مع مطلع كل سنة جديدة يعيش المثقف المغربي مشهد الدخول الثقافي المؤجل بسبب خلل في الرؤية الاستراتيجية للوزارة الوصية التي تنظر للثقافة كترف فكري وقطاع غير منتج !!والحال أن الأمن الثقافي لا يقل أهمية عن الأمن السياسي.. يكفي أن نعلم أن الانخراط في الممارسة الثقافية يرتقي بالذائقة المجتمعية ويحصن شريحة كبيرة من الجمهور من الانزلاق نحو التطرف والجريمة وما إليه.. فالمعرفة حصانة كما يقال.. وعندما نتحدث عن دخول ثقافي مسؤول فالقصد بذلك أجندة مضبوطة من الأنشطة بسقوف زمنية محددة ومتدخلين معلومين تشترك فيها وزارة الثقافة مع الجمعيات المدنية ذات الاهتمام المشتركة :(بيت الشعر، اتحاد كتاب المغرب، دار الشعر،شبكة القراءة، المركز السينمائي المغربي، المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية..)، والدخول الثقافي يشتمل في حده الأدنى على الأنشطة التالية:
الإعلان عن الجوائز الثقافية المحفزة على الإبداع وترك الأثر المعرفي والفكري.
الإعلان عن برامج دور النشر ذات الصبغة الثقافية مع تواريخ توقيعات إصداراتها الجديدة.
الإعلان عن العروض المسرحية والسينمائية والمعارض التشكيلية والندوات الوطنية.
جدولة المعارض الجهوية المفتوحة مع نشر أهم أنشطتها الإشعاعية الثقافية.. بالإضافة إلى المعرض الدولي للكتاب.
جدولة الدروس الجامعية الافتتاحية بمواضع محددة،وتواريخ مضبوطة، وقضايا تشغل جمهور الثقافة..
دعم الخزانات العمومية التابعة لوزارة الثقافة بالكتب الجديدة.
خلق علاقة متينة بين دور النشر والإعلام الثقافي.
تجسير التواصل مع القطاعات الوزارية الأخرى ومنها وزارة التربية والتعليم لخلق حركية ثقافية من خلال اقتراح جوائز تحفيزية ولتكن لقارئ المؤسسة، وقارئ المقاطعة التربوية، والمديرية الجهوية…
الانفتاح على فضاءات الحياة في عموميتها، وجعل القراءة ممارسة يومية من خلال خلق حوافز ولتكن تحت عنوان «آخر ما قرأت».
حد أدنى من الركائز إن غاب ارتهنت الممارسة الثقافية بمنطق الحملة العبثية لا فلسفة المشروع على مدار السنة..
إن الركائز الثقافية أعلاه وغيرها يفترض تجميعها في دليل تقترحه وزارة الثقافة على النخبة المثقفة سواء في يوم دراسي أو على موقعها الرقمي للخروج ببرنامج ثقافي سنوي متوافق عليه.. لأن عزل المثقف عن التدبير التشاركي للشأن الثقافي بالمغرب لن ينتج إلا بنيات وأنساقا عاجزة ومعطوبة. وفي غياب هذه الخطوات يصبح الحديث عن الدخول الثقافي مجرد حبر على ورق.. وبسبب هذا الوضع المختل بتنا نعيش هجرة الأدمغة للخارج وهي عملية تضرب في العمق التنمية المجتمعية عموما.. بل في غياب الأجندة أعلاه يبدأ «دخولنا الثقافي» البئيس مع بداية المعرض الدولي للكتابي وينتهي بنهايته ليعيش المثقف المغربي باقي أيام السنة غربة حقيقية. علما أن المعرض الدولي للكتاب يأتي في شهر ماي ( أيار )بعد أن يكون قد شهد المغرب الدخول المدرسي والفلاحي والرياضي والسياسي.. وتوقيت «الدخول الثقافي» المتأخر زمنيا –تجاوزا- إذا اعتبرنا المعرض الدولي للكتاب كذلك- توقيت مذل ويترجم ذيلية الثقافة في المغرب. دون الحديث عن ميزانية وزارة الثقافة الهزيلة.. وهذا المآل يجعلنا في مسيس الحاجة لخريطة طريق سنويا بلجان متابعة وجداول محددة لتنفيذ الأنشطة الثقافية، وتحديد المتدخلين فيها مع تسجيل الشريحة المتفاعلة والأثر الفعلي المتبقى.. وإلا فإن الممارسة الثقافية بالمغرب ستبقى مرتهنة بالمبادرات الفردية.. لذلك قلنا إن غياب معالم دخول ثقافي مغربي يرجع بالأساس إلى:
-تعذر إيجاد زمن محدد في السنة للإعلان عن الإصدارات الحديثة.
-غياب جدولة زمنية ثابتة تقدم الندوات الوطنية والإبداعات بمختلف تلويناتها.
وهذا يرجع لعدم توفر المغرب على صناعة ثقافية محترفة.
