لا يتعامل باتريك موديانو مع الكتابة بوصفها حنينًا إلى الماضي، ولا كتمرين في استعادة زمن منقضٍ، بل باعتبارها اشتغالًا دائمًا على ذاكرة مقلقة، مشوشة، ومهدِّدة. فالتجربة التي شكّلت وعيه الروائي تعود أساسًا إلى سنوات شبابه الأولى، خاصة تلك الممتدة بين السابعة عشرة والثانية والعشرين من عمره، حيث عاش باريس الستينات بوصفها مدينة مضطربة، غامضة، ومشحونة بالخطر. كانت تلك الفترة، في نظره، غريبة ومليئة بالشغب، وقد ظلت تمثل المحرّك العميق لكتاباته، سواء بوعي أو من دونه، إذ تعود عناصرها باستمرار مثل الأحلام، دون أن تخضع لمنطق الاستدعاء الإرادي.
ارتبطت هذه الذاكرة بأماكن محددة في باريس، أحياء ظلّت حاضرة في أعماله لأنها تشكلت فيها تجارب قاسية وعصيّة على الفهم. فالحي الثامن عشر، ومونتسوري، والمدينة الجامعية، ليست مجرد فضاءات سردية، بل نقاط توتر في حياته الشخصية، ارتبطت بخمس سنوات بدت له كأنها «بئر سوداء». الأشخاص الذين كان يلتقيهم آنذاك كانوا يجرّونه إلى عوالم خطرة، وباريس نفسها كانت تعيش قلقًا عميقًا، إذ كانت على تماس مباشر مع حرب الجزائر، ومع مناخ عام يسوده العنف والخوف والمراقبة.
خلال تلك السنوات، لم يكن موديانو يدرس، وكان قاصرًا، يتحرك في مدينة تخيفه أكثر مما تطمئنه. بعض الأحياء الباريسية كانت مسكونة فعلًا بآثار الاستعمار وبأصداء حرب التحرير الجزائرية، وكانت اللقاءات العابرة في الشقق والمقاهي تقوده إلى أماكن مرتبطة برجال شرطة فرنسيين وجزائريين، وإلى شبكات بشرية تراقب كل شيء. هذه التجارب لم تُعش بوصفها وقائع واضحة، بل كحالات من الفزع والالتباس، وهو ما يفسر طبيعة الكتابة التي ستنبثق لاحقًا من هذا المناخ.
من هنا، يرفض موديانو بشكل قاطع اعتبار كتابته ضربًا من الحنين إلى الماضي. فالأشياء التي يستحضرها لا تبدو له جميلة أو مطمئنة، بل بعيدة، مزخرفة، ومشحونة بالتهديد. إنها ليست ذكريات مستقرة، بل شظايا تجربة ظلّت غير قابلة للتهدئة. ولهذا، فإن العودة إلى تلك المرحلة لا تتم من باب النوستالجيا، بل من باب المواجهة غير المباشرة مع ما ظل معلقًا ومقلقًا.
في هذا السياق، يطرح موديانو موقفًا نقديًا واضحًا من السيرة الذاتية الخالصة. فهو يرى أن الانتفاع من المادة الحكائية الشخصية بات أمرًا لا مفر منه، لكن بشرط أساسي: أن تُضخّ فيها جرعة كافية من التخييل. فالمعطيات الأوتوبيوغرافية، حين تُقدَّم عارية، سرعان ما تنقلب إلى اجترار نرجسي أو إلى محاولة انتقامية مبطنة. ويؤكد أن المرء لا يمكن أن يكون «مهذبًا تمامًا مع ذاته»، لأن الذات حين تكتب عن نفسها تميل إما إلى التجميل أو إلى المماحكة.
إن الصعوبة الحقيقية، في نظره، تكمن في استحالة أن يكون الإنسان مشاهدًا محايدًا لذاته: لا يمكنه أن يسمع صوته كما يسمعه الآخرون، ولا أن يرى نفسه من الخلف. لذلك، يصبح الكشف عن الذات أمرًا قسريًا، لا اختيارًا حرًا، وتغدو السيرة الذاتية الصرفة مشروعًا مصطنعًا، يفتقر إلى الشعرية، ما لم يمتلك طاقة جمالية استثنائية كما في أعمال نابوكوف أو شاتوبريان.
التخييل، في المقابل، يسمح بتحويل التجربة الشخصية إلى أفق مشترك، ويمنح النص قدرة على التواصل مع القارئ، وعلى إضفاء الدهشة والوميض على المادة الحكائية. فبدونه، لا يتجاوز النص كونه وثيقة خامًّا عن حياة شخص، شبيهة بتقرير بوليسي. لذلك، فإن «الأنا» التي تكتب في روايات موديانو ليست ذاتية بالكامل، بل «أنا» متخفية، يتسلل الكاتب إليها بطريقة حلمية، لا سردية مباشرة.
الكتابة، بهذا المعنى، لا تشكل طريقًا لاكتشاف الذات أو تعريفها، ولا تسعى إلى استبطان الهوية أو تثبيتها. إنها ليست بحثًا عن جواب لسؤال «من أكون؟»، بل اشتغال على ما يتعذر الإمساك به، وعلى مناطق العتمة في الذاكرة الفردية والجماعية. وهكذا، تتحول الرواية عند موديانو إلى مساحة يتقاطع فيها الشخصي والتاريخي، الواقعي والمتخيل، دون أن يدّعي أحدها امتلاك الحقيقة النهائية.


