تصحب التفكير في موضوعات الزمن الراهن في المغرب، انشغالات منهجية تعيد بعث الأسئلة التالية: هل كتبنا تاريخاً راهناً أم تاريخ قضايا سياسية؟ وحين ننشغل بهذا الموضوع هل استطعنا أن ننزع الالتباس المنهجي بين التاريخ ككتابة والتاريخ كذاكرة، وبتدقيق أكبر، بين الفعل الجماعي والذاكرة الفردية. لا شك أن الانطلاق من هذين السؤالين يسير في اتجاه تقعيد ورش كتابة التاريخ الراهن في الكتابة التاريخية المغربية. والحق، من شأن ذلك أن يرسم الحدود بين الحقلين. يتعلق الأمر، في المستوى الأول بسياقات إشكالية تخترق مختبرا إبستمولوجيا المعرفة التاريخية من أجل الحد من انزلاقات الذاكرة نحو التوظيف السياسي . وفي المستوى الثاني، بما يمكن توصيفه بأدبيات السجون.
من خلال هذه الأدبيات يحضر العنف والعنف المضاد في توصيف صفحات دموية من تاريخ التجاذب السياسي حول السلطة، تخبو اللغة والرمز وبعدها المكتوب وراء زوايا النسيان، يختفي خِلسة معها الجلاد، فيصدح صوت زنازن السجون والمعتقلات السرية، مُذكرا بجروح أليمة تعتور ذوات مكلومة بطعم السياسة.
على المستوى الإستوغرافي يأتي الاهتمام بهذا النوع من التاريخ كصدى للمراجعات التي قام بها المؤرخون في ما يخص مسألة المسافة الزمنية وتغير النظرة إلى الأرشيف. وهناك من يُدرج هذه المراجعات ضمن «تيار العودات» عودة الحدث، عودة المحلي، عودة الفرد، عودة المدة القصيرة، وعودة التاريخ السياسي. ضمن هذا الأساس، يتم اقتراح تقسيم اعتباطي للتاريخ الراهن وفق الخصوصيات السياسية؛ ففي ألمانيا يبدأ التاريخ الراهن مع نهاية الحرب العالمية الثانية، وفي فرنسا مع ثورة ماي 1968 واستقالة دوغول، وفي اسبانيا مع 1975 التي تحيل على انتهاء عقود الديكتاتورية والتحول نحو الملكية الدستورية…هنا في المغرب يشدد المؤرخون على سنة 1956 التي نقلت البلاد من عهد الحِجر نحو تشكل معالم الدولة الحديثة المستقلة.
تعود أولى حلقات الاهتمام بتاريخ الزمن الراهن في ورشات الإسطوغرافيا المغربية إلى ندوتين: الأولى احتضنتها جامعة الأخوين في إفران، والثانية في كلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط. خلالهما أعاد المشاركون طرح الأسئلة الكبرى المرتبطة بإستمولوجيا التاريخ ومهام المؤرخ والتداخل بين عمل الصحفي وعمل المؤرخ وحوامل الزمن الراهن: نصوص، خطابات، روايات شفوية، صحافة، مجلات، صور…
يستدعي السياسي الذاكرة من أجل تبرير الهيمنة، في مقابل يرغب الفرد في التحرر من وضعية الهامشي ويتحول إلى وضعية الشاهد. وبين المنطقين، يأمل القارئ في تجاوز ذاكرة الجُرح والألم من أجل إعادة بناء المشروعية التاريخية «الرأسمال الرمزي «. لكن، ذلك لا يتم على أرضية صياغة ذاكرة تاريخية مستوعبة للتعدد الثقافي والجهوي لكل المكونات الوطنية. علينا أن نتذكر، أنه في تاريخ العالم، وُلدت الذاكرة من رحم الأسطورة عند المجتمعات الشفاهية، وعمَّرت طويلا في أديرة الرهبان على امتداد العصر الوسيط قبل أن تصير شأنا وطنيا، وتنتقل بعد ذلك إلى مرحلة الذاكرة الإلكترونية الرقمية…يتعلق الأمر بمنعطفات كبرى من تاريخ ذاكرة العالم.