ومن الطبيعي في ظل عطل مماثل ألا يكون للإعلام الثقافي دور. يبقى التشديد هنا ضروري على أن الثقافة لا يمكنها أن تتطور بالتخطيط والبرمجة فقط.. ولكنها في مسيس الحاجة للدعم المالي والرمزي، وإلى مؤسسات مختصة.. دون الحديث عن بنية تحتية محترمة علما أن المراكز الثقافية الجديدة غير كافية بالمرة.. فضلا عن الحاجة إلى التدبير الحكيم للقطاع وهي أمور كفيلة بجعل الممارسة الثقافية مدخلا جوهريا لتحصين الهوية الوطنية المتعددة الروافد. لكل هذه الاعتبارات نتصور أننا في حاجة ماسة لاستراتيجية ثقافية تبوئ المثقف مكانته المستحقة حتى نؤسس لزمن وسنة ثقافية ببرنامج مضبوطة التواريخ والمتدخلين والغايات. علما أن الممارسة الثقافية انشغال دائم لا يعرف التوقف ..وحتى نتبين الفارق الشاسع بيننا وبين الدول العريقة في الديموقراطية مثل فرنسا التي تعتبر الدخول الثقافي تقليدا عريقا وطقسا من صميم الحياة المجتمعية، نقترح هذه الأنشطة على سبيل المقارنة الجارحة.
تعتبر فرنسا الدخول الثقافي طقسا محوريا على مدار السنة،طقس له جلاله منذ سنة 1880م، حيث اعتادت على تقديم الإصدارات الإبداعية والمعرفية الجديدة كل مطلع سنة ثقافية مع الحرص على وصولها لأكبر عدد ممكن من جمهور القراء، حيث أن نسبة مهمة من الكتب مدعومة من طرف وزارة الثقافة. هذا بالإضافة إلى أن الزمن الثقافي الفرنسي مدموغ بملاحق ثقافية عريقة، وبرامج ثقافية مذاعة ومتلفزة..فبفضل الإعلام الثقافي والتربية القرائية للنشء تحفل الأماكن العامة من مقاه وحدائق وحافلات بعدد قراء لافت للانتباه. ويمتد هذا الاحتفال حتى فصل الصيف من خلال المكتبات الشاطئية التي توفر للمصطافين أحدث الكتب.. أما المجتمع المدني فيقوم بمبادرات نبيلة من خلال توزيع بعض الكتب بالمجان.
أما على مستوى النشر، فقد افتتحت فرنسا موسمها الماضي (2023) ب 800 رواية و 2450 عنوانا نظريا ونقديا توزعوا على مختلف العلوم الإنسانية والعلوم الحقة.. دون نسيان عشرات الجوائز تتصدرها جائزة «غونكور»و»روندو»وميديسيس»و»فيمينا». كما توزع في الشارع العام «كتالوجات»تشمل الإصدارات الجديدة والندوات الوطنية الكبرى على مدار السنة. وتراهن وزارة الثقافة الفرنسية كذلك على الأجندة التالية:
– دعم الثقافة في الأحياء المحرومة، وذلك من خلال إدماج المناطق المهجورة في الدينامية الحضرية، فضلا عن دعم مشاريع تعليم الفنون والوساطة الثقافية وتذليل الصعاب في وجه الجمهور الذي يجد صعوبة في الحصول على الخدمات الثقافية.
-مساعدة الأشخاص الخاضعين للرقابة القانونية والمودعين في السجن إيمانا من وزارة الثقافة الفرنسية بأن الثقافة تساهم في عملية إعادة الإدماج، وعدم العودة للإجرام.
-ومنذ عشرين سنة مضت كرست وزارة التضامن والصحة بشراكة مع وزارة الثقافة الفرنسية، تقليد الانفتاح على شريحة المرضى والمقيمين في المستشفيات وكبار السن بتخصيص غلاف مالي قدره 4 مليون يورو لتثقيف هذه الشريحة ومراعاة ذائقتها الخاصة جدا..
في الواقع تبدو المقارنة الثقافية بين النحن والآخر جارحة ومؤذية تماما، حيث يصعب الحديث عندنا عن سنة ثقافية و»دخول ثقافي»؛ دخول يتصف بالمرارة والبؤس بسبب مروره في صمت وكأنه غير موجود أصلا؛ فلا دور نشر تعلن عن جديد إصداراتها، ولا القراء يقصدون المكتبات لاقتناء الكتب إلا القلة القليلة..والسبب أننا لا نملك هذا التقليد الثقافي العريق في المجتمع الفرنسي لأنه يشترط بنية ثقافية متكاملة. صحيح جدا أننا نتوفر على أقلام مضيئة بمجهودها الشخصي لدرجة أن الكتاب المغربي، ولاسيما النقدي منه يجد صداه في دول الخليج والمشرق، بل إن بعض الكتاب المغاربة يتوجون بالمشرق دون أن يعرفوا بالداخل ليعيشوا غربة إضافية بين ذويهم.. لكن هذا التألق الموجع بصيغة المفرد لا يمنحنا بنية ثقافية تسمح بسنة ثقافية ولا بدخول ثقافي حقيقي..
(*) ناقد أدبي مغربي.