أكتب الوجود الفلسطيني لأحفظ تاريخا يذوب رويدا رويدا
الشعار لا يصنع حياة، وما يحدث بغزة إبادة عرقية صافية
تجمع شتات الكلمات كي تكتب عن شتات شعب. من «شرفة الفاكهاني» أطلت على «نجوم أريحا» وهي تضيء سماء ذاكرة أتعبها الترحال والإقامة طويلا في قعر اليأس. وعندما عادت إلى»أرض السلحفاة» بعد 26 سنة من الغياب عن الأرض والناس والمكان، اكتشفت أن هذا الغياب جعل العائدين من المنافي يدخلون «الخيمة البيضاء» حالمين بوطن افتراضي، ليكتشفوا أن جزءا كبيرا من الوطن يقتله الغياب، وأن «سماء واحدة» لا تكفي ليغرد طائر الوروار وينثر نشيد الحرية فوق المآذن والكنائس.
ليانا بدر، الروائية الفلسطينية والمخرجة السينمائية والصحافية ابنة القدس، تحكي في هذا الحوار مع «الملحق الثقافي» عن سردية الوطن الكبرى حين تنكتب بدماء الشهداء ودمع الأطفال، عن الأدب وصيانة الذاكرة، عن كتابة الوجود الفلسطيني لتحفظ تاريخا يذوب رويدا رويدا. كتابة تتجاوز فيها صورة الفلسطيني الفدائي إلى جموع الناس وحيواتهم البسيطة وقصصهم المنثورة بين ثنايا اليومي، عن الخبز والوطن والحب والحرية والعودة وعن» حلم لا يجيئ».
التقيناها خلال فعاليات منتدى أصيلة في دورته 44، فكان لنا معها هذا الحوار.
1p أي حديث اليوم لا يمكن أن يقفز على سردية كبرى سوداء اسمها «فلسطين» تنكتب أقسى فصولها بدم الأطفال والشهداء. كيف تقرأين كإنسانة وكروائية، ما يحدث؟
n هذه السردية من أكبر مشاكل العصر الحديث لأن الدول الكبرى تواطأت على منح الأرض الفلسطينية إلى من هم في عداد المستعمرين من أجل مصالحها فقط. ومنذ 1948 لا يزال الشعب الفلسطيني يدفع بالعديد والعديد من الأثمان والشهداء.
لا أستطيع التنبؤ بما سيحصل، لكنني أعرف أن الشعب شجاع وبطل، وأنه عانى وسوف يعاني، ولكنه لن يهزم أبدا.
p أخلصت في كل كتابتك الروائية للقضية الفلسطينية في كل ارتحالاتها : في الداخل في المخيمات، في المهجر. هل يمكننا الحديث عن مشروع روائي قائم على كتابة التاريخ الفلسطيني؟
n نعم أنا أشتغل حسب مفهوم المشروع الروائي. لا أود الخروج بنتاجات متفرقة لا يربطها جامع. أحاول كتابة التاريخ الفلسطيني بعيون النساء، لأنهن لعبن دورا كبيرا وكن دائما في أدنى الصورة أو غير ظاهرات فيها. الرواية دائما تعطى للرجل، لذلك في كل رواياتي تأخذ المرأة موقع البطل/الضد. كثيرا ما جرت قصص وروايات في الحياة الفلسطينية ولم تسجل إلا من قبل البعض ممن عايشوا الوضع الرسمي، وظلوا يكتبون عن صورة الفدائي، وحده، بمعزل عن جموع الناس وفئاتهم. في رواياتي، تجدين كل صور الفلسطينيين، بكل تمثلاتهم وأطيافهم وأصواتهم.
ربما هذا ما جعل مشروعي منفتحا، دوما،على هذا الوضع التاريخي، بالإضافة إلى أن الكتابة في مجال صعب مثل هذا تحتاج بحثا ورصدا دائمين، وتظل من أصعب العمليات التي تتعرض لها الرواية.
سؤال وهاجس واحد هو ما يوجه كتاباتي هو: كيف يمكن أن أكتب حياة الناس الاعتيادية وتراثهم وقصصهم وذائقتهم وأشكال نضالاتهم لكي يقرأها العالم، وليعرف أن ثمة بشرا لن يكفوا عن النضال إلا إن حازوا دولتهم الحرة.
p إلى أي حد يمكن للرواية أن تحفظ حياة الناس والتاريخ؟
n أحاول أن أكتب الوجود الفلسطيني، بإشكالياته وإيجابياته وتعقيداته، لكي أحفظ تاريخا يذوب رويدا رويدا.
في روايتي «بوصلة من أجل عباد الشمس» تطرقت إلى مرحلة معروفة ومهمة في تاريخ القضية الفلسطينية، وأعني حادثة خطف الطائرة ( أو عملية الرحلة 840 بمقديشيو التي قام بها الكوماندوز الفلسطيني ليلى خالد وسالم العيساوي في 29 غشت 1969)، تطرقت إلى هذه الحادثة وارتباطها بالنكبة، وتجريد الفلسطينيين من هويتهم وأرضهم.
في مجموعتي القصصية «شرفة على الفاكهاني» رويت قصصا عن حياة الفلسطينيين في المخيمات الفلسطينية في لبنان وسط القصف الإسرائيلي وعذاب البقاء . وفي رواية «عين المرآة»، وصفت مرحلة مهمة ما بين 1973 و1976 وما كان يجري خلال الحرب الأهلية اللبنانية ، وكيف عاش الفلسطينيون داخل المخيمات تأثيرات هذه الحرب بعد الهجوم على مخيم تل الزعتر وإبادته، ودخلت الى تجربة إبادة الفلسطينيين في مخيم تل الزعتر، وروايتي القادمة، التي هي قيد الطبع، تتعرض لمرحلة ما بعد تل الزعتر حتى الحرب اللبنانية عام 1988 .
في مجموعتي «سماء واحدة» كتبت عن قصص حدثت خلال الاجتياح الإسرائيلي لرام الله والضفة الغربية، كما كتبت في رواية «نجوم أريحا» قصة الشتات الفلسطيني في 1967. وعندما كتبتها كنت أعيش خارج فلسطين، في تونس، وكنت أعاني من أشواقي للعودة متمثلة في أريحا التي عشت فيها جزءا من طفولتي ومثلت لي رمزا للتعددية للتسامح والجمال.
في ما بعد العودة إلى فلسطين في 1994، كتبت رواية» أرض السلحفاة» وهي تكملة لرواية نجوم أريحا» وتروي قصة العودة العكسية الى إريحا وليس الخروج منها. كتبت أيضا «الخيمة البيضاء» وتحكي عن عودة الغائبين الفلسطينيين الى منطقة غريبة عنهم لكنها وطنهم الأم، عن غربة الداخل، والمشاكل العديدة التي واجهتهم بفعل التحولات التي شهدها المجتمع الفلسطيني خاصة مشاكل الانصهار داخله. هذا إذن مشروع متكامل أحاول متابعته ويسلتزم البحث والدراسة.
p كيف تقرأين الأدب الفلسطيني اليوم، والرواية خصوصا، في ظل المتغيرات الداخلية وعلى ضوء الوضع ما بعد اتفاقات اوسلو؟ وهل لايزال مفهوم أدب المقاومة صالحا روائيا وواقعيا؟
n لا أؤمن بأن الأدب يقود الناس الى المقاومة، بل أؤمن بأن الكاتب يتبع شعبه حين يقاوم. كما أن المفاهيم وحدها لا تصنع شيئا، ما يصنع مادة الرواية هو ما يعيشه الشعب.كفى من الشعارات المزيفة التي لا تجد طريقها إلى التحقق.اليوم انتهت هذه التوصيفات. هناك مقاومة وهي التي تدفع الى الكتابة.
الشعار لا يصنع حياة، بينما الحياة تشكل الكتابة.
p أنت تكتبين من الداخل عن الداخل، وهذا مصدر إغناء لتجربتك الكتابية عموما التي توجد لحظة الكتابة في تماس وتماه مع لحظة ومكان الفعل. هل يمكن أن نتحدث عن سردية فلسطينية تكتب من الخارج بنفس العمق؟
n شخصيا ، أرى أن لكل كاتب وكاتبة موضوعاته المفضلة. يمكن لأي كاتب أن يكتب تجربته الفلسطينية، من أي موقع ومن أي مكان. ما يحدد الفرق هو: ما مفاهيمه وما يريد
إثباته لأننا نرى العديد من الروايات الجيدة والمكتوبة بلغات أجنبية لكتاب فلسطينيين أو فلسطينيات خارج فلسطين.
كل روائي له مشروع مختلف. البعض يكتب عن موضوعة العائلة الفلسطينية في الخارج، وآخرون عن السياسة، فيما روائيو الداخل يكتبون عن هموم هذا الداخل وعن الحياة اليومية. المهم هو جودة الكتابة وتكريس الذات للخروج بالنتيجة الأدبية الأحسن.
p الإعلام العربي اليوم ظاهريا يبدو أنه يتجه إلى استقلالية تضمن له المهنية ومواجهة تزييف الحقائق والتاريخ. بحكم اشتغالك في الصحافة، ماهي أهم مداخل نحو إعلام عربي قوي في هذه الظرفية التي تتسم بضغط الصورة؟
n لا يمكننا تضخيم الأمر. برأيي إن وسائل التواصل الاجتماعي غيرت فكرة تناول المادة الخبرية عند القارئ بكل بساطة. وهذا ليس نابعا من إرادة القائمين والعاملين في الإعلام العربي. ما يجري اليوم من ثورة تكنولوجية تحتضنها البشرية بكاملها، يفسح المجال لكي تهرب وتخرج أصوات لم نكن نسمعها من قبل.
الثورة التكنولوجية غيرت الصورة، وما يتبعها مجرد تفاصيل. الفرق يكمن فقط في أن هذه الثورة جعلت إيصال الصورة أسرع وأسهل، ومن ثم تعميمها وتعميم رأي حقيقي عن الواقع، وليس ما يفرض من الخارج.
نعم هناك تزييف بالنسبة لحرب غزة على كل شيء. إذ كيف يمكن للقوى الكبرى بالعالم أن تقبل بقتل الأطفال بالمئات يوميا، فقط لتقوم بعقاب جماعي لشعب كامل. هذه فرصة لقوات الاحتلال لإبادة عرقية. وهذا التسامح الدولي مع سياسة قتل المدنيين، أعتبره إبادة عرقية صافية كشفت عن وجه الغرب القبيح الذي يعتبر أن الإنسان العربي مجرد عبد في حظيرته. وهذا العقاب المرعب لأطفال أبرياء يموتون يوميا تحت أنقاض المنازل، وقد يعيش البعض منهم دون حماية ودون عائلة وتحت وطأة الخوف والصدمة .هذا هو عار أمريكا وأوربا اليوم، الذي سوف يحاسبهم التاريخ عنه مستقبلا.
ولدت الروائية والقاصة والمخرجة ليانة بدر في القدس سنة 1950، وانتقلت مع عائلتها إلى أريحا، حيث كان والدها يعمل طبيبًا، ثم نزحت الأسرة إلى الأردن بعد الاحتلال الإسرائيلي سنة 1967، حيث التحقت بالجامعة الأردنية، لكنها لم تستكمل دراستها بها، ثم التحقت بجامعة بيروت العربية حيث حصلت على شهادة الليسانس في علم النفس العام.
عملت ليانة بدر صحفية في بيروت بين عامي 1975 و1982، وتزوجت من السياسي الفلسطيني ياسر عبد ربه، وانتقلت معه للعيش في دمشق حين خرجت منظمة التحرير الفلسطينية من بيروت سنة 1982، ثم انتقلت معه إلى تونس، قبل أن يستقر بهما المقام في رام الله سنة 1994.
من أعمالها الأدبية:
في الرواية:
بوصلة من أجل عباد الشمس (1979)
عين المرآة (1991)
نجوم أريحا (1993)
الخيمة البيضاء (2016)
في القصة
قصص الحب والمطاردة (1983)
شرفة على الفاكهاني (1983)
أنا أريد النهار (1985)
جحيم ذهبي (1992)
سماء واحدة (2007)
قصص أطفال
رحلة في الألوان (1981)
فراس يصنع بحرًا ( 1981)
في المدرسة ( 1983)
مجموعات شعرية
زنابق الضوء
زمن الليل
أقمار
في السينما:
«فدوى حكاية شاعرة من فلسطين»
«زيتونات»
«الطير الاخضر»
يوميات حصار كاتبة
«مفتوح مغلق»