نعيش اليوم مرحلة متقدمة من الفراغ السياسي وفي نفس الوقت فراغا ثقافيا
هو الأسرع والأشد
في هذا الحوار الممهور بلغة الحقيقة العارية، نقف مع الدكتور إدريس بنسعيد أستاذ السوسيولوجيا بجامعة محمد الخامس بالرباط، عند أهم ملامح الأزمة المركبة اليوم التي تسم علاقة المثقف المغربي بتدبير الشأن العام، وبمعنى أدق بالسياسة وأفق انتظارت المجتمع من هذا الأخير، كما نتلمس بعض جوانب القصور في دور المثقف والعوامل الموضوعية والذاتية التي أفرزت هذا الوضع الذي وصل أحيانا إلى حد التخوين.
– ساهم المثقفون المغاربة بعد الاستقلال، بما يملكونه من وعي استباقي في تحليل معطيات واقعهم وانخرطوا في قديم بدائل ومفاتيح حلول لها.اليوم عرف المغرب، خاصة بعد أحداث الربيع العربي، حركات احتجاجية تفاوتت درجات التجاوب معها.لماذا انزوى جزء كبير من المثقفين في الظل دون أن يبدي رأيا أو تحليلا لما يجري؟
n الأمر يتعلق بمعاينة واقع وتوصيفه كما جاء في سؤالك، لكن علاقة المثقف بالسياسة فيها كثير من التعقيد. وحتى لا نظلم أحدا، هناك العديد من العوائق التي تضبط هذه العلاقة أولها:
أن حقل السياسة في المغرب مضطرب وغامض، وكان كذلك منذ البداية. فحقل السياسة دائما حكمته مجموعة من الخطوط الحمراء أولها أن المؤسسة الملكية، سواء بثقلها التاريخي الذي ورثته واستعادت مشروعيته مع الحركة الوطنية والاستقلال أو احتلالها شبه التام للقرار السياسي، جعلها تربط الحديث عن السياسة بانتقاد هذه المؤسسة، وبالتالي انتقاد المشروعية التاريخية وثوابت الامة، ما جعلها تحتكر هذا المجال وتدخل جزءا منه الى دائرة المحرم.
هذا العائق جعل مجال السياسة متقلصا، وهامش تدخل المثقف فيه ضيقا ويهم فقط بعض المجالات الصغرى والمجالات التدبيرية، أما الحديث في السياسة بمعناها الدقيق فهذا متعذر الى حد كبير. لكن هذا العائق لم يمنع مثقفي ما بعد الاستقلال وحتى نهاية السبعينات من الكتابة والمشاركة في قراءة وتحليل الواقع ، وهذا راجع لعدة اعتبارات منها أن المثقفين كانوا في معظمهم فاعلين سياسيين داخل الأحزاب، كما أن الأحزاب، من حيث بنيتها، كانت نفسها بنيات قابلة لاستقطاب وإنتاج الثقافة بالإضافة الى أن عددا من المثقفين كان يتحمل مسؤوليات سياسية حينها ، كتبوا، حوكموا، منعت كتاباتهم بل هُرّبت ولكن كان لهم حضور وكانت السلطة تتوجس من كتاباتهم، نذكر منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد عابد الجابري، عزيز بلال، عبد الله العروي،عبد الرحيم بوعبيد، محمد جسوس، عبد الكبير الخطيبي.
هناك عنصر ثان هو أن المثقف لا يتعرض للحصار من طرف الفاعل السياسي فقط، لكنه منذ منتصف السبعينات يتعرض لحصار آخر وهو الخطاب الديني ولا أقصد هنا الخطاب المؤسسي الصادر عن العلماء والخطاب التقليدي المتجذر في الثقافة المغربية، بل أقصد الخطاب الوهابي التكفيري والمعادي لكل قيم ومظاهر الحداثة، واعتبارها بدعة . فهو إذن إما محاصر أو متهم وفي موقع شبهة.. مرة يوصف بالعلماني ومرة بالحداثي المتغرب دون تحديد دقيق للمفاهيم.
العائق الثالث يتمثل في غياب المشروع الثقافي لجل الأحزاب السياسية. فالحركة الوطنية المغربية، سواء في لحظة التأسيس أو في مسارها، تأسست سياسيا وثقافيا، وكانت تمتلك مشروعا سياسيا بتحالفات وتدافعات لكنها في نفس الوقت امتلكت مشروعا ثقافيا حمل مشعله في غالب الأمر مثقفون أمثال علال الفاسي وكتابه “النقد الذاتي”، عبد الرحيم بوعبيد، محمد عابد الجابري، علي يعته، حيث كان جزء من المثقفين هم رجال سياسة أيضا، كما أن الأحزاب كانت لها مشاريع ثقافية متجذرة في بنيتها التنظيمية وبرامجها النضالية، ولا أدل على ذلك من تجربة الملاحق الثقافية التي انطلقت مع “العلم” و”التحرير” و”المحرر” و”الاتحاد الاشتراكي”. هذه الملاحق طرحت ملفات وحركت النقاش السياسي والثقافي ، بالإضافة الى دور المنظمات النقابية في تحريك عجلة الثقافة.
