الشاعر المتعدد أحمد صبري .. حَكَمُ الشعر وهدّافُ الشعراء وحارسُ مَرمَى القصيدة

إن الشاعر أحمد صبري شخص مبدع وطريف ونص ممتع وأليف. وهو نصا وشخصا، يثير من حوله دهشة أليفة وألفة مدهشة.
أ- يمكن الحديث إليه بلا انقطاع لكن الحديث عن شخصيته الإبداعية وتجربته الاجتماعية قد يحتاج إلى بوصلة نقدية خاصة، أو إلى كاميرا خفية ترصد أغوار المجرات التي يسبح فيها وأسرار الشفرات التي يرسلها من مسافات قريبة وبعيدة.
ومن يحاول أن يرسم له صورة تقريبية، لابد أن تهرب منه «التفاصيل والتقاطعات أو التشابكات» إلى ملاعب خضراء كثيرة، رحبة الفضاء وخصبة العطاء، ساطعة بالأضواء وضاجة بمكبرات الصوت والأصداء وعاجة بجمهور غفير لكنه لا يستطيع التكهن بالكفة الراجحة والجهة الرابحة. ذلك لأنه مفرد بصيغة جمع يتقن اللعب في أجنحة وميادين شتى ، ويعرف من أية زاوية يسدد فيصيب. إنه «هو البحر من أي الجهات أتيته» و «هو بحر السماحة والجود..» وهو «هو وحده الشاهد على مجده وصوابه» كما قال رامبو أو المتنبي:» هو البحر غص فيه إذا كان هادئا، على الدر واحذره إذا كان مزبدا». إنه بركان في إنسان، ينطوي على منجم لم يكشف النقد عن معادنه الكامنة في شخصيته المبدعة وتجربته الممتعة..
ح- حين أصدر عام 1967 ديوانه الأول : «أهداني خوخة ومات» كانت الدواوين المغربية معدودة على رؤوس أصابع اليدين بل أقل إذا قصر الكلام على مجاميع الشعر الحديث. ومنها ديوان «صامدون» للشاعر محمد علي الهواري. وهما معا من مجايلي شعراء «الدار البيضاء» الراحلين : مصطفى المعداوي وشقيقه أحمد المجاطي وأحمد الجوماري ومصطفى التومي ومحمد العراقي.. وقد أدركتهم جميعا محنة التعليم في عز الشباب. وكانوا كلهم عصاميين لم يُلفوا مُنعَّمين إلا بالشقاء وقد شقوا إلى الحياة والثقافة والشعر طريقا هم وحدهم أدرى بما عانوه فيها من ضروب المحن والعذاب والإحن والصعاب. ولو سألنا الشاعر أحمد صبري عن الإنسان لاكتفى ربما بكلمتين من قصيدته «مكاشفة» : «اقرأني/اقرأه» أو لأجاب بهذا السؤال»
أما الزمان؟
فتلك رائحة يحار اللون في إدراكها
أما الطريق؟
فتلك حورية تعذب من يغازلها ولا يدري الرهان.
وقد يطل علينا وجهه من «انكسار المرايا» كاشفا عن سر تلك الرائحة الحائرة اللون ونازفا بلون الجراح المالحة:
عفواً كتبتها من دون أن أدجن الزمان
لأجلها كتبتها
.. بعدما أدركت نضج السن في اليدين
وسن النضج في العينين
وبعدما تذاوبت أملاح لغز في دمي محمومه
هكذا كتبتها_استباحة لجرأة مرسومه.