ماذا عن توثيق الذاكرة؟ هل تتم تحت اسم الواجب؟ أم تأتي كتنفيس « كتارسيس» عن رغبات الذوات المعذبة في استعادة جزء من كينونتها؟ لماذا تصحبها الضمائر النحوية التالية: أنا- هي- هو- نحن-هم…والحق، «في مجال الذات ليس هناك مرجع» كما يقول صاحب «درجة الصفر في الكتابة» رولان بارت. قولة تصلح للمشتغل على حقل الذاكرة والتاريخ. السردية الواحدة تعسف على الكتابة، لكن علينا أن نقر بأن الذاكرة أشد وقعا من التاريخ على حياة الناس. ينتصر بول ريكور في هذا الصدد إلى القول الذي يُشدد على أن الذاكرة هي لحظة استعراض الماضي كشيء موجود ومنعدم في الوقت نفسه، بينما التاريخ يحظى بالقدرة على توسيع النظرة في المكان وفي الزمان بقوة النقد ضمن تسلسل الشهادة والتفسير والفهم.
في حقيقة الأمر، تكشف متابعات الصحفيين، وكتابات المؤرخين، وشهادات الفاعلين السياسيين عن رغبة صريحة من أجل الكشف عن ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان، ولحظات الاعتقال التعسفي الذي ميَّز تاريخ التجاذب السياسي بين المؤسسة الملكية والقوى اليسارية حول الشرعية السياسية. تنطق ذاكرة الألم الفردي والجماعي مفصحة عن موضوع على درجة عالية من التعقيد، يُغري آل الزمن، ورفقاءهم من تخصصات مجاورة، بالبحث والتنقيب، بحثا عن الحقيقة الضائعة، وقبل كل ذلك، بحثا عن المصارحة قبل المصالحة. هناك حاجة إلى بناء ذاكرة قائمة على توافقات، ذاكرة تساهم في بناء الضابط الاجتماعي من وجهة نظر مدنية وليس من وجهة نظر خلاصية. السؤال إلى من نوكل إليه مهمة كتابة التاريخ عبر الذاكرة؟ من نأتمنه على صياغة الشواهد وبناء الحكاية؟ ونحن نعرف أن المؤرخ لا يزيد عمله على تعليب الوقائع التاريخية بإفادة من العروي. طيب، قد نقبله مع ذلك، شريطة ألا يتعارض هذا التعليب مع حاجيات الراهن. هناك من شبَّه هذا العمل بعمل الحداد، يشتغل على حديد بارد، يصهره، يطرقه ليصنع شيئا جديدا. بينما الذاكرة، شيء مندس بشكل يومي في تفاصيل حياتنا، تتنازعها ثنائية البتر والتمطيط، التضخيم والتقزيم. لهذا وجب أن نضع خطا بين الماضي والتاريخ، الماضي/ الذاكرة قابل للتبرير والشرعنة، بينما التاريخ صناعة وإعادة بناء.
موضوعات حارقة تقع في خط التماس مع الالتباسات المنهجية التي تضغط على المؤرخين. يتحفظ البعض حول شرعية البحث في أوراش الزمن الراهن، وترك مساحات ظل واسعة في الوراء دون إضاءات تاريخية، ويضيف البعض الآخر تحفظه بشأن مدلول الوثيقة الجديدة التي اقتحمت دائرة اشتغال التاريخ. وبين التحفظين، يتعزز سوق النشر بصدور إنتاجات صحفية ومذكرات سياسية تلبي شغف القراء، وتضغط على المؤرخين لتحمل مسؤولياتهم في كتابة تاريخ الزمن الراهن. باختصار، نحن إزاء تداخل منهجي بين التاريخ والذاكرة .
تعمد هذه الورقة الى مواكبة جزء من النقاش الدائر بين جدل كتابة التاريخ عبر الذاكرة، والقصد هنا الذاكرة القريبة من الحدث الشاهد. في حقيقة الأمر، يستند منشأ العودة إلى هذا النقاش بالأصداء التي تفصح عنها تفاعلات الرأي العام السياسي بالمغرب، لعل من ضمنها، تداعيات التصريحات الأخيرة للأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون حول ملف قضية الصحراء. وحول هذه التصريحات، ينتظر الرأي العام ما يمكن للمؤرخ أن يُقدمه من تحليلات وقراءات هادئة وعميقة في مدار وضع دولي موسوم بقاعدة التغير؛ تبعا لتغير خارطة المصالح والرهانات الجيواستراتيجية. لكن علينا أن نُقر صراحة بأننا نقع في عمق مفارقة مفصلية في تناول تاريخ الزمن الراهن: في ضرورة الحاجة إلى استحضار التاريخ في لحظات الأزمة والانكسار، وبين هامشية المؤرخين في مواكبة النقاش العمومي. الاستحضار الثاني الذي يُغذي ورقة العمل يرتبط بكثافة سوق النشر في ما يخص الاشتغال على موضوعات الذاكرة التاريخية. في خضم ذلك، طالع قراء لغة الضاد صدور رواية «زمن الخوف» للصحفي إدريس الكنبوري حول أحداث مجزرة «سوق الأربعاء» من عام 1957م. وقد خلَّفت الرواية وقتها صدى واسعا من طرف النقاد، ودعت المؤرخين إلى ضرورة مواكبة النقاش الثقافي الذي بدأ يفرضه ما يمكن أن نسميه بالأدب التاريخي.
عديد الاستفهامات تطرح حول هذا النوع من الكتابة التاريخية كمداخل أولية في أفق تعميق النظر في تشعباتها الكبرى: لماذا الاهتمام بالتاريخ الراهن؟ وما فائدته المنهجية والاستوغرافية؟ وهل تحقق تراكم إستوغرافي كاف للقيام بحصيلة تنظيرية، والخروج بمراجعات ومقاربات وأوراش بحثية تخرج بالبحث التاريخي من حالة الانحباس والبؤس الذي يصفه البعض؟ وهل هناك اقتناع تام من طرف مختصي الزمن بهذا النوع من التاريخ؟ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون هروبا إلى الأمام من إشكاليات تاريخ الحماية ومن عقدة التركيب أساسا؟ وهل التاريخ الراهن يُعبر عن مسار طبيعي ضمن شبكة البحث التاريخي بالمغرب، أم أنه انزلاق محفوف بمخاطر وهواجس؟ وهل يستقيم الحديث عن دراسات مرجعية عن هذا التاريخ، أم أن البحث لايزال جنينيا في هذا السياق؟ وأخيرا، هل يمكن للمؤرخ أن يقيم حوارا هادئا مع ذاكرة سياسية موشومة بالصخب؟
يعدو الخوض في إشكاليات كتابة التاريخ الراهن بالجامعة المغربية انشغالا مجتمعيا بامتياز، لكنه قد لا يخلو من انزلاقات منهجية وإستوغرافية بالنسبة للمؤرخين، هواجس تمتح من مستويات عدة، من حيث المنهج، تمثل الزمن، البنية، الحدث، المفهوم، التحقيب، البيبليوغرافيا …قياسا بتقاطعات وتمفصلات التاريخ الراهن- منذ الاستقلال إلى فترة العهد الجديد-التي أفرزت معطيات جديدة، إشكالات مركبة، تداخلات علائقية معقدة، وقضايا تاريخية حارقة، أمور فرضت على المؤرخين، ولأول مرة، الانخراط في جدل التاريخ والذاكرة ، ومتابعة النقاش العمومي والدولي حول تفاعلات التاريخ القريب من الذاكرة، مواكبة للتحولات البنيوية التي شهدتها مرحلة الانفراج السياسي والحقوقي لمغرب التسعينات، وفترة العهد الجديد لحكم الملك محمد السادس .
استشعر البحث التاريخي بالمغرب ضرورة إشراك المؤرخين في التفاعل مع النقاش العمومي حول ماضي الانتهاكات الجسيمة لحقوق الانسان سنوات الجمر والرصاص، وما صاحبها من اعتقالات قسرية، ومحاكمات صورية لضحايا العنف الرسمي، في سياق تجاذبات الصراع حول السلطة، بين المؤسسة الملكية والقوى اليسارية، لرصد جوانب العتمة في فترة تاريخية أدرجت ضمن خانة اللامفكر فيها، لحساسيتها التاريخية، وتفاعلاتها الممتدة، وارتباطها بفاعلين سياسيين لا يزالون على قيد الحياة، مما يطرح مأزق التأريخ للذات انطلاقا من شواهد الذاكرة.
تشهد على هذا المنحى، سلسلة الندوات واللقاءات التي نظمتها كليات الآداب والعلوم الانسانية بالمغرب منذ مطلع القرن الحالي، من قبيل ندوة «التاريخ الحاضر ومهام المؤرخ» في نونبر 2005م بكلية الآداب والعلوم الانسانية بالرباط، وندوة من « الحماية الى الاستقلال: اشكالية الزمن الراهن» والأيام الوطنية للجمعية المغربية للبحث التاريخي أيام 1-2-3 دجنبر 2011 في موضوع «التاريخ المعاصر: التاريخ والهوية والحداثة».
تعكس هذه الندوات واللقاءات التاريخية، بالمغرب كما بالخارج، إضافة إلى جلسات الاستماع العمومية التي باشرتها هيئة الانصاف والمصالحة عن ترسخ انشغال معرفي وسياسي وحقوقي، للنبش في تفاصيل مرحلة دقيقة من تاريخ المغرب، والرغبة في الإنصات والاقتراب من ذاكرة المعذبين من سنوات الجمر والرصاص، وتكوين ذاكرة جماعية وطنية عن تاريخ عنف الدولة الرسمي، لطي صفحة الماضي، وبناء العدالة الانتقالية عن طريق الانصاف والمصالحة، كمدخل نحو ترسيخ قيم الديموقراطية والتنمية والحداثة والقيم الكونية لمرجعيات حقوق الإنسان.
كان لصدور كتاب جيل بيرو «صديقنا الملك» للصحفي الفرنسي جيل بيرو، ورصد تقارير حقوقية دولية لوضعية حقوق الانسان بالمغرب، وضغط المنظمات الحقوقية المغربية في الداخل، انعكاس مباشر في التمهيد لسياسة الانفراج السياسي والحقوقي بالمغرب لحظة التسعينات، وبداية الحديث عن مرحلة الانتقال الديموقراطي، التي ستبدأ بعودة المنفيين السياسيين والحقوقيين الى المغرب، وتأسيس المجلس الاستشاري لحقوق الانسان، ومشاركة القوى السياسية المعارضة في الانتخابات، وذلك في سياق ماكروسياسي دولي، مطبوع بتحولات جيوسياسية عميقة، بعد انهيار جدار برلين، وانتقال بنية العلاقات الدولية من نظام القطبية الثنائية نحو القطب الواحد عقب تفكك واختفاء شبح الاتحاد السوفياتي.
رافق هذا الاقتحام الجديد لكتابة التاريخ الراهن، من طرف المؤرخين، والذي كان حكرا في ما مضى، على مختصي العلوم السياسية، ورفقائهم من علماء الاجتماع والأنثربولوجيين ، أقلام الصحافة وجهات النظر بخصوص هذا النوع من الكتابة التاريخية، بين مؤيد وداعم، وآخر رافض ومنتقد. اختلاف منهجي تمحور أساسا حول طبيعة الوسائل والأدوات المنهجية التي تجعل المؤرخين على مقربة من قراءة وتأويل معطيات الذاكرة السياسية القريبة، وملابساتها المعقدة، والتي تفرض إعادة النظر في الثوابت المنهجية التي تشكل هوية التاريخ، وفي أساليب اشتغال الدراسات التاريخية، وفق الأسس الابستمولوجية التي قطعها التاريخ في طريق تأكيد العلمية والمشروعية. مرد هذا الصخب، مفهوم الوثيقة الجديدة، وانتفاء شرط اختمار الوثائق، ومقياس المسافة بين الحدث الراهن والمؤرخ الباحث.
وعلى أية حال، فقد ساهم انفتاح البحث التاريخي على قضايا التاريخ الراهن، وتجسير قنوات التواصل والحوار المباشر مع تخصصات إنسانية مجاورة، وفق قناعة التناهج التي ناضلت من أجلها المدارس التاريخية، في سياق تقعيد الأسس الإبستمولوجية للمعرفة التاريخية، وفي أفق بناء السوق الإنسانية المشتركة بتعبير مؤرخ المتوسط فرناند بروديل، في رسم توجه جديد يجعل الكتابة التاريخية، والبحث التاريخي في واجهة النقاش، وفي صدارة العلوم الاجتماعية والسياسية، المهتمة بالتاريخ الراهن، حول فهم ملابسات فترة تاريخية مركبة، بمعالجات رصينة، وتأويلات تاريخية عميقة، تنهل من العمق الزمني، الذي يشكل بلازما البحث التاريخي، وتقرب تحليلات وتأويلات المؤرخين، بعد مرحلة غياب طويلة عن المشهد العمومي من جمهور القراء، ومؤسسات النشر، وشاشات الإعلام، بل وتجعل البحث التاريخي في قلب معركة الانتصار للعلمية التاريخية بتعبير مشيل دوسرتو على حساب التوظيف السياسي للذاكرة الوطنية.
اجتراح تاريخي لذاكرة الألم والمعاناة، معاناة جيل بأكمله في مواجهة سراديب الجلادين، وأنظمة القمع البوليسي، وأقسى أنواع التنكيل والاضطهاد التي تنهل من العمق التاريخي للمخزن، كبنية سياسية فوقية، والتي تجعل من سؤال التحول من التقليد إلى التحديث لا الحداثة، معاقا في وضع كهذا، ذاكرة موشومة بالعنف الرسمي، تلبي فضول وشغف عدد واسع من القراء، وتخرج البحث التاريخي من دائرة الاختصاص، والقواعد المنهجية الصارمة، نحو معانقة أمل بناء المشروع المجتمعي المجهض، مشروع بناء الانسان المغربي المتصالح مع التاريخ والذاكرة، انخراط يجعل الكتابة التاريخية، تستجيب لانتظارات توصيات الهيئات الحقوقية الدولية، ومطالب المنظمات الحقوقية المغربية من الداخل، وانشغالات الرأي العام بمختلف أطيافه.
والحال، يسجل للأدب انخراطه المبكر في الكشف عن ملابسات الاعتقال والتعذيب، وكشف النقاب عن ممارسات جلادي الأمس، فقد أثارت رواية « السجينة» لمليكة أوفقير و»حدائق الملك» لفاطمة أوفقير و»الغرفة السوداء: درب مولاي الشريف» لجواد مديدش و»تازمامارت»: تذكرة ذهاب وإياب إلى الجحيم» لمحمد الرايس و»الزنزانة رقم 10» لأحمد المرزوقي وغيرها…صخبا سياسيا وحقوقيا، وتتبعا إعلاميا قويا بالمغرب وخارجه، نظرا لحرارتها وجرأتها في الكشف عن دهاليز المعتقلات السرية، وغذت بذلك شغف القراء والباحثين المهتمين بتفاصيل المرحلة، لاكتشاف زوايا الظل والعتمة في تاريخ المغرب ، والوقوف على حقيقة الأحداث التي شهدها المغرب في فترة ما بعد الاستقلال، انطلاقا من ذاكرة الأفراد المعايشين لها ومذكرات الفاعلين .
في المقابل، يسجل للبحث التاريخي تخلفه عن الركب ، قياسا بباقي المباحث الإنسانية الأخرى، التي اقتحمت منذ وقت مبكر قضايا التاريخ الراهن، أو التاريخ الفوري بتعبير الصحفي الفرنسي جون لاكوتير، ضمن المؤلف الجماعي» التاريخ الجديد» لعراب الجيل الثالث من مدرسة الحوليات الفرنسية جاك لوغوف، وذلك في ظل هيمنة النزعة الوطنية الحماسية التي استبدت برفاق جرمان عياش في كتابة مشروع التاريخ الوطني، لحظة المجابهة المباشرة مع الكتابات الكولونيالية، والانتصار للوثيقة المخزنية والأرشيف المحلي. إننا نقف بعد اختمار وتأمل، على عسر هذا التوجه، وارتكاسته المنهجية والإستوغرافية، في بناء وعي تاريخي نقدي لتاريخ المغرب، فهل يعني الانخراط في كتابة التاريخ الراهن فشلا ضمنيا في مقاربة التاريخ الوطني من زاوية التركيب ؟ والاستعاضة عنه بكتابة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي المونوغرافي؟ كما تم مع المونوغرافيات الرائدة لأحمد التوفيق وعلي المحمدي وعبد الرحمان المودن وغيرهم، أم هو هروب من تاريخ الحماية وعقدتها وأسئلتها الحارقة؟ وهل المسألة لها علاقة بالأرشيف الخارجي؟ أم بهيمنة الدراسات الأجنبية في هذا المسار من البحث، التي تشكل تحديا سيكولوجيا للباحثين المغاربة، ومن ثم استحالة تجاوز ما كتبته الإسطوغرافيا الأجنبية عن تاريخ المغرب من قبيل دانييل ريفي وليام هوينسطن ببير فيرمورين…؟ ثم هل يستقيم الحديث عن التاريخ الراهن، من دون المرور الطبيعي من تاريخ الحماية؟
وعليه، يجسد الانخراط في كتابة التاريخ الراهن المغربي، والمساهمة في تفكيك أسئلة اللحظة التاريخية، أمرا لا يخلو من هواجس، مرد هذا الانهجاس، جاذبية القرن التاسع عشر التي مارست استبدادها على عموم مؤرخي الجامعة المغربية، وأفرزت دراسات مرجعية رائدة، وأخرى استنساخية مكررة، جعلت البحث التاريخي لا يتخذ مساره الطبيعي، ويقفز على مرحلة الحماية الفرنسية، التي تركت رجة عميقة على مستوى البنيات الاقتصادية والاجتماعية والذهنية داخل المجتمع المغربي، وندوبا مشوهة في الجسد المغربي، وتركت وراءها أسئلة تاريخية كثيرة، وإشكالات مهجورة، دون أن يتمكن البحث التاريخي من الخوض فيها.
في الذاكرة والتاريخ:
فصل الالتباس
يُحيل مفهوم الذاكرة إلى آليات تمثل الماضي واستحضاره، هذا التمثل الاسترجاعي لنسق الذهنيات والتصورات الرمزية يستدعي حفرا شاملا في الذاكرة البشرية، كإنتاج اجتماعي وسياسي وثقافي، وتفاعلا لعدة مباحث إنسانية من تاريخ، فلسفة، علم نفس، سوسيولوجيا، أنثربولوجيا، علوم سياسية، لسانيات، سيميولوجيا…فالذاكرة بتوصيف المؤرخ الفرنسي بيير نورا تمثل «ما تبقى من الماضي في أذهان الناس، أو ما يتصورونه بخصوص هذا الماضي»، فهي موروث ذهني تختزل مسيرة من الذكريات الفردية والجماعية التي تُغذي التمثلات المجتمعية. إنها مجرد صورة عن ماضي وقع استحضاره، اختزاله، تضخيمه، تقزيمه، تبريره…وفق حاجيات اللحظة وتناقضات الراهن، غالبا ما تغلب عليها صفة «القدسية» و»الرمزية» كصورة بعض الشخصيات السياسية والدينية، صورة قد تمتزج فيها الصورة بالخيال، وتقود نحو اختفاء الواقع بتعبير جون بودريار، وظهور ما «فوق الواقع.» وعليه تتميز الذاكرة بتعدد المرجعيات، بتعدد الأفراد، الجماعات، المؤسسات…بالشفهية والانتقائية والاحتفالية، بهدف تخليد الماضي، والاحتفال بالحاضر كنسق استمراري، عبر ممارسة الحكي والتذكر، مما يجعلها لصيقة بذاتية النظرة ونفسانية الحالة. فالشهادة أو الذاكرة، سواء كانت فردية أو جماعية تبقى ذات سمات ذاتية، انفعالية، رمزية، تفتقر إلى جهاز مفاهيمي، وتعمل بكيفية إرادية او لا إرادية على تضخيم/ تقزيم الوقائع وفق حاجيات اللحظة، ورهانات السياق المجتمعي، ومن ثم تبقى مجرد «صورة عن ماض متخيل وقع استحضاره» مطبوعة بقداسة ممجدة، كما يظهر في تقديس صورة بعض الرموز السياسية، مثل محمد الخامس، المهدي بن بركة، عمر بن جلون، عبد الرحيم بوعبيد، عبد الله ابراهيم . بينما التاريخ من حيث هو اشتغال مفاهيمي، موضوعاتي وإشكالي في آن، يقوم على المعالجة المنهجية، على «ترتيب الماضي» بعبارة لوسيان فيفر، على عملية بناء وإعادة بناء، كتابة وإعادة كتابة، صياغة وإعادة صياغة، لهذا الماضي، انطلاقا من سلسلة عمليات منهجية متداخلة، تشتغل بالتحليل والتأويل والنقد .
هذا الترتيب أو البناء لا يتأتى إلا بجهد متعدد اللحظات، لحظة إقامة البرهان الوثائقي، لحظة التفسير والفهم، ولحظة الكتابة، مما يطرح معه استعصاءات تمثيل شيء غائب وقع سابقا، واستعصاء ممارسة مكرسة للاستذكار النشط للماضي، والتي رفعها التاريخ إلى مستوى إعادة البناء ، فتنطوي بذلك، عملية معالجة أحداث الماضي على تعقيد منهجي ومسؤولية كبيرة من الوجهة التاريخية الصرفة، فالتاريخ كما قال بول فين هو «العلم الاجتماعي الوحيد الذي لا يتحكم فيه صاحب الاختصاص وحده، لأن التاريخ هو تناول متعدد. فبالإضافة إلى التناول الجامعي، التخصص الاحترافي، هناك تناول مدرسي من حيث المقررات الدراسية، وتناول إعلامي من حيث المقالات الصحفية والأشرطة الوثائقية المعروضة بالقنوات التلفزيونية، وتناول من حيث استعمالات الماضي لدى عامة الناس».
* (أستاذ باحث)
(الجزء الثاني من المقال
ننشره غدا السبت)

