الراحل إسماعيل عبد المومني في حوار سابق … كنا مكدسين في الغرف والممرات وفي المراحيض

ودعنا المناضل الصامد الصامت إسماعيل عبد المومني، يوم الأحد 24 يوليوز 2022، بعد مسار حافل بالعطاء في صفوف القوات الشعبية،
بتفان ونكران ذات.
رفيق الشهيد عمر بن جلون، والمناضل الكبير أحمد البوزيدي، والعديد من القادة والمناضلين، عمل مديرا لوزارة العدل لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، وهو مناضل حقيقي من طينة الكبار، حيث كان عضوا بالمجلس الوطني للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، رجل المبادئ والمواقف، ساهم في بناء حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية من خلال مساهمته في انتفاضة 1959 ثم الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية من بعده.
نظرا لمساره الكبير داخل القوات الشعبية، واعتقاله السياسي، نعيد نشر الحوار الذي أجراه الزميل عبد السلام بنعيسي في صيف سنة 2001 لفائدة جريدة «الأحداث المغربية»، والذي تم نشره في كتاب « ذاكرة الاعتقال السياسي حوارات ومسارات».

 

 السيد إسماعيل عبد المومني، في إطار الحوارات التي نجريها مع الذين عاشوا تجربة الاعتقال السياسي، نستضيفك اليوم باعتبارك واحدا ممن عاشوا هذه التجربة الأليمة، ونود أن نفتتح معك الحوار بتقديم تعريف موجز لشخصك، من هو السيد إسماعيل عبد المومني بالنسبة للقارئ الذي لا يعرفه؟

إسماعيل عبد المومني من مواليد دبدو إقليم وجدة، بتاريخ 12 يوليوز 1936، من بني يزنانس، بالمنطقة الشرقية، درست في نفس الثانوية مع المرحوم عمر بنجلون، وكنت معه في نفس الداخلية لمدة 4 سنوات، كنت مديرا سابقا لوزارة العدل لدى محكمة الاستئناف بالدار البيضاء، وتقاعدت بتاريخ 22 يونيو 1996، وعضو سابق بالمجلس الوطني للمنظمة المغربية لحقوق الإنسان، وكنت مديرا عاما لدار النشر المغربية ما بين 74 و 79، وعلى المستوى السياسي فأنا كنت من المشاركين في الانتفاضة الأولى لسنة 1959، التي أدت إلى بروز الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فقد كنت نائب الكاتب المحلي لفرع حزب الاستقلال بتاوريرت بنواحي وجدة، فلم يكن مقبولا في تلك الفترة، وأنا لا أتجاوز العشرين سنة، أن أصبح مسؤولا في حزب الاستقلال، لا سيما وأنني لم أكن قد عشت تجربة السجن.

 هل كان من الضروري المرور من السجن لتحمل المسؤولية داخل الحزب؟

بعد الاستقلال كان المقياس الأساسي لتحمل المسؤولية في حزب الاستقلال هو أن يكون المرشح لتحملها قد عاش تجربة السجن، فلقد كنت موظفا بالمراقبة المدنية واتهمت بتحريض أعضاء القوات المساعدة على الفرار لقمم الجبال للانخراط في المقاومة، وتم توقيفي عن العمل إلى أن حصل المغرب على استقلاله، ولكن مع ذلك كان أعضاء اللجنة التنفيذية لحزب الاستقلال حذرين من الشباب، فقد جاء عضو قيادي من الحزب للإشراف على الانتخابات التي جرت لاختيار أعضاء مكتب الفرع بتاوريرت، وترشحت لها وفزت فيها، أصبحت نائبا للكاتب المحلي للفرع، ولكنني صرت شبه مقصي من اجتماعات مكتب الفرع لأنني كنت عنصرا غير مرغوب فيه من طرف الكهول، لم أمكث طويلا في هذا المكتب إذ قدمت بعد 6 أشهر استقالتي منه، ولقد بعثت البرقية المتضمنة لاستقالتي للشهيد المهدي بنبركة الذي كان هو المعروف عندنا، لأنه كان كثير التحرك.
بعد أن تم نقلي في جهات متعددة للعمل بها لأنني كنت في نظر السلطة شخصا متنطعا، استقر بي الوضع للعمل في مدينة وجدة التي أسسنا فيها نقابة محلية تابعة للاتحاد المغربي للشغل لموظفي وزارة العدل، كنت الكاتب العام للمكتب المحلي لوجدة، وطلب مني الاتحاد المغربي للشغل الالتحاق بالدار البيضاء للعمل من أجل تأسيس جامعة لموظفي وزارة العدل.

