له بالمرصاد ، واستمر المستأجرون في بناء مساكنهم ليفوق عددها المئات في سنة 1921..وحسب اندري ادم فإن السكان كانوا يستمرون في البناء ليلا على ضوء المشاعل وخلال أيام العطل تجنبا لرقابة موظفي البلدية الذين فشلوا رغم المحاضر الرسمية والغرائم، في إيقاف هذا السكن الذي لا يطابق، حسبهم، تصاميم البناء الفرنسية خصوصا تصاميم بروست .. ورغم توالي الغرائم والمحاضر والضغط الممارس عليهم من طرف السلطات لم يستسلموا لكن السلطات الاستعمارية هي من ستستسلم وستقبل بوجود هذا الحي وستعقد سنة 1922 مشروع اتفاق بين بينها وبين وورثة غلف، وسيندمج الدرب لمدة عشرين سنة ضمن التصميم الإعدادي لحي بلاطو، وفي المقابل كان على الورثة أن يلتزموا بعدم إقامة أية أبنية أخرى، كما كان عليهم الالتزام بالإفراغ والتخلي مجانا لصالح المدينة عن ملحقات طرق التصميم في مهلة لا تتعدى ستة أشهر، وأن ينجزوا من مالهم وعلى على حسابهم الخاص الأعمال الخاصة بالشبكة الطرقية، وهو الأمر الذي لم يمتثل له لا الملاكون ولا المكترون الذين لم ينفذوا بنود الاتفاق بينهم وبين الإدارة الفرنسية، وظل المسؤولون بها ينتظرون إلى حدود سنة 1939، وبعد مفاوضات قرر الزموري بناء المزارب، واستمر البناء دون توقف، وحتى سنة 1949 كان بهذا الحي عين واحدة للماء الشروب، وخلال إحصاء 1952 كان عدد الدور 1954دارا و634كوخا يسكنها 20754ساكنا من بينهم 25 أوربيا 24 إسبانيا وإيطالي واحد، اضطروا بسبب أزمة السكن وظروف العيش الصعبة آنذاك إلى السكن بهذا الحي. وفي النهاية استسلمت سلطات الحماية للأمر الواقع وقبلت بوجود هذا الحي، الذي كان مخالفا لكل تصاميم المدينة الأوروبية، وستبدأ في إنشاء التجهيزات الصحية و الطرقية وستنشئ شبكة من المزارب العادية وتكثر من العيون وتوفر الماء للعمارات وترصف الطرق .
لقد استقطب هذا الحي الذي بني رغم أنف المستعمر وكانت تتوفر فيه جميع شروط الحياة الكريمة، حرفيين و تجارا وأهل علم من شتى مناطق المغرب لموقعه الاستراتيجي و قربه من ضواحي المدينة، وشكل هذا الحي أكبر مثال على تحدي المغاربة للغطرسة الاستعمارية وجبروتها و أصبح مهدا للمقاومة ورمزا من رموز الوقوف في وجه المخططات الاستعمارية لليوطي وجماعته.