– هل ينسحب توصيف “الأزمة” حقيقة اليوم على المثقف المغربي أم أن معطيات الواقع اليوم والتباسات السياسة ومعادلاتها هي ما يفرض عليه أشكالا أخرى من الانخراط في قضايا مجتمعه؟
– المناخ الذي يتحرك فيه المثقف والثقافة منغلق وضيق، وامتداداته كذلك محاصرة. فكيف لهذا المثقف أن ينشر أعماله، أيا كانت طبيعتها، لتصل الى القراء في ظل وسائل إعلام تحصر الثقافة وتختصرها في برامج فلكلورية وترفيهية ، أما الحوارات السياسية والثقافية فهي نادرة في المشهد الإعلامي وتسير الى الانقراض. إذن أمام هذا المعطى لن يتمكن المثقف الحامل لفكر نقدي ومحفز من إيصال صوته. هذا عن الأسباب الموضوعية، أما عن الجانب الذاتي والذي لايمكن فصله البتة عن الموضوعي، فهو أن المثقف تقلصت وضعيته الاعتبارية في المجتمع، والكل أصبح ينظر اليه اليوم باعتباره صوتا مزعجا ونشازا، ولا يمكن القبول به إلا إذا كان من من باب المصادقة والتهليل والترحيب بما يقع، سواء من طرف الدولة أو الأحزاب. بالاضافة الى حضوره داخل التنظيمات السياسية الذي تقلص بفعل التطاحنات والاختلافات والتي كان المثقف ضحيتها الأولى ففضل الانسحاب. هناك أيضا مشاكل دور النشر وتوقف العديد من المجلات الرائدة عن الصدور كـ” الزمن المغربي”، “جسور”، “لاماليف” واحتضار أخرى، ثم التحولات التي يفرضها المشهد الإعلامي الذي جعل هذا المثقف في موقف ضعف وصوته خافتا وغير مؤثر، لكن هذه العوائق كلها لا تعفيه من المسؤولية. فالمثقف الذي اختار طريق الفكر والرأي والكتابة، يعرف من البداية أنه ليس طريق المجد وطريق الدعة والاطمئنان، بل طريق القلق وفعل نضالي بامتياز.
اليوم وبعد انسداد قنوات تصريف الرأي، لجأ المثقفون الى منافذ أخرى، فإما التجأوا الى المجال المدني أو خرجوا من المغرب ووجهوا إنتاجهم الى جرائد ومجلات معروفة عربيا وخاصة صحف الخليج وهم أسماء مكرسة ، أولا لضيق مجال التعبير وثانيا بسبب الوضع الاعتباري للمثقف في هذه المنابر التي لا تبخس عمله.
هناك مثقفون آخرون اختاروا عدم الخوض في السياسة والشأن العام، واتجهوا الى مجال الاستشارة والخبرة ، وهم المقربون من دوائر القرار ويستفيدون من مظلاتهم. هذه العينة اختارت يافطة التحليل السياسي والثقافي للأحداث، في ما يشبه دور المفتي الذي يفتي في كل شيء ويبحث عن تبرير لما يحدث، وقد حولهم الحس الشعبي الى مادة للتندر.
أما مثقفو الأحزاب فقد اتخذوا قرار الانسحاب من الحياة العامة واكتفوا بموقع المستنكر الصامت. هذه العوامل الذاتية جعلت صوت المثقف في علاقته بالشأن العام، خافتا وتعوّد بالتالي المجتمع على هذا الفراغ، الذي هو أخطر فراغ يتهدد المجتمعات، لأن المثقف هو الذي يتدخل في تحليل القضايا العامة ، يستفز، هو الذي يساهم في خلق الرأي العام وبلورة القيم الأساسية للمجتمع، وبالتالي لا يمكن لأي مشروع سياسي أو اقتصادي أن يقوم بدونها. فالقيم الكبرى اليوم والمؤسِسة للتماسك والتي تعتبر خيطا مرجعيا، بفعل غياب دور المثقف ، تدهورت وحلت محلها قيم هجينة تتقدمها قيمة اللاقيمة. أما القيم التي هي مدار السياسة والمجتمع كالحق والواجب، العمل، المواطنة، المساواة ، فليست النصوص القانونية هي التي تبيحها أو تمنعها ،ولكنها قيم عندما ننفخ في جذوتها فإننا نحييها ونجعلها قوية ومرجعا. هذا التراجع في موقف المثقف أعتبره خسارة كبرى، وبطبيعة الحال، المثقف يتحمل أيضا المسؤولية بتوجهه الى قضايا سوسيولوجية الحياة اليومية، ناهيك عن التعامل الرسمي مع قطاع الثقافة والبحث العلمي الذي تترجمه الميزانية المخصصة له.
– ينعت المثقف بالانتهازية وبالاستقالة من مهامه النقدية والتثويرية للواقع. أليس في الأمر تحامل عليه أم أن الاصطفافات الإيديولوجية النابعة أساسا من المصالح الشخصية وليس القناعات المرجعية، هي ما يبرر هذا الموقف منه؟
-توضيحه والدفاع عنه أو نقد مشروع وانتقاد مشاريع أخرى. فالبعد النقدي هو جوهر الثقافة ومظهرها. فالمثقف لا يكتسب هذه الصفة إلا بوجود أطراف أخرى وحاضنات وهو ماكانت تقوم به الأحزاب التي كانت تهيئ المجال للمثقف العضوي . فالتقرير الإيديولوجي لحزب الاتحاد الاشتراكي بالإضافة الى كونه وثيقة سياسية، إلا أنه نص ثقافي في الأساس نظرا لمساهمة عدد من المثقفين في صياغته بصفتهم الحزبية أو بدونها، ونفس الأمر لمشروع “التعادلية” الذي تقدم به حزب الاستقلال والذي تضمن نقاشات ثقافية قوية وعميقة، فالدولة تقبل المثقف كخبير وليس كفكر نقدي. فعدد من الكفاءات الفكرية اليوم تُصرّف في باب الاسترزاق أو ما يطلق عليه الانتهازية، وهذا النوع كان موجودا على الدوام وهو رد فعل طبيعي على واقع لا يقدم بدائل أوهامشا واسعا لتصريف الأفكار.
– التعليم اليوم، وخاصة الجامعي منه، أصبح عاجزا عن تكوين مثقفين مستقلين فكريا ونخب قادرة على تقديم فكر نقدي، مع ما تعرفه مستويات القراءة من تدن وتراجع لفائدة الأشكال التعبيرية الشفوية.كيف تنظرون الى هذا الوضع المركب؟
-هذا الوضع نتيجة طبيعية لما زرعناه. فمنذ أربعينيات القرن الماضي احتلت قضية التعليم والمدرسة مكانة مركزية لدى الدولة ولدى قادة الحركة الوطنية ، ليس بالمعنى البيداغوجي الذي يركز على المهارات فقط، ولكن تعليم يجعل المواطن متعلما ومتملكا لمفاتيح القراءة كوسيلة لاكتساب ثقافة ما ، وهو ما نلمسه من محتوى الكتب في الخمسينات والستينات، فالمتصفح لهذه الكتب سيقف لا محالة على القيم التي تتضمنها، والتي كانت متكاملة وقادرة على إنتاج مواطن متنور ومفكر، ومتوجه نحو الفعل. بعد الاستقلال ارتبطت المدرسة والجامعة بالثقافة والسياسة مع تيارات اليسار والاتحاد الوطني لطلبة المغرب. ومنذ السبعينات أصبح الكل يطالب بإصلاح التعليم، فعقدت المناظرات وقدمت مخططات وبرامج، لكنه إصلاح رغم تعدد المشارب والتصورات التي ساهمت في وضعه، إلا أن الجامع بينها والمفارق في نفس الوقت، هو الاتفاق على ما لا يجب أن يدرس لا ما يجب تدريسه، فاتجهت معه المدرسة الى إفراغ المناهج والمقررات من أي محتوى ثقافي وقيمي قادر على إنتاج شعب وأمة، وهو ما أفرز هذه العلاقة العدائية بين التلميذ والمدرسة والقراءة وعمّق الهوة بين مضامين التدريس والواقع. فقد كفّ التعليم عن التثقيف واكتفى بتكوين الأطر بدون قيم وهو تعليم فيه مكان لكل شيء إلا القراءة. نحن جيل تعلم خارج مدرجات الجامعة أضعاف ما اكتسبه داخلها، فقد تعلمنا كيف نفكر بواسطة خيط ناظم بين الأشياء، تفكير يربط بين الأسباب والنتائج وبمعنى آخر كنا نفكر كمثقفين وليس كمتعلمين. نحن اليوم نعيش مرحلة متقدمة من الفراغ السياسي وهو أمر ينذر بالخطورة ونعيش في نفس الوقت فراغا ثقافيا هو الأسرع والأشد من حيث نتائجه، لأن تدبير المجتمع في هذه الحالة يصبح صعبا من الناحية السياسية والأمنية، لأن الفراغ الثقافي يدفع الشباب الى البحث عن تعبيرات ثقافية بديلة وهو ما تترجمه اليوم منصات وسائل التواصل الاجتماعي.
– في غياب الجرأة الفكرية لطرح المسألة اللغوية بالمغرب رغم ترسيم الأمازيغية دستوريا، وجد بعض المثقفين في هذه القضية ورقة ضغط سياسية وحولوا اهتمامهم نحوها بل انتقلوا بها من النقاش السياسي الى المعترك المدني. الى أي حد ساهم هذا التشتت وتفييء المطالب الثقافية وربطها بالعرقيات في خفوت صوت النخب؟
– شخصيا، لاأطمئن كثيرا ولا أميل الى هذا الرأي . فصياغة المطالب لها بنياتها الأخرى ومنها الأحزاب والنقابات والجمعيات. المثقف دوره هو التحفيز الفكري والدفع الى التجديد وتفكيك الخطابات. فهو يشبه المغناطيس الإنساني الذي يجذب العقول و المجتمع نحو الأعلى، وفي هذا يمكن أن يؤمن بقضية ويدافع عنها، ان يتحزب ولا أرى ضيرا في ذلك فهذا من صميم الحق. بالنسبة للمسألة اللغوية يجب أن نميز بين مثقف نزيه، له مرجعية ويصدر عن فكر نقدي وله إسهامات وتحليل مبني على أسس فكرية كأحمد عصيد مثلا الذي قد نتفق معه في بعض القضايا كما نختلف معه في أخرى، وبين عيوش مثلا الذي يخوض في الأمر بدون أي خلفية فكرية فيصبح الحديث عنه من باب التفاهة. تعدد القضايا اللغوية، وتعدد المشاريع الاقتصادية، ما بين الليبرالي والاشتراكي والإسلامي، من الأشياء التي يكون الخوض فيها من طرف المثقفين مصدر إغناء رغم اختلاف مرجعياتهم. فتوزع المثقفين في قضايا مختلفة ومتناقضة ضروري لأن حضورهم ضعيف في هذا المجال.
– لقد سمح تراجع دور المثف العضوي والحداثي الذي كان في السبعينات دينامو حركة التغيير والحريات، ببروز مثقفين ينهلون من المرجعية الدينية مما سهل عليهم اختراق النسيج الاجتماعي وبث ثقافة نقيضة للحداثة. ألا ترى أن التضييق على مسالك الفلسفة والسوسيولوجيا في الثمانينات كان سببا في هذه النتيجة؟
– الفعل الثقافي دائما فعل نقد وتشكك، والمثقف هو ضمير المجتمع وجرس إنذاره ،وهذا لا يعني أن يكون عدميا أو سلبيا ولكن حَذِرا ومهمته أن يجعل المجتمع بنفس درجة الحذر وألا يقبل شيئا إلا بعد التفكير والنقاش.
دور المثقف هو أن يبين قيمة الرأي وليس الحقيقة. فمالك الرأي لا يملك الحقيقة. المثقف يعلمنا النقد والحذر والاستماع وقبول الآخر. في المجتمعات الإسلامية ككل، يلعب الدين والماضي أهمية كبرى، ومن مهام المثقف أن يناقش الترتيب الزمني لمجتمعه. فمثقفو اليسار أعطوا دائما أهمية كبرى للتراث والدين والماضي، وكيفية التعامل معه مع التوجه للمستقبل دون أن نفقد شخصيتنا لاننا نعيش في زمن خاصيته هي التغير، ولهذا اشتغلوا على كيفية تأسيس مرجعيات جديدة في كل مرحلة دون التنكر للماضي وجعله جزءا من المستقبل ومن جملة من دافع عنها محمد عابد الجابري. وفي المغرب شخصيا أجد أن هناك حيفا يلحق بالمثقف المسلم العالِم، المرتبط بالمؤسسات التربوية والاجتماعية كالقرويين والذي كان منخرطا في عصره، والحامل للفكر السلفي الذي كان رديفا ودافعا للمشروع التحديثي للحركة الوطنية خاصة من داخل التيارات الدينية التي تم تعويضه بها والتي ترفض الرأي الآخر وتخوّنه.فبعد إغلاق شعب الفلسفة في فاس والرباط ومراكز العلوم الاجتماعية، في بداية الثمانينات وفتح مسالك الدراسات الإسلامية، حدث تغلغل للفكر الوهابي في الجامعة وجدت الدولة معه صعوبة في استرجاع المبادرة بعد الانتباه الى خطورة امتداداته، وذلك بالاعتماد على حساسيات إسلامية أخرى لكن هذه العملية أضرت بالمجتمع وخاصة الفئات الشعبية الفقيرة وضمنها النساء والشباب والأميون الذين وجدت هذه التيارات التكفيرية فيهم، ضالتها وأصبحوا يضعون بعض المفكرين الإسلاميين في موقع شبهة.