الدولة الوطنية والبعد الامبراطوري في ملكية محمد السادس -12- الامبراطورية الشريفة وجهاتها.. الحكم المباشر والحكم عن بعد!

 

كتاب «حياكة (خياطة) الزمن السياسي في المغرب: خيال الدولة في العصر النيوليبرالي..» للباحث والجامعي محمد الطوزي كتاب رفيع وتوثيقي وجد جريء في تقديم أطروحته العميقة حول الدولة المغربية. وهو عمل طويل النفس تطلب من الباحث والمفكر محمد الطوزي ورفيقته في العلم والتنقيب التاريخي بياتريس هيبو، ثلاثين سنة من العمل تخلله البحث الميداني والحوارات والقراءات في الوثائق والاحداث إلخ… ونزعم أن في الكتاب أطروحة متكاملة وبنيوية لتاريخ الدولة فيها عناصر لم يسبقه إليها أحد، حسب ما اطلعنا عليه من مقاربات بشكل متواضع طبعا وطبعا.

إن الفترة التي تهمنا هنا هي الفترة الممتدة من هزيمة تطوان (1860) وخضوع الإمبراطورية الشريفة لامتحان التماس مع الدول الوطنية ومواجهة المطامع الاستعمارية، أي اللحظة التي انتقلت فيها الإمبراطورية من وضعية” الكيان الضعيف” الذي يريدون فرض اتفاقيات تجارية غير متساوية عليه، إلى مجرد طريدة ! وقد اخترنا إبراز أنماط حكم المغرب في تلك الفترة انطلاقا من مثالين اثنين شبه متناقضين تقريبا. المثال الأول يتعلق بمنطقة تطوان ووضعها كـ «ثغر» (والمعلوم أن المدن الثغور أو المدن الثكنات مثل سبتة والعرائش أو آسفي، ليست فقط “رباطات- حصون” بل هي مدن معرضة لخطر الاجتياح، بما يرافق ذلك من عواقب بدءا من التنظيم السياسي والكفاءات المطلوبة في المسؤولين ووصولا إلى ممارسات الشعائر الدينية، وهناك مأثور إسلامي مبني على الآية 69 من سورة العنكبوت التي تقول (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ للَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ)..وعليه تأسس هذا التمييز المرتبط بوضع الاعتبار للمقاتل الذي يتمتع به سكان مدن الجبهة..) في هذه المنطقة من شمال الإمبراطورية المعتادة على مواجهة أوروبا، تتجسد فكرة الحدود في وجود البحر ولكن أيضا وبالأساس في وجود غيرية لا يمكن اختزالها وهي دولة المسيحيين، ويتبين من متن المراسلات الذي تم تحليله في الصفحات الموالية، طريقة حكم خاصة بالدولة الوطنية الممركزة، مع فهم محدد ترابيا ومباشر للفعل العمومي وسلطة أبعد ما تكون رمزية تنشغل بالامتداد الزمني والفضائي ولا تعاني من أي غياب.
فالدولة تصنع السياسات وتفرضها…(وحالة إدارة تطوان ليست مع ذلك قابلة للتعميم على باقي البلاد. ففاس، إبان ثورة الدباغين، تشهد على تدبير مشترك مع النبلاء وعمق السلطة البلدية). وهاته السياسات تغطي جوانب متباينة وتقتسم تصورا للنظام العام قريبا جدا من التصور الذي فرضته الحماية ابتداء من 1912.. وهذه الإدارة المبنية على التراتبية والتخصص، والمخول لها إجراءات ومساطر دقيقة ومعروفة، أبعد ما تكون عن «التنميطية» (والمقصود بها هنا ذلك الهوس والتكرار الحرفي للعمليات والقواعد)، ذلك المفهوم الذي صاغه ماكس فيبر لتمييز البيروقراطيات الماتريمونيالية التي يتم ربطها بها في غالب الأحيان. وتفضي تصوراتها للمسؤولية والإدارة إلى تحميل خدام الدولة مهام وظيفية وعدم اعتبار الجيش مجرد بقايا لجيش البخاري (والذي أسسه مولاي إسماعيل (1672 ـ 1727)، ويروي الناصري بأنه مكون من عبيد المنصور السعدي القدامى، وقد حدد عدده في 150 ألف جندي أقسموا على الوفاء للسلطان على …صحيح البخاري.)
والدولة حاضرة بقوة تتابع يوميا عمل موظفيها والملفات الموكول إليهم معالجتها وتضبط العمل عبر إصدار قواعد الصفقات أو صناعة الأسلحة. وما نسميه “‘السياسات العمومية” تستهدف ولا شك المجموعات كما في المناطق النائية من الإمبراطورية، لكنها تعتني أيضا بالأفراد، والشيء الوحيد المطلوب هو… الطاعة!.
أما المثال الثاني فيهم سوس ويعرض لتصور مخالف للسلطة يتميز بالحكم غير المباشر، والأفقية، وبلاغة التخاطب واللايقال(المسكوت عنه) والتفويض والإدارة عن بعد عبر تعبئة القبائل.. ويبرز بسوس حكم الأقاصي (وليس الحدود) هنا، تحكم الدولة المجال عبر تكليف الجماعات بالوسطاء وبواسطتهم تحارب التمردات، والمطلوب هنا ليس الطاعة بل الولاء. وهذا النمط في الحكم يتطلب مضاعفة الوسطاء ولا يشترط مسبقا الاحترام الممنهج للتراتبية .. والسلطة فيه يتم التفاوض عليها أكثر مما يحدث في الشمال والسياسات يتم إنتاجها بشكل مشترك، زد على ذلك أن نوعا من التخلي عن التضريب في عين المكان (بالموقع) مقبول لأن الضريبة تتم على الأبواب والموانئ ونقط الحراسة وتتم بالأساس لأن سلطة فرض الضريبة لا ينظر إليها باعتبارها التعبير الأسمى عن السيادة بمجرد أن يتعلق الأمر بالحكم على الأفراد أكثر من المجال الترابي.


الكاتب : عرض وترجمة عبد الحميد جماهري

  

بتاريخ : 05/04/2023