صدرت حديثاً الترجمة العربية لكتاب تشارلز سيميك “المسخ يعشق متاهته – يوميات”، وفيه يرسم الشاعر الأميركي صورته الإبداعية والحياتية المراوغة، عبر مجموعة من القصاصات والهوامش والتعليقات، المشحونة بالارتجالات العفوية والتأملات المرتبكة والخيالات الغرائبية.
في يومياته الفوضوية أو “خربشاته” العشوائية بحد تعبيره، لا يخرج الشاعر الأميركي الصربي الأصل، تشارلز سيميك (1938-2023) عن توتراته الإبداعية واضطرابه الحياتي وقلقه الوجودي. فمجموعة تدوينات سيميك وملاحظاته القصيرة وتعليقاته الخاطفة، الصادرة بعنوان “المسخ يعشق متاهته” عن “دار خطوط وظلال” (2025) بترجمة الأردني الفلسطيني الأصل تحسين الخطيب، هي صورة متكاملة للشاعر الأميركي نحتها لذاته على غير تخطيط ومن دون رتوش، عبر مئات العبارات التي ارتجلها ودونها في مواقف ومناسبات متنوعة على مدار 20 عاماً، قبل أن يقرر جمعها في كتاب صدر للمرة الأولى في الولايات المتحدة في عام 2008.
لا يفك سيميك شيفراته كأديب وكإنسان في نصوص يومياته التي أراد لها أيضاً أن تغدو متاهات موازية وألغازاً مشوقة، محملة بالومضات الشعرية وضربات الفرشاة السوريالية والصور المبتورة والأخيلة العجائبية والأفكار الشاردة والتأملات الجامحة. يقدم سيميك الشاعر البارز المؤثر في حركة قصيدة النثر الجديدة في أمريكا والعالم، في هذه اليوميات نثارات من نوع خاص تتعاطى مع العادي والبسيط والمهمش والمهمل، ببساطة وعمق في آن، وبتفاصيل ثرية لا ينتقص التكثيف من قيمتها.
كما تستوعب تدويناته كثيراً من مفاهيمه وآرائه الجمالية والفلسفية والشخصية ومحطات رحلته، منذ ولادته في بلغراد بيوغسلافيا السابقة وتعلق ذاكرته بمشاهد الحرب العالمية الثانية الكارثية، ومغادرته إلى باريس برفقة أمه وأخيه وهو في الـ15، وانتقالهم بعدها إلى الولايات المتحدة التي يعمل فيها الأب، واستقرار العائلة هناك، حيث صدرت مجموعات سيميك الشعرية اللافتة، ومنها “ما يقوله العشب”، و”تفكيك الصمت”، و”سيرة ومرثية”، و”مدرسة للأفكار الشريرة”، و”تقشف”، و”فندق الأرق”، و”ذلك الشيء الصغير”، وغيرها. وهي التي نال عنها جوائز مرموقة، منها: جائزة رابطة القلم للترجمة، وجائزة البوليتزر، وجائزة الأركانة الدولية، ووسام فروست. يسرد تشارلز سيميك يومياته المتدفقة من تلقاء ذاتها عبر أكثر من 200 صفحة، مقسمة من غير عناوين إلى خمسة أجزاء مرقمة بالأعداد الرومانية. ويحافظ المترجم تحسين الخطيب على شكل التدوينات بالصيغة التي وردت عليها في نسخة الكتاب الأصلية، كما يوضح في مقدمته للطبعة العربية، “فلا مسافة في بداية الفقرة التي تفتتح بها كل تدوينة، إنما تنطلق من أقصى الهامش إلى أقصى الهامش، على أن تكون المسافات البادئة في مفتتح كل فقرة تالية، إذا كانت التدوينة تحوي أكثر من فقرة، لكي يدل ذلك على أن هذه الفقرات جميعاً جزء من التدوينة الأصلية، وليست مستقلة بذاتها. ثم عمد المؤلف إلى إدراج مساحات بيضاء بين كل تدوينة وأخرى، كي يستطيع القارئ تمييز التدوينات، بعضها عن بعض”.
هزلية مريرة
يدفع تشارلز سيميك قارئه بسلاسة إلى فضاءات عالمه ومتاهاته المتشابكة، حيث صراع الحياة والموت، والفن والواقع، والجمال والقبح، والحقيقة والسراب، والمرح والمرارة. هذا المتلقي/ الآخر، هو شريك سيميك في حيرته وضياعه واغترابه البدني والنفسي، وهو قرينه الدائم في كل تساؤلاته وتدويناته التي يسجلها بلغة شعرية أو سردية أو ساخرة ككوميديا سوداء، وإن كان يبدو ظاهرياً في بعض الأحيان أنه يخاطب فيها نفسه “التاريخ كتاب في فن الطبخ. الطغاة طهاة. الفلاسفة يكتبون قوائم الطعام. القساوسة ندل. العسكر حراس النظام. والغناء الذي تسمعونه هو غناء الشعراء الذين يغسلون الأطباق في المطبخ!”.
وتحضر النوازل الكبرى والقضايا المصيرية والذكريات المتعلقة بالحرب العالمية وغيرها من الأمور الجسام أيضاً في يوميات سيميك، ليس من خلال توصيفاتها النمطية، التاريخية والتوثيقية، وإنما من خلال مفارقات دالة وزوايا التقاط بالغة الخصوصية والحساسية وحس تهكمي جذاب، ليجد المتلقي نفسه منتظماً في قلب المشهد من دون مقدمات ومن غير تنظيرات “كنا نأكل البطيخ تحت سرب الطائرات التي تحلق في الأعالي. وبينما كنا نأكل، كانت القنابل تسقط على بلغراد. شاهدنا الدخان يصاعد في البعيد. شعرنا بالحر في الحديقة، فطلبنا أن نخلع قمصاننا. فاح صوت البطيخة فرقعة حادة، علامة على أنها يانعة، حين قطعتها أمي بسكين كبيرة”.
ومن ذلك أيضاً ما يستعرضه سيميك من عناوين رئيسة افتراضية يتطلع إليها في بعض الصحف الشعبية المعروضة للبيع في أحد المتاجر الكبيرة، حيث تقول هذه العناوين المفزعة “ذبابة تنشر الرعب في كانزاس، ونادل آكل للحوم البشر يلتهم ستة زبائن يتناولون طعام الغداء في لوس أنجليس”. ويطارد سيميك أوهام الحلم الأمريكي في مواضع شتى من يومياته، فهذا الحلم الأمريكي الجديد من وجهة نظره هو ببساطة “أن تصبح فاحش الثراء، وينظر إليك على رغم من ذلك بوصفك ضحية!”. ويