ليست الدار البيضاء مجرد مدينة أو حاضرة من الحواضر العادية، بل هي حكاية من حكايات هذا الزمن..مستمرة في المكان والزمان… لم تحكها شهرزاد ولم يتشوق لنهايتها شهريار .. أبطالها ليسوا جان ولا عفاريت، بل هم مجرد أناس عاديون، قذفتهم أقدارهم ليعيشوا وسط دروبها وليصنعوا تاريخها ..مناضلون ومقاومون للاستعمار دافعوا عنها وصنعوا مجدها، وأولياء صالحون حرسوا أحياءها.. سكان من جاليات مختلفة تلاقحت ثقافاتهم وسط أحيائها وأزقتها، أسوار وأبراج وأبواب دكتها مدافع الغزاة لكنها عادت لتقف شامخة تحيط بها، هي ميناء ومصانع ومعامل وعمران وعمارات باسقة وفن معماري متميز، وفرق كرة قدم ومجموعات موسيقية ومسرحية ومؤسسات علمية ومساجد وبيع وكنائس وأضرحة.. يحكون لنا، خلال هذا الشهر الكريم، شذرات من تاريخها التليد وحاضرها الذي يعد بالكثير …
يقسم المؤرخون الذين حاولوا سبر أغوار الدار البيضاء والإحاطة بما ميز تاريخها من أحداث، ماضيها إلى مرحلتين ..الأولى امتدت من القرن الخامس عشر إلى حدود القرن الثامن عشر ..أي منذ أن خربها البرتغاليون ودكوا دورها وأسوارها وتركوها أثرا بعد عين، إلا من بعض المباني القليلة … وهذه المرحلة اعتبرها أندري آدم حقبة جمود اندثرت فيها الآثار والتقاليد بل إن أطلالها اختفت أثناء النمو الكثيف للمدينة الحديثة، ثم حقبة ما بعد إعادة الحياة إليها إبان حكم سيدي محمد بن عبدالله..فماضيها اليوم يحسب من هذه الفترة ..رغم أن إعادة بنائها كان بهدف التصدي لمحاولات القوات المسيحية الاستقرار بها، ومنعهم من ذلك، لذا وجد سيدي محمد بن عبد الله أن أحسن ما يقوم به هو بناء أسوار ومصاف للمدافع «السقالة»، وبعض المنشآت العسكرية القليلة تاركا وسطها لما سينشئه السكان من مبان….
لقد كان أول سكان الدار البيضاء، خلال الحقبة الثانية من ماضيها، هم جنود البخارى وشلوح حاحا، كما سبق الذكر..ولم يتم الاهتمام بها من ناحية المعمار مثل ذلك المعمار الذي اشتهرت به حواضر عريقة بالمغرب كتطوان وفاس والرباط وسلا، ولم تكن يوما مدينة مخزنية كمراكش ومكناس بل تم الاكتفاء ببناء مستودعات الجمارك ولم تبن فيها قصور أو ما شابه ..كما أن البدو الذين هاجروا إليها لم يستطيعوا تكوين طبقة برجوازية خاصة بها.. لم تكن «دار بيضا» بداية القرن العشرين إلا مدينة صغيرة شبه قروية ..أما الأجانب وعلى رأسهم الفرنسيون والإنجليز والإسبان والألمان فكانت لهم المكانة المرموقة التي افتقدها الأهالي القاطنين بها..
يذكر المؤرخون أن تصميم المدينة سنة 1907 كان على شكل مضلع يبلغ طوله 1000متر ومتوسط عرضه 500 متر …وكانت مساحتها تبلغ تقريبا 60هكتارا، وكانت تتكون من ثلاثة أحياء لا تتشابه كثيرا في ما بينها سواء على مستوى السكان أو السكن …فقد امتد الحي البورجوازي في الجزء الشرقي والشمال الشرقي وكان يعتبر المدينة العتيقة الحقيقية ..وتكون من دار المخزن، وهي إقامة الحاكم ومحكمة في نفس الوقت، ثم مكاتب الجمارك ومنازل الموظفين والتجار المسلمين الكبار، ثم القنصليات وسكنى الأوروبيين، وبهذا المكان يذكر أندري آدم، كان يوجد المسجد الكبير الذي شيده سيدي محمد بن عبد الله سنة 1786.. وقبر الولي الصالح سيدي بليوط وقبور أولياء آخرين كسيدي بوسمارة وسيدي مبارك و للا تاجة وسيدي فاتح، كما كانت تتقدم ما بين البحر وحي «التناكر» إلى حدود قبر سيدي علال القيرواني الذي يوجد أمام السقالة…
هذا الحي كان يوجد أيضا قبل 1912 وسط المدينة الأوروبية وساحة التجارة التي لم يتجاوز أطول أبعادها 20 مترا ثم الزقاق الذي كان يربط باب السوق بزقاق البحرية «زنقة الكوموندار بروفوست»، ثم النادي الإسباني وصالون الحلاقة الذي كان الوحيد سنة 1900 حسب ما ذكر أندري آدم في كتابه المذكور آنفا…ثم الحي اليهودي الذي يحتل الجزء الجنوبي والجنوب الغربي من المدينة بين باب السوق وباب مراكش. وخلافا للمدن الأخرى لم يكن الملاح بالدار البيضاء منعزلا عن المدينة العتيقة كما هو الشأن بالنسبة للمدن المغربية الأخرى بحائط وباب حيث كان يحد الحيين مجموعة مختلطة من اليهود والمسلمين.
