يومه الثلاثاء، الذكرى الأولى لوفاة رفيق بن بركة وبوعبيد واليوسفي
تحل يومه الثلاثاء 26 مارس 2024، الذكرى الأولى لوفاة المناضل الكبير عبد الواحد الراضي، رجُل الدولة الذي ترك بصمات في الحياة السياسية والجمعوية، حيث كان من الرعيل الأول داخل مؤسسة البرلمان، الوحيد الذي انْتُخب وأُعيدَ انتخابُه منذ أول برلمان مُنْتَخَب سنة 1963 إلى اليوم. وهو أحد مؤسسي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1959 والاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية سنة 1975، الذي سيُصبح كاتبَه الأول سنة 2008.
رافَقَ عدداً من زعماء الحركة الوطنية والديموقراطية بينهم بالخصوص المهدي بن بركة وعبد الرحيم بوعبيد. كما لَعِبَ دوراً مؤثراً في صياغَةِ مشروع التناوب. وكفاعل ورَجُلِ دولةٍ، عُيِّنَ وزيراً أكثر من مرة في عَهْدَيْ الملِكَيْن الحسن الثاني ومحمد السادس. شَغَل منصب رئيس مجلس النواب لأكثر من عشر سنوات، وترأس عدداً من المنظمات والمؤسسات البرلمانية الأورومتوسطية والإسلامية والمغاربية، قبل أن يُنْتَخبَ سنة 2011 رئيساً للاتحاد البرلماني الدولي، وذلك في علاقاتٍ مواظِبَةٍ لم تَنْقَطِع مع نساء ورجال وشباب منطقته، سيدي سليمان، بصفته البرلمانية.
وغادرنا المناضل عبد الواحد الراضي، عن سن 88 عاما، بتاريخ 26 مارس 2023، وكان الراحل من رجال المغرب الكبار، كما كان شاهد عيان على أحداث سياسية محلية ودولية منذ ستينيات القرن الماضي.
وفي سيرته الذاتية بعنوان «المغرب الذي عشته»، يحكي هذا الكِتَابُ تَاريخَ المَغْربِ وتحولاته منذ ثلاثينيات القرن العشرين حتى المصادقة على دستور 2011 مروراً بالأحداث الكبرى والصراعات والتوترات التي عَرفَها المغرب المعاصر، والدور المتميز الخاص الذي لعِبَهُ الرَّجُل، خصوصاً على مستوى ترتيب العلاقة والحوار بين الملك الراحل الحسن الثاني واليسار المغربي بقيادة الراحل عبد الرحيم بوعبيد والأستاذ عبد الرحمن اليوسفي.
يقول الراضي : « إِنّني من جيلٍ شاءَتِ الأَقدارُ أن يَعيش تَطَوُّرَ المغرب السياسي المعاصر، منذ عهد الحماية إِلى اليوم. وقد عشنا هذه التطورات كمواطنين، وكملاحظين في فترةٍ مَّا، فأصبحنا في فتراتٍ أخرى أقربَ إِلى كبار الفاعلين، ثم لاحقاً أَصبحنا فاعلين. والمهم اليوم، ليس أَن نَسْرُدَ الأَحداث كأحداثٍ بل أن نُلقيَ الضوء على ما كان وراء تلك الأَحداث. ودائماً من موقع النَّظَرِ الشخصي، ومن داخل الذاكرة الشخصية. عليَّ أن أُشير إلى أنني أنتمي إلى هذا الجيل الذي عاش السنوات العشرين الأخيرة من الكفاح المكثف ضد الحماية الفرنسية التي فُرضَت على المغرب في سنة 1912. وفي سنة الاستقلال، 1955-1956، كنتُ قد بدأتُ دراستي الجامعية وكنت من بين هذه الفئة الشابة الأكثر التزاماً في العمل السياسي، النقابي والجمعوي متحملاً المسؤوليات في جميع المنظمات التي كنتُ عضواً فيها. وأتاح لي هذا الوضع أن أكون قريباً من كبار الزعماء والقادة وصُنَّاع القرار. وفي أقل من عَشْر سنوات بعد استقلال البلاد، وَجَدتُ نَفْسي عضواً في المجلس الوطني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية سنة 1962. وفي السنة الموالية، 1963، عضواً في أول برلمان منتَخَبٍ في المملكة. ومنذ هذه الفترة، كان عليَّ أَنْ أَتحمل عدة مسؤوليات من مستوى عالٍ، سواء على مستوى الأجهزة القيادية للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية أو على مستوى المؤسسات المنتخبة، التشريعية والتنفيذية، للدولة.عشتُ إِذن كفاعلٍ على أعلى مستوى المسؤولية، بدون انقطاع، على عَهْدَيْ مَلِكَيْن. فقد عَيَّنني جلالة الملك الحسن الثاني وزيراً للتعاون، ثم أميناً عاما للاتحاد العربي الأَفريقي، وذلك قبل أن أُنتَخَبَ رئيساً لمجلس النواب في نهاية عهده. كما عينني جلالة الملك محمد السادس وزيراً للعدل، وفي عَهْدِهِ خدمتُ بلادي كرئيس لمجلس النواب خلال فترة تتجاوز عقداً من السنين. وفي العَهْد نَفْسِهِ، خدمتُ الديمقراطية على المستوى الكوني من موقعي كرئيس للاتحاد البرلماني الدولي، وأُواصِلُ تمثيلَ دائرتي الانتخابية حتى اليوم. خلال عدة عقود، تحملتُ مسؤوليات كبرى في قيادة حزبي الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية، كعضو في المكتب السياسي بقيادة المرحوم عبد الرحيم بوعبيد، ثم بقيادة سي عبد الرحمن اليوسفي، وفيما بعد ككاتب أول بالنيابة إلى جانب سي محمد اليازغي. وأخيراً ككاتب أول للاتحاد الاشتراكي.
المسار الطفولي لعبد الواحد الراضي
وُلدْتُ في مدينة سَلاَ في سابع رمضان 1935، وكان بيتُنا في سَانْية مَعْنينُو. كانت الوالدة، زَيْنَبْ بنت الحاج المختار أَمَلاَّسْ (اسم إحدى العائلات الفاسية العتيقة ويدل على أصلها الريفي الأمازيغي)، قد أنجبت طفلاً قَبْلي، لكنَّه لم يَعِشْ فأًصبحتُ طِفْلَها البِكْر، عِلْماً أنَّ والدي كان قد تَزوَّجَ من قبل. ولذا، كان لديَّ إِخوة وأَخوات غير أشقاء. أَما الأَشِقَّاء فَكُنَّا ثلاثة، عبد العزيز (أستاذ في كلية الطب مختص في الغُدَد)، أخي الأَصْغَر وأختي نُفيسَة وأنَا. وعَليَّ أن أشير إِلى أن والدي سليل منطقة بني احسَنْ الغَرْبْ (سيدي سليمان) كان قد تَزوَّج والدتي المنحدرة من مدينة فاس، ولذلك حكاية ينبغي أَن أَسْتَحْضِرَها في هذا السيَّاق.
لقد وُلدتُ في مدينة سلا لأن والدتي رحمها الله كانت قد فقدت طفلها الأول أثناء ولادته في البادية. ولذا أصرت أثناء حَمْلِها الثاني أن تتم الولادة في المدينة. إذن، وسط دوار الدّْوَاغَرْ – لَلاَّيِطُّو من قبيلة الصّْفَافْعَة، ضمن اتّحادية قبائل بْني احْسَنْ في العُمْق القرَوي، بدأَتْ خطواتي الأولى.
الراضي كاتبا أول للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية
بالنسبة إِليَّ، لم أكن أفكر في ترشيح نَفْسي إِلى مسؤولية الكاتب الأول، وذلك بالنظر إلى المناخ الذي كان سائداً. ما كنتُ حريصاً عليه أساساً أن أسهم في أن ينجح الحزب في تجاوز أَعطابه ويواصل طريقه. ثم فَاجأَني عدد من الإِخوة والأَخوات الاتحاديين، وبينهم عددٌ وافر من الشباب، بزيارة إِلى بيتي في الرباط، وحدثوني عن رؤيتهم للمرحلة التي كان يجتازها الحزب، والتي اعتبروها خطيرة جدّاً، وبالتالي، «ينبغي أن يتحمل مسؤولية إِدارتها مناضل يمتلك بعض الميْزَات لا نراها في غيرك، وعليك أَنْ تُرشِّح نَفْسَك». وأَسوقُ هذا الكلام من باب التدقيق لا من باب مَديحٍ مَّا للذات. وتبادلنا الأَفكار والأبعاد، وطلبتُ أن يمهلوني لفترة قصد التفكير في هذا الموضوع الذي كنتُ قررتُ، مبدئياً بيني وبين نفسي، أَلاَّ أُفَكِّر فيه.