 بعد هذه النبذة الموجزة عن حياتك، ماهو اليوم والشهر والسنة التي تم اعتقالك فيها، اعتقالا سياسيا؟

عشت اعتقالا واختطافا في نفس اليوم، لقد تم الاعتقال الأول الذي حدث يوم الاثنين 19 مارس 1973، على إثر الأحداث المعروفة بأحداث مولاي بوعزة، لقد خرجت كعادتي من محكمة الاستئناف، التي كنت أعمل بها كمدير جهوي لوزارة العدل، وذهبت في الساعة 12 زوالا للإعدادية حيث كانت ابنتي تدرسان بها، التحقت بهما لاصطحابهما إلى المنزل، بمجرد ما وقفت بسيارتي أمام باب الإعدادية، وقف أمامي رجال الشرطة، كانوا يلاحقونني وكنت أتوقع أن يتم اعتقالي، فلقد اعتقل قبلي عدد من الإخوة على رأسهم المرحوم عمر بنجلون، ومصطفى القرشاوي، ومحمد الحلوي، وعبد العزيز بناني، لذلك كنت أنتظر أنهم سيأتون لاعتقالي، لا سيما وأن الحزب كان يعيش حالات متلاحقة من القمع، فكل نشطاء الحزب وأعضائه وقادته كانوا معرضين للاعتقال في أي لحظة وأي حين، لذلك كنت أتوقع التعرض للاعتقال لاعتباري كنت مسؤولا حزبيا على المستوى المحلي.

 ماهي المسؤولية التي كانت على عاتقك؟

كنت عضوا في الكتابة الإقليمية للحزب وعضوا في اللجنة الإدارية التي أصدرت قرارات يوليوز 1972 والتي انعقدت في فاس، لقد كنت عضوا في اللجنة الإدارية المؤقتة، فبعد مجيئي للدار البيضاء سنة 1971، طلب مني الأخ عمر بنجلون أنا والأخ صلاح سعد الله أن نبحث عن مقر للحزب، وفي تلك الفترة، كان المواطنون يخافون من عواقب كراء منازلهم وعقاراتهم للحزب، فقمت بكراء دار في اسمي على أساس أنني سأسكن فيها، وفي الحقيقة كان صاحب الدار مقاوما سابقا، وشعر بأننا سنحول الدار إلى مقر حزبي، لكنه كان يبحث عن غطاء للموافقة، فاكترينا منه الدار التي تحولت إلى كتابة إقليمية، وأخذنا نشتغل فيها إلى أن جاءت سنة 1973.

 كان المقر الخاص بالكتابة الإقليمية مكترى باسمك، وكنت تتوقع الاعتقال في سنة 1973، ما هي الاعتبارات التي جعلتك تشعر بأنك مهدد بالاعتقال، فلا يكفي أن يقع اعتقال إخوة لك في الحزب لكي يشملك الاعتقال بالضرورة؟

ليست هذه هي المرة الأولى التي اعتقلت فيها سنة 1973، لقد تعرضت لاعتقالات كثيرة ومتكررة، حيث شاركت في حملة مقاطعة الدستور سنة 1962، وتوبعت أمام قاضي التحقيق، لقد كنت وقتها في الكتابة الإقليمية لمدينة وجدة، وشاركت في حملة لمقاطعة الاستفتاء على الدستور، لأننا كنا نطالب بتكوين لجنة تأسيسية تشرف على وضع بنود الدستور، وكنا في مواجهة مع السلطة، أنا وبعض الإخوة في التعليم من مفتشين ونائب وزير التربية الوطنية في وجدة، فلقد تم نقلهم، أما أنا فقد تم توقيفي عن العمل، وتوبعت جنائيا بتهمة المس بالمقدسات، والمس بالأمن العام.