م- فلماذا إذن حين تذكر الريادة الشعرية يستثنى منها أحيانا بعض أو كل هؤلاء الشعراء أو لا يذكرون إلا على استحياء؟
لم يخرج أحد من معطف أحد، ولكن إذا كان لابد من حديث عن تلك الريادة البروكستية التي تضيق كثيرا وتتسع أحيانا حسب الأهواء، فإن الشاعر أحمد صبري من أولئك الرواد الأفذاذ. وقد ترك في الشعراء الشباب من جيل الستينيات بالدار البيضاء وقعا ودويا ولو على سبيل الاقتداء والاهتداء إلى الشعر. أما تلك «الترويكا» فلم تثر نقعا يذكر عدا في آذان بعض النقاد ممن درجوا على توصيفهم وحدهم بالرواد المكللين بتاج الريادة في قيادة عربة الشعر الحديث. فالشاعر أحمد المجاطي مثلا عرفناه مدرسا بالثانوي وسمعنا عنه شاعرا لكننا لم نألف شعره أو شعر غيره من الرائدين الآخرين إلا أيام الطلب بكلية الأدب وقد ذهب إليها جل الشعراء الشباب بقصائد منشورة ومجاميع مطبوعة مثل « أشعار للناس الطيبين» (67) و «الحب مهزلة القرون» ( 68) للشاعر محمد عنيبة الحمري.. بينما كان أولئك الشباب يعرفون أحمد صبري شاعرا وإنسانا ويألفون أحمد الجوماري شاعرا وإنسانا ومحمد علي الهواري شاعرا ومدرسا ومناضلا ومؤطرا لأنشطة تلاميذ الوداديات.. ويجالسونهم في زوايا المقاهي والنوادي والأحياء.. بل إن الأدباء الشباب من جمعية «رواد القلم» المؤسسة في مطلع الستينيات كانوا يستضيفون روادا من الشعراء في أمسياتها ومهرجاناتها الشعرية.. فالريادة إذن إذا كان لابد منها ينبغي الأخذ فيها بعين الاعتبار : ما كان لا ما سيكون!..
د- وفي «قراءة» التقديم للشاعر محمد السرغيني عبارات مثل : «الصبوة والأنفة» ومشيئة تريد وقوة لا تعجز» و «خلجات ترتعش بها الذاكرة، بها يؤول الشاعر ما حوله وبها يقتحم إذ عليه أن يقتحم» و «إن بالعنف فبالعنف وإن باللين فباللين» و «سبيل إلى معرفة التفاصيل والتقاطعات والتشابكات» _يمكن الاستئناس بها لإنارة جوانب من شخصية الشاعر قد تكون خفية خاصة لمن لا يعرفه إلا «بعيدا عن كثب» باعتبارها إشارات ذات دلالات تكشف عن فرادة تجربته في الكتابة والحياة.. فهل من «سبيل إلى معرفة تلك التفاصيل والتقاطعات والتشابكات»؟ ذلك ما كانت تؤمله هذه المداخلة مهتدية بمفتاح الشاعر الفرنسي غيللفيك : «دعنا نأمل، في رؤية الأقفال تنفتح دون ضجيج»!..
وقد أجاب الدكتور محمد السرغيني بهذا السؤال « ماذا تقول القصائد في ولائها المزدوج لولائها المزدوج: الصبوة والأنفة؟ هل تحدث نفسها على طريقة الصدى ورجع الصدى؟» عن شخصية الإنسان أكثر مما تساءل بالجواب عن تجربة الشاعر التي تختزنها صوتا وصدى عيون القصائد ويختزلها عنوان الديوان..
ص- وللشاعر أحمد صبري عيون إنسانية، بصيرة وخبيرة، ذكية وقوية، عاشقة ومؤرقة بشجون وشؤون كثيرة ولكن إذا كانت منيعة في مواقع الإنكار فإنها صريعة في مواضيع الإيثار و «أضعف خلق الله إنسانا» وألطف أنساما من شميم عَرار قصائده الفواحة برائحة المسك والزعفران، والشيح والسعتر، والنعناع والحناء. وفي الحالتين لا تحيد قيد أنملة عن الوفاء لهذا الولاء المزدوج : قد تصبو «الأعين المرصود في حدقاتها عطش العناق»(ص56) «فتنتشي إلى حد البكاء» (ص34) وقد تركب متن الأنفة فلا يثنيها شيء :»كل الخطايا ما عدا كذب العناق» )ص56) ولا ترتكب خطاياها إلا في الاتجاه الصحيح والسليم إذ ترى عيونا وقحة تتجاسر كالشاعر القديم سَلْم الخاسر كي تفوز باللذات والمغانم، بينما عيون أخرى أجدر منها وأقدر تراقب الناس وتموت غما!. ولصاحب الطنبور، سلم الخاسر، قصة معروفة مع أستاذه بشار بن برد إذ سطا على بيته وسرق منه معناه وأثث به بيته الشهير : من راقب الناس مات غما، وفاز باللذة الجسور ! فسار هذا في الناس وذاع بينما نسي ذاك وضاع وبذلك ربح سلم وهو «الخاسر» وخسر بشار الشاعر والعقلاني وهو صاحب البيت الشعري الأصيل وذو بُرد أيضا!..
إن الشاعر أحمد صبري إنسان واضح وصريح، كقصائده «يهفو» و «لا ينحني»، يتواصل مع الآخرين وإن كانوا معه عل طرفي نقيض بالقريض والحديث المستفيض ولا يتخاذل أمام أي شخص وأي نص كان. وفي فرادة شخصيته «مشيئة تريد وقوة (لا) تعجز» لأنه ذو شجاعة نادرة وجرأة قادرة تقتحم الصعب والمحال وتنسجم مع الممكن والمؤتلف من مختلف المواقف والمناسبات والمخاطبات «إن بالعنف فبالعنف، وإن باللين فباللين»! وله في هذا المجال أخبار طريفة وأسرار معروفة لا يجرؤ على ذكرها أحد سواه، قد تفوق «تحفة الألباب في ما لا يوجد في كتاب»!..
ب- ولا عبارة تختزل شخصيته الفريدة الممتعة والممتنعة أفضل من هذه الشذرات الرامبوية :»في المدن، كنت أزور النزل والحجرات التي سيقدسها بإقامته، كان أشد بأسا من قديس، وأكثر فطرة سليمة من مسافر. وهو، هو وحده الشاهد على مجده وصوابه». وهو، كذلك، بالتعبير التروتسكوي «ثورة دائمة» بكل ما تعنيه الثورة من عصامية وصدامية، ومن فعل وحلم، ومن طفولة وبطولة، ومن حدب وحماسة، ومن أدب ومؤانسة، ومن دأب وممارسة ومن إبداع وإمتاع.. يركز عصاه في أية تربة فتزهر وتثمر باليانع والناضج من ثمار الحياة والكتابة..
ر- ولا أدري لماذا كلما ذكر اسمه أستحضر صورة الشاعر الروسي المعاصر يوجين يفتوشينكو. ربما لما بينهما من قواسم مشتركة : كلاهما خبر الملاعب المتربة والمعشبة. أوشك يفتوشينكو على النجاح كحارس مرمى وكتب عن الرياضة شعرا ونثرا وشاعرنا كذلك لعب ودرب وكتب عنها بهذا العنوان الشاعري «الأنشودة الحزينة» (1980):ولا يزال فيها خبيرا رياضيا لا يبارى وصحافيا لا يجارى، وكلاهما رحل كثيرا داخل وخارج وطنه ونزل في حجرات من فنادق العالم كاد كما قال رامبو « أن يقدسها بإقامته». وكلاهما ذو شخصية مناضلة ومستقلة، يخوض غمار العمل الجمعي الثقافي والسياسي والفني والصحافي دون ارتداء لقناع أو خلع لعِذار.. وكلاهما لم يصانع في أمور كثيرة ويأبى أن يُضرَّس بأنياب.. وإذا كان يفتوشينكو قد تخرج من مدرسة الحياة الشاقة داعيا الشاعر إلى عدم الاكتفاء بكتابة القصيدة فقط بل إلى الدفاع عنها أيضا ولو بفنون الحرب اليابانية، فإن شاعرنا كذلك من أشد المكافحين والمنافحين عن الشعر والشعراء. لم يتصدّ للدفاع عن مرمى قصيدته فحسب، إذ كسر شوكة قراءة «ميم» لم تر في ديوانه «أهداني خوخة ومات» إلا الكسر العروضي، بل تصدّى أيضا بالهجوم دفاعا عن حق غيره من الشعراء كالرد على نقد «سين» أسقط سهوا أسماء شعراء من الدار البيضاء.
ي_ وله مواقف ومخاطبات أخرى في مناسبات كثيرة كانت كلها مثار إعجاب المثقفين الشباب، صفقوا لها بحماسة كأنهم من أنصار فريقي الوداد والرجاء!..
ولعل تجربته الطويلة والحافلة بالعمل الثقافي والصحافي وخبرته بالميادين الرياضية والديداكتيكية قد أكسبته تلك الشجاعة النادرة والجرأة القادرة على النزال والسجال جعلت منه بامتياز ودون منازع :حَكَم الشعر وهدّاف الشعراء وحارس مرمى القصيدة «السيدة الفريدة» والعنيدة.. ومن كذب فليجرّب!..

من دراسة طويلة في كتاب «سنديانة الشعراء/قراءات وشهادات 2003 عن «دار الثقافة» للشاعر والناقد إدريس الملياني

********************

في رحيل الشاعر والقصيدة التي لا تنحني أبدا

_ تألهي سيدتي الفريدهْ
أحجارك الجمار
قصيدهْ

*
_ أنا لا أعرفه إلا وَقوفا
في تيارات الهواء
وجنوح العاصفة

*
_ قصيدتي
سيدتي
لك اعتراف بالعراء

أحمد صبري

*
منذ جاء إليها
وهوّ يقولُ لها وَلَهَا :
أنا صبري، وأجري، على الله !
وهي التي يشتهيها
تقولُ لهُ وَلَهَا :
أنا لن أنحني لسواك !
*
القصيدةُ والشاعرُ
امتزجا جسدا
كأنه، خِيط لها
جُبّةً،
يرتديها
وصِيغت لهُ
جُنّةً،
ليس يخلعها أبدا
*
شكا صاحبي..
جريرةَ إخوانه فبكيتُ
كأنِّي أنا من تجنّى عليه
أوَانِّي أنا من شكوتُ
إليه
كبيرةَ صحبي..
*
طار من “ درب غَلَّفَ “
رفرفَ رفرفَ
حلّقَ حلّقَ ثمّ
علا وعلا
فوق ما لا تطيق الرياح
ولم يُرَ يوماً كما
هو الآنَ بينَ.. رفاق الكفاح
مهيضَ الجناح
*
تمَرَّسْت
بالحزب حَتَّى
لقد قلت فيه ما
(لم يقلهُ مالكُ في الخمر بعدْ !)
قالهُ الشاعرُ المالكيُّ ابنُ عبدْ:
لماذا مَتَى
أدْنُ منكَ تَبْعُدْ ؟ !
*
وما لي ومالكَ،
يا ابن عمّي وأمّي
وعمّي وأمّي
ويا ابن أبي وأبي
وأحبّاءَ عيني
وقلبي وشعبي
وربي
وهيهاتَ !
…….
أدنو وتنأون أبعدَ
تنأون أبعدَ
أبعدَ
أبعُدُ
أبعُدُ
أبْ..
عُدْ !.

من ديوان :
«أبياتي آياتي»
للشاعر ادريس الملياني


الكاتب : ادريس الملياني

  

بتاريخ : 16/12/2022