لماذا كان عليَّ أن أفكر؟ ببساطة، لأنني لم أكن أنتمي إلى أي مجموعة، ولم أكن أَتوفر على أي شبكة خاصة بي داخل الحزب، ولم تكن معي، لا بجانبي ولا من خلْفي، جماعة من الحزبيين. فقد كنت دائماً ضد المجموعات والشبكات والحلقيات الحزبية. وأَذْكُر أن بعض الإِخوان حين كانت الصحف تسألهم عن المرشَّحين المحتَملين وضمنهم عبد الواحد الراضي، كانوا يجيبون بأن «الراضي ليست له امتدادات تنظيمية»! وفي المقابل، بدأتُ أتوصل بعدد وافر من المكالمات الهاتفية، وتتم اتصالات مباشرة معي كان المناضلون يتخذون فيها المبادرة، وكانت تتجه صوب إِقناعي بالتَّرشُّح، وبأنني لَسْتُ فرداً مفرداً داخل الحزب بل فرد بصيغة جمع، إِنْ صَحَّتِ العبارة.
في تلك الفترة زارني عبد الحميد اجمَاهْري الذي طَلَب مني إِجراء حوار صحفي لجريدة «الاتحاد الاشتراكي» حول أشغال البرلمان والوضعية السياسية العامة. أجرينا الحوار، وعند نهايته فاجأني بالسؤال، هل سَأُرشِّحُ نَفْسي إِلى الكتابة الأُولى؟ واكتفيتُ بأن أجبتُه أَنَّ بعض الإِخوان زاروني واقترحوا عليَّ أن أُرشِّح نَفْسي، بلا زيادة وبلا نقصان.
والواقع أن الحجة الأساسية لهؤلاء الإخوة الذين زاروني هي أن تَرَشُّحي هو الوحيد الذي كان يمكنه أن يضمن وحدة حزبنا.
نُشرَ الحوار في الجريدة فعلاً، وقُرئ الخَبَر الذي أَسْرَرْتُ به تقريباً بصيغة أَن «الراضي يُعلِن ترشيحه رسميّاً». وهكذا بدأَت ترشيحات الإِخوة الآخرين. ثم سَعَى بعض الإِخوة إِلى تجميع الإرادات في إِرادة اتحادية مُوَحَّدة، لكنهم أَخْفَقُوا في آخر المطاف ولم تثمر جهودهم الخيِّرة عن نتيجة إِيجابية.
وكان عليَّ أَنْ أمتَثِل لإِلحاحات عدد وافر من الإِخوان، تقديراً لدقة الظروف وخطورتها التي كان يعبرُها الحزب، ولكوني قَضيتُ حياتي داخله حَدَّ التماهي، فأصبحتُ جزءاً لا يتجزأ من هذا الحزب وهو جزء لا يتجزأ مني، وأن عليَّ ألاَّ أتهرب من مسؤوليتي ومِنْ قَدَري، وقررتُ أَن أُرشِّح نَفْسي حالما انعقدت الدورة الثانية للمؤتمر.
وكانت تلك هي المرة الأولى في مساري السياسي التي دَخَلْتُ فيها منافسة مع أعضاء من أسرتي السياسية، وذلك خلافاً لجميع المناسبات السابقة التي كان الحزب هو الذي يرشِّحُني لموقع أو مسؤولية أو مَهمَّةٍ نضالية. أبداً، لم يسبق لي أن كنتُ مرشحاً من تلقاء نَفْسي، على أي مستوى كان، حزبياً أو غيره. فقد كنتُ دائماً أمتثل لإِخوتي حين كانوا يطلبون مني ذلك.
فُزْتُ إِذَن في هذا الانتخاب وأصبحتُ كاتباً أولَ للاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية في 8 نونبر 2008.