 وجهت إليك تهمة المس بالمقدسات والأمن العام فقط لأنك كنت تخوض حملة لمقاطعة الاستفتاء على الدستور؟

كانت مدينة وجدة مقسمة في ما بيننا نحن أعضاء الاتحاد الوطني، وكان من نصيبي والأخ الدكتور النشناش بعض المناطق الحساسة، أي المناطق العمالية، جرادة وتويسيت، وكنا نتجول في الأسواق لشرح عيوب النص الدستوري، وكنا في الحقيقة نستعمل أثناء الحملة ألفاظا قاسية وحادة في التصدي لفصول الدستور، ومن ضمن هذه الفصول وراثة العرش، ففي سنة 1962، كنا نقول إن الدستور لا يوفر الضمانات الضرورية لكي يكون ولي العهد أهلا لتحمل المسؤولية.

 كان الحزب يطالب بتوفير مقاييس محددة في المرشح لولاية العهد؟

كنا في المقام الأول نطالب باللجنة التأسيسية وأن تكون منتخبة لأنها ستضع دستورا سيكون هو مصدر السلطة ومنبعها، وحين طرح الدستور وفرض علينا بدأنا نقول هذه هي عيوب الدستور وهذه هي علاته، ومن ضمنها أن الحكومة ستكون غير مسؤولة، وولاية العهد قد تؤول لمن لا يستحقها، وكنا نقول مثل هذا الكلام في الأسواق، لقد عقدنا تجمعا في مقر الاتحاد المغربي للشغل، وتناولت الكلمة في هذا التجمع، وانتقدت بحدة مشروع الدستور المقترح على الشعب ليوافق عليه، كما حدثت لي مشادة مع مولاي أحمد العلوي في إحدى القاعات السينمائية.

 مولاي أحمد العلوي الذي كان وزيرا في عدة حكومات؟

نعم مولاي احمد العلوي، لقد جاء إلى مدينة وجدة وعقد تجمعا بمساندة السلطة في إحدى القاعات السينمائية، لشرح فصول الدستور، ومن بين ما قال هو أنه يتحدي أيا كان لم يعجبه الدستور أن يواجهني أمامكم لأبين له ميزات هذا الدستور، وأفضاله، وكان بجانب عامل وجدة، وكان معي صديق مقاوم، الذي هو أحمد العربي المضرسي، فقلت له إن مولاي احمد العلوي يتحدانا فهو في عقر دارنا بوجدة، فاقترح علي أن نواجهه فوافقت فدخلنا إلى قاعة السينما، وأثار دخولنا ضجة وسط الحاضرين لأننا كنا معروفين بانتمائنا للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، فرفعت يدي وأعلنت عن استعدادي للتحاور والمواجهة مع مولاي أحمد العلوي حول فصول الدستور، بعد أن أنهى تدخله.

 أعلنت عن ذلك، رغم حضور العامل ورجال السلطة؟

كان العامل هو الجنرال عبد السلام الصفريوي، رحمه لله، وكان وقتها في رتبة كولونيل، أردت تناول الكلمة للرد على مولاي احمد العلوي، رغم حضوره، لقد كنا أصحاب كلمة حق ولا نهاب في قولها لومة لائم، وكانت قوتنا في صدقنا وصراحتنا.

 ماذا قلت لمولاي احمد العلوي لما تناولت الكلمة للرد عليه؟

بمجرد ما أنهى تدخله، انسحب وتبعه العامل وباقي رجال السلطة، ولم تتح لي فرصة الرد عليه، وفي اليوم الموالي لما ذهبت لعملي بالمحكمة، وجدتها مطوقة بالقوات العمومية، واعتقدت أن الأمر يتعلق بحدث ما وقع بشكل فجائي، فإذا ببعض الإخوة يفيدونني بأن وجود القوات العمومية هو بسببي ولمنعي من الدخول إلى المحكمة، لقد حدث هذا سنة 1962 ومنعت من الدخول إلى مقر عملي من دون أن يلقى القبض علي.

 لماذا لم يلق القبض عليك، ما الذي منع السلطة من اعتقالك؟

لم يكن لحظتها ميزان القوى في صالحها، ولم يكن يوفر للسلطة إمكانية اعتقال كل من تود اعتقاله، ولكنها كانت تستعد وتمهد لاعتقالنا استقبالا، لقد مثلت أمام قاضي التحقيق، وتم توفيقي عن العمل، وهكذا بدل أن أخصص ساعة أو ساعتين للحزب في اليوم، أصبحت مداوما في مقر الحزب لأنني كنت بدون عمل، وتوقفت عن العمل لمدة 8 أشهر لأنني كنت متابعا، فلقد جاءت برقية من القصر الملكي وليس من وزارة العدل تأمر بتوقيفي عن العمل وتأمر بمتابعتي قضائيا، ولما أصبحت متفرغا بشكل كلي للحزب أخذت السلطة تشتكي من نشاطي ومن تفرغي للعمل الحزبي، فأخذت وزارة العدل تستدعيني لاستئناف العمل.
وبعد أخذ ورد اتخذ قرار بعد متابعتي واشترطت استئناف عملي بالانتقال إلى الدار البيضاء التي كنت قد نقلت منها بشكل تعسفي إلى وجدة عقب إضراب 1961، وعرض على الانتقال إلى فاس التي مكثت فيها إلى غاية 1971، حيث كنت عضوا في كتابتها الإقليمية، وبعد المحاولة الانقلابية الأولى التي جرى فيها حديث عن إمكانية الصلح والتسامح، اغتنمت هذه الفرصة، وطلبت العودة إلى الدار البيضاء، وهذا ما وقع حيث عدت للعاصمة الاقتصادية بتاريخ 11 نونبر 1971.

 لنعد إلى حدث الاعتقال سنة 1973 ماهي الأجواء التي سبقت ورافقت حدث الاعتقال؟

ج: كنت على علم بأنني مراقب وقد أعتقل، لأنني كنت أخضع لاستنطاقات مستمرة حول تحركاتي وتنقلاتي، لقد كنا محاصرين من طرف أجهزة الشرطة، وكانوا يلاحقوننا أمام الكتابة الإقليمية والمنازل وفي الأسواق، فأنا كنت مسؤولا في الحزب، والمقر في اسمي وأنا في اشتغال دائم، ورفاق لي وقع اعتقالهم، لقد كنت أتوقع أنني سأعتقل في أي لحظة وحين، خصوصا بعد اندلاع أحداث مولاي بوعزة.

 أحداث مولاي بوعزة وقعت بالأطلس، بعيدا عن الدار البيضاء، لماذا سيقع اعتقال مواطن ينشط في حزب سياسي معترف به، بسبب أحداث وقعت في مكان بعيد جدا عن مجال نشاطه؟

السلطة كانت تبحث عن أي فرصة ممكنة لقمع الحزب والبطش بمناضليه، فالاتحاد الوطني للقوات الشعبية هو الذي كان يفضح تصرفات السلطة واستبدادها، وكان يطالب بالديمقراطية وبتعديل الدستور، وكان يحرج الحكم، لدرجة أننا كنا نسميه الحكم الفردي والاستبدادي والإقطاعي، فكل الألفاظ التي كانت تليق بالحكم كنا نستعملها في نعته بها، فالمغرب على امتداد تاريخه الحديث عاش وعرف اعتقالات كثيرة، فلقد اعتقل عبد الرحمان اليوسفي والفقيه البصري واتهما بأنهما تآمرا لاغتيال ولي العهد الحسن الثاني، فالجو السياسي في المغرب كان دائما محموما ويوحي بكل الاحتمالات، فأحداث مولاي بوعزة كانت فرصة بالنسبة للنظام لكي يشن حملة واسعة من الاعتقالات ضد جميع المناضلين الاتحاديين، فالنظام كان يعرف أننا نشتغل في إطار قانوني، بدليل أننا شاركنا في انتخابات سنة 1963، ولكنه كان يبحث عن الفرصة المواتية لضربنا فاغتنم وقوع أحداث مولاي بوعزة للقيام بذلك.

 هناك من يقول إن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية كان مكونا في واقع الأمر من جناحين: جناح يشتغل من أجل التغيير بهذه الطريقة التي تتحدث عنها، والتي كانت تتم في إطار القانون والشرعية، وجناح كان يحاول بجميع الوسائل تغيير النظام ولو اقتضى الأمر استعمال العنف، لقد كان الجناحان وجهين لعملة واحدة.

هذا أمر لا ننكره، لقد كان حقيقة لا غبار عليها.

 ما الذي يمنع السلطة من الاعتقاد بأنكم أنتم الذين كنتم تشتغلون في إطار الشرعية، كانت لكم بصيغة من الصيغ، علاقة أو صلة بالذين شاركوا في أحداث مولاي بوعزة وأنكم أنتم أيضا، كنتم تفكرون في حمل السلاح لتغيير النظام؟

كانت اجتماعاتنا علنية، وكانت مقراتنا معروفة، وكان البوليس على اطلاع بتحركات أي فرد منا، فكيف للبوليس الذي كان يتابع ما يقع في الخارج، ألا يكون على معرفة بما يجري في الداخل، فالمثل يقول من يريد أن يقتل كلبه يتهمه بالسعار، لقد كنا نجند جماهير الشعب المغربي ونسعى لتوعيتها لخوض المعارك الجماهيرية، فهذه هي وسيلة الحزب الفعالة التي اعتمدها طوال تاريخه من أجل إقرار الديمقراطية، وإرجاع سيادة الشعب للشعب من أجل تنفيذ ما كان قد وقع بين الحركة الوطنية وملك البلاد إذ ذاك محمد الخامس، فهذا كان هو إطار عملنا بصفة عامة.

 هل يعني هذا أنك أنت شخصيا مثلا لم يكن لديك أدنى تعاطف في سنة 1973 مع الذين حملوا السلاح في مولاي بوعزة؟

لا أخفيك أنه نظرا لأن النظام كان يحرمنا من جميع وسائل العمل، ولكنه كان يقمعنا ويكبتنا، كان من بيننا إخوان ارتأوا أنه ليس هناك من إمكانية للتعبير عن مطامح الجماهير سوى استعمال العنف، وفي هذا السياق كانت تقع مثل هذه الفلتات التي لا أخفي أنني كنت عاطفا عليها ومتعاطفا مع أصحابها، ولو كانت قد أتيحت لي فرصة الانخراط فيها لكنت قد قمت بذلك بدون تردد، لم يكن هناك أي خيار آخر، وفي إطار الهامش الضيق من الحرية كنا نحن نستغل هذا الهامش لفضح النظام ولتعريته.
كنا على علم بالاعتقالات، وكان بإمكاننا الإفلات منها، بل وقع الاتصال مباشرة بالأخ عمر بنجلون وطلب منه اللجوء للخارج تجنبا للاعتقال، وأذكر في اجتماع مشهود، قال عمر رحمه الله، بعد أن حاولنا إقناعه بمغادرة المغرب: لا يمكن لي اللجوء إلى فرنسا لكي أقضي أيامي في الشانزليزي أقرأ جريدة “لوموند”، لا سأظل في بلادي، وإن أرادوا قتلي أو اعتقالي ذلك في وطني، فعندما أرادوا قتل المهدي بنبركة، ألم يقتلوه في باريس، لذلك أرجوكم أن لا تطلبوا مني استقبالا مغادرة المغرب للجوء سياسيا في الخارج، لقد قال رحمه الله هذا الكلام في ما أظن ليلة اعتقاله.