أما الجزء الشمالي والشمال الغربي فكان به حي «التناكر» والتناكر كلمة لا يعرف أحد معناها حتى المغاربة منهم..لكن هناك بعض الباحثين خصوصا الفرنسيين الذين اشتغلوا كترجمانات خلال عهد الحماية أو قبلها توصلوا إلى أن «التنكيرة « تعني في أزمور «جنان» صغيرة يحيط بها سور صغير من الحجارة أو سياج عال من الصبار، كما لوحظ الاسم كذلك بدكالة بمنطقة اولاد عمران، ويعني قطع أرض صغيرة عارية لا يحيط بها حائط ولا سياج، ويشير آخر إلى أكواخ من قصب، ضواحي مازاكان… إذن حي التناكر بالمدينة القديمة ربما يعني أو يحيل على واحد من هذه التفسيرات، خصوصا أنه كان منطقة شبه فارغة إلا من بعض البنايات من التراب المدكوك على طول أزقته الرئيسية..وكان عبارة عن مجموعة من «النوالات» وأكواخ القصب يقطنها عمال مغاربة، لقد كان حيا شبه قروي، وينتهي الحي في نقطته الشمالية بأرض بور حولت إلى حديقة عمومية…شمالا كانت توجد أيضا البعثة المسيحية التي كان على رأسها فرنسيسكيون إسبان أما البعثة البروتستانتية فكان على رأسها الإنجليز، وكانت توجد خارج الأسوار جنوب باب مراكش وغرب السوق الكبير…
وكانت الأسواق توجد بالمدينة العتيقة أو على مقربة منها أما مكان الحبوب «الرحبة» فكان داخل السور بالقرب من باب الرحى، كان السوق الصغير أو «الجوطية» يقام يوميا بساحة الباب الكبير، وتباع فيه الأثواب والأغطية والأشياء المستعملة، وكان السوق الكبير يقام خارج الأسوار، أما الباب الكبير الذي كان يسمى باب السوق فكان بالمكان الذي سيسمى في ما بعد ساحة فرنسا، وكان يوم الأحد مخصص لبيع البهائم أما نشاط السوق فيكثر يومي الاثنين والجمعة…
لقد شكلت هذه الأحياء النواة الأولى التي تأسست حول مدينة الدار البيضاء في بداية القرن … بعد ذلك وعند البدء ببنائها روعي فيها تخطيط الطرق العصرية، يقول هاشم المعروفي في كتابه «عبير الزهور» إن الشوارع الواسعة تخللتها ساحات فسيحة، وعلى سبيل المثال فإن ساحة محمد الخامس داخل المدينة يمتد منها شارعان رئيسيان الأول شارع شكيب أرسلان الموجود به جامع السوق، وهذا الشارع حسب الكاتب يتعدى في اتساعه نحو عشرة أمتار، ثم الشارع الثاني الرئيسي الممتد من فسحة محمد الخامس المسمى شارع «الكوموندو بروفو» مفتوح في أوله على اليمين شارع سوق الزرع، وهو عبارة عن فسحة كانت سوقا للزرع للمدينة قبل الاحتلال …وكانت الأزقة معبدة مرصفة بالمسن مما يمنع تلوثها بالطين عند نزول المطر، والسكان كانوا يبنون سكناهم بالبقع التي منحت لهم كل على قدر طاقته ووسعه..وكانت الدار مجهزة ببئر وخزان للماء يسمى «مطفية» يجمع به ماء المطر، الذي كان يتم استعماله لغسل الثياب ولشرب الشاي، أما ماء البير فلغسل الدار وأواني المطبخ أما الماء الصالح للشرب فكان يجلب من عين السبع ومن سانية ولاد حدو في قِرب محمولة على بهائم وتباع للسكان، وكان للأثرياء اصطبلات لبهائم الركوب أو نقل الماء وبقر للحليب وكان لها راع خاص فيذهب خادم الدار سواء أكان عبدا أو أمة بالبقرة إلى باب الرخا قرب ضريح أبي الليوث، ويسوق القطيع إلى المرعى بعين السبع أو غيره، ثم يعود به في العشية إلى باب الرخا فتذهب كل بقرة إلى منزل صاحبها تلقائيا دون قائد…