علاقته بالملك محمد السادس
عَلِمتُ بخبر ميلاد ولي العهد سيدي محمد خلال إِقامتي القسرية في زنازن كوميسارية درب مولاي الشريف بالدارالبيضاء، في إثر الاعتقالات الجماعية التي شملت القيادة الاتحادية ضمن ما سُمِّي آنذاك بـ«مؤامرة يوليوز 1963»، غداة عملية تعذيب وحشية تعرضتُ لها طوال الليالي التي سبقت ميلاد الأَمير.
ابتداءً من بداية الثمانينيات، منذ أن التحقتُ بمعية أخينا عبد الرحيم بوعبيد، بالحكومة، أصبحتُ أرى أكثر، وعن قرب، سمو الأمير ولي العهد الذي كان دائم الحضور إِلى جانب والده الملك الحسن الثاني في مختلف المناسبات الكبرى.
وقد صادَفَ تعييني كأمين عام للاتحاد العربي الأَفريقي الفترةَ التي كان يهيء فيها سمو الأمير بحثه الجامعي لنيل الإِجازة في الحقوق، إِذ اختار كموضوع لبحثه تجربة الاتحاد العربي الأَفريقي. وقد أَشرتُ إلى أنني استقبلت لهذا الغرض، بمقر وزارة التعاون، السيد رشدي الشرَايْبي الذي جاء بِاسْمِ سمو الأمير يبحث لديَّ عن الوثائق اللازمة التي كنتُ أَتوفر عليها لإنجاز هذا العمل الجامعي، وكانت الابتسامة تعلو وَجْهَ سي رشدي مُبْدياً قَدْراً ملحوظاً من التهذيب والعناية والامتنان.
ستُتَاح لي الفرصة لأحظى بمرافقة سمو الأمير في بعض المناسبات التي مَثَّلَ فيها والده، أذكر منها بالخصوص حين حضرنا مراسيم جنازة الملك الراحل الحسين بن طلال، عاهل المملكة الأردنية الهاشمية (1935-1999) . كما صاحبتُه إلى القمة العربية التي انعقدت في الأردن كذلك.
وكان سمو ولي العهد، خلال جميع أَسفاره الرسمية، يُبْدِي جانباً إِنسانياً تُجَاهَ مرافِقِيه جميعاً، ويهتم بظروف سفرهم وراحتهم. ونفس الشيء كنتُ ألْمسُه أيضاً لدى صِنْوِهِ سمو الأمير مولاي رشيد، ما يَدُلُّ على أنهما معاً تخَرَّجا من المدرسة نَفْسِها.
قبل أن أصبح رئيساً لمجلس النواب، وأَثناء تلك المرحلة، كنتُ في أحيان كثيرة وفي مختلف المناسبات الرسمية، أُدْعَى إِلى مائدة ولي العهد. وخلال الوجبات، كان يتخذ المبادرة لفتح النقاشات حول بعض المواضيع الهامة والمختلفة مثل التعليم، الاقتصاد، الفلاحة، وكذا حول بعض القضايا الدولية مراعياً طبيعة واهتمامات جلسائه في المائدة. ولاحظتُ أن تحليلات سُمُوه كانت متلائمة. كما كانت أسئلته الدقيقة تَبِينُ عن معرفة بالمواضيع التي كان يتحدث فيها والاهتمام الذي كان يُبْديهِ تُجَاهَ كُلِّ ما كان يَهُمُّ المغرب داخلياً وخارجياً.
لَكَمِ التَقَيْتُ، خلال عدة عقود، سمو الأَمير في مناسباتٍ مختلفة، وبالخصوص خلال اللقاءات التي كانت تتم في ملاعب الغولف، في مختلف المدن –داخل الرباط أو خارجها، إِلى جانب والده الملك الحسن الثاني. وكنتُ ألاحظ أن حُضُورَهُ كان متحفظاً (très discret). مثلما كان مهذَّباً في تعامله.
وكنتُ أُدْعَى بانتظام من طرف جلالة الملك الحسن الثاني لحضور مختلف الاحتفاليات الخاصة بسمو الأمير، نهاراً في الاحتفالات الرسمية ومساء في الاحتفالات المحدودة. وبما أن ميلاد سمو الأمير كان قد تَمَّ في شهر غشت 1963، فغالباً ما كانت تنظم تلك الاحتفاليات في القصر الملكي بالصخيرات. كما شاركتُ في حملات الصيد الملكية إِلى جانب الملك الحسن الثاني، كما سَبَقَتِ الإِشارة إِلى ذلك، وكنتُ دائماً –عند الاصطفاف في مسارب الصيد- أَحظى بمكانٍ مُحاذٍ لأمكنة الأميرَيْن سيدي محمد ومولاي رشيد اللذين كانا يرميان في اتجاه الطرائد التي كانت تَعْبُر أولاً من جانبهما من حيث لم يكونا يتركان لها الحظ كي تصل ناحيتي، حيث كنت أُوجَد.