 إذن كان هذا يفيد أن عمر بنجلون كان في متناوله مغادرة المغرب لوحده، واللجوء إلى الخارج سنة 1973 تجنبا للاعتقال، ماذا عن باقي الاتحاديين؟

ج: جميعنا كان في متناولنا مغادرة المغرب ليس فقط عمر بنجلون لوحده، بل ساعدنا بعض الإخوان على اللجوء إلى الخارج ممن رغبوا في ذلك، فأنا شخصيا ساعدت الكثير من المناضلين على مغادرة المغرب، لقد كنت أنقلهم بسيارتي من فاس إلى وجدة، ثم منها كانوا ينتقلون إلى الجزائر.

 البقاء في المغرب في لحظة يكون فيها محكوم على المناضل بالاعتقال وبالسجن لمدة طويلة، أليس من الأفضل له وللقضية التي يتبناها ويدافع عنها أن يغادر المغرب، ليعمل على تحقيق نفس الغاية من الخارج؟ أليس في بقائه داخل الوطن نوع من المغامرة بشخصه وبالتنظيم الذي ينتمي إليه؟

ج: كانت لنا رؤية أخرى للحزب وللنضال، لقد كان لنا انضباط للقرارات وللأهداف العليا للحزب عز نظيره، كنا نفتخر ونعتز بالموت والاستشهاد من أجل حركتنا الاتحادية، كانت كل جوارحنا مع الحزب، لا يمكن أن نقبل بعدم المواجهة، لم يكن واردا أن نغادر كلنا المغرب للجوء للخارج، فالحزب كان في حاجة لمن يظل في الداخل ويناضل مع الجماهير في صفوفها ويتحمل أعباء ضريبة النضال.

 لنعد إلى لحظة الاعتقال، عندما ألقي عليك القبض إلى أين وقع اقتيادك؟

ج: كما أشرت، طلب مني رجال الأمن أن أرافقهم من أمام الإعدادية فرفضت ودعوتهم للسماح لي باصطحاب ابنتاي إلى المنزل، وبعد ذلك سأرافقهم إلى أين يشاؤون، واشترطوا أن يتكلفوا بقيادة السيارة فوافقت، لقد كانوا ثلاثة، واحد تبعنا بسيارتهم والاثنان امتطيا معي السيارة التي قادها أحدهما، وركبت إلى جواره، في حين ركب الشرطي الآخر إلى جانب ابنتاي، وأمام منزلي توقفت السيارة التي كان يقودها الشرطي الثالث وركبناها، وطلبت من ابنتي أن تحضرا لي جلابيتي السوداء تحسبا للبرد، غير أن رجال الأمن لم ينتظروا عودتهما وانطلقوا بي لجهة ما، إلى أن وصلنا الى كوميسارية المعاريف.
وأظن أنهم أشعروا رؤساءهم بأنني اعتقلت، ومنها أخذت السيارة وجهة معينة، لقد وضعوا “البانضا” على عيني والأصفاد في يدي، ولم تتوقف السيارة إلا بعد أن وصلت مكانا ما، ولما دخلته، وجدت نفسي وكأنني في سوق عكاظ، ضجيج كبير جدا، فهناك من كان يئن وهناك من يتألم، والبعض يبكي، وأصوات للأطفال وللنساء، لم أفهم في البداية أين أنا وماذا يقع، ولكن أدركت فيما بعد أنها قبائل وأسر بكاملها جيء بها لأنها اتهمت بالمشاركة في أحداث مولاي بوعزة.

 هل أدركت المكان الذي كنت توجد فيه؟

ج: استنتجت أنني ربما في درب مولاي الشريف، ولكنني لم أكن متأكدا بشكل قطعي بأنني فعلا فيه، فالبانضا، كانت على عيني، وكنت مازلت أعيش على الدهشة الأولى للاعتقال، ومع الضجيج وبكاء الأطفال لم أستطع التركيز، ولكن بعد قضاء حوالي ساعتين في هذا المكان سمعت أصواتا تعرفت على أصحابها مثل بوشعيب رياض، رحمه الله، وعلى المانوزي وإقبال وتوفيق الإدريسي، والضابط لحسن امحراش، لقد كان الواقع مزريا، فالمكان ضيق والمعتقلون كثر، والازدحام شديد للغاية، كان يتهيأ لي وكأننا في القريعة.

 بكم تقدر عدد الذين كانوا معتقلين في درب مولاي الشريف خلال هذه الفترة؟

5000pp هو عدد الاتحاديين التي كانت التقديرات تقول بأنهم اعتقلوا في تلك الفترة بالمغرب، وفي ما يخص درب مولاي الشريف، فلقد كنا مابين 300 إلى 400 اتحادي، أقولها بدون مبالغة، كنا مكدسين في الغرف والممرات والزنازن وفي المراحيض.

كيف يكون النوم في مثل هذه الظروف؟

كنا ننام بشكل معكوس، رأس كل معتقل بمحاذاة قدمي المعتقل الآخر، وهكذا دواليك بالنسبة للجميع، ولكن مع ذلك في ظل هذه الأجواء تخلق روح ونفس للمقاومة، بالرغم من كل هذا القهر، تأقلمنا مع هذا الوضع، وأخذنا نسايره ونحاول في ظله أن نرفه عن أنفسنا، لقد كنا نحكي من تحت البانضا النكت، ونروي المستملحات لبعضنا ونتساند ونتآزر.

 متى بدأ استنطاقك؟

الاستنطاق كان يتم في الغالب خلال التعذيب، وبطبيعة الحال لايمكن للجلاد أن يعذب الإنسان في النهار، ففي مجمل الأحوال آلة التعذيب لا تشتغل إلا في الليل وبعد منتصف الليل فتلك الممارسات الوحشية لم يكن الجلادون يقومون بها إلا بعد أن يكونوا في حالة سكر شديد، حيث يفتقدون الوعي والإحساس والضمير، لا أظن أن الجلاد يستطيع أن يمارس التعذيب وهو في كامل وعيه، لأن الذي يكون يخضع للتعذيب يزعجه كل ما يصدر عنه حتى لو كنا مجرد أنين ناجم عن ألم فظيع، ثم كيف يمكن للجلاد أن يتعامل مع امرأة لها رضيع بين يديها، كيف ينتزعه ليمارس عليها التعذيب، لا يمكن بل من المستحيل أن يقوم بذلك، إن لم يكن فاقدا للوعي وللإحساس، كيف يمكن للجلاد أن يهدد معتقلا بإمكانية اغتصاب زوجته أمام عينيه، إن لم يعترف، إذا كان في كامل وعيه؟!
أشياء غريبة وحالات وقعت في درب مولاي الشريف لا يمكن أن تصدر عن إنسان عادي سواء من الجلادين أو من المعتقلين، فلقد كنت في زنزانة مع أخ من الأطلس اسمه محمد القاسمي، ومع بلقاسم وزان الذي اختفى إلى اليوم، والذي جيء به من فكيك، لقد كان واحدا من أفراد القوات المساعدة، واتهم بأنه كان يقوم بتسهيل دخول المناضلين من الجزائر، لقد التقينا به في درب مولاي الشريف عن طريق الصدفة، وفي أحد الأيام لاحظت أن الأخ توفيق الادريسي يجرح إصبعه ليخرج الدم منه، فلما سألته لماذا يجرح إصبعه، كان رده ماذا تريد أن أفعل لتزجية الوقت، فأنا أجرح إصبعي لكي أجد شيئا ما اتلهى به، وجوابا على السؤال المتعلق بمتى بدأ استنطاقي، فلقد انطلق الاستنطاق في اليوم الموالي.


الكاتب : حاوره الزميل عبد السلام بنعيسي (صيف سنة 2001 لفائدة جريدة «الأحداث المغربية»)

  

بتاريخ : 29/07/2022