من الناحية المهنية، كان جلالة الملك الحسن الثاني، في كثيرٍ من الأحيان، يحرص على حضور وإِشراك ولي العهد في جلسات العمل التي كان عَليَّ أن أَحضرها مع جلالة الملك مع الجماعة أو على انفراد. وكنتُ أحظى بامتياز تبادل لحظات العمل، مع سمو الأَمير، بل واقتسمتُ معه لحظات الأَلم والحزن، خصوصاً حين توفي والده الملك الحسن الثاني رحمه الله.
وسأعود أَيضاً، يوم 30 يوليوز 1999 بعد مرور أسبوع على رحيل الملك الحسن، ضمن قلة من المدعوين، معظمهم كانوا رؤساء المؤسسات الدستورية، وذلك لأَحضر اللقاء المخصص لإِلقاء خطاب العرش، وهي المرة الوحيدة في ظني التي تَمَّ فيها ذلك.
ومع جلالِ اللحظة وجِدَّتها، كان محتوى الخطاب أكثر لفْتاً للانتباه. أَكَّد جلالة الملك على سي عبد الرحمن اليوسفي كوزيرٍ أَول، وأَعلن عن تَشَبُّثِهِ بنظام الملكية الدستورية، بالتعددية الحزبية والليبرالية الاقتصادية (اقتصاد السوق) والجِهَوية واللاَّمركزية، بناء دولة القانون، الدفاع عن حقوق الإنسان، حماية الحريات الفردية والجماعية، وهي الاختيارات والتوجهات الكبرى لعهده.
وقال جلالة الملك إِنه يريد أَنْ يَلْعَبَ دور الحَكَم والتوجيه، وسيعمل على استكمال الوحدة الترابية. كما اختار للمغرب نهج التقدم والحداثة، وأن يَنفتح مغرب القرن الواحد والعشرين على الآخرين منخرطاً في أفق العصر، متعايشاً مع الإِنسانية عبر تَعَدُّدها الحضاري والثقافي والديني. وإِضافة إِلى إِلحاح الخطاب الملكي على قضايا التعليم والتشغيل ومحاربة الفقر، جدد أفق التضامن مع العالم العربي والإسلامي على أَساس اقتسام قيم الانفتاح والتعايش. وجرى التأكيد على انخراط المغرب في المصادقة على المواثيق الدولية لحقوق الإنسان، وفي بناء المغرب العربي الكبير، والتعاون مع أوروبا وأمريكا والقارة الأفريقية.
على ضوء هذه التوجهات والاختيارات الأساسية، استنتجت شخصياً، بكل ارتياح، بأن معجم وقيم جلالة الملك محمد السادس، المتضمنة في خُطَبِه، هي نفْسُها القيم والمفاهيم التي نجد أنْفُسَنا فيها تماماً.
وهَمَّني أَيضاً إِشارات جلالة الملك إِلى القضية الفلسطينية ومشكلة الشرق الأَوسط متمسكاً بضرورة إِنشاء الدولة الوطنية الفلسطينية، مناصراً قضايا السلم والعدل والإنصاف على المستوى الدولي، ومواجهة مناطق التوتر في العالم ومظاهر الفقر والإقصاء، وحَرِصَ الخطابُ على التشبث بالقيم الكونية ونهج الحكمة والاعتدال والتبصر.
وبوفاة المناضل الكبير سي عبد الواحد الراضي يكون المغرب قد فقد أحد رجالاته الكبار الذي ترك بصمات واضحة طيلة مساره الفكري والسياسي والاجتماعي، وكان رجل إجماع داخل مكونات الطبقة السياسية عموما ووسط رجالات الدولة منصتا ومدافعا عن الوطن وقضاياه المشروعة في المحافل الدولية. رحم لله سي عبد الواحد الراضي وأسكنه فسيح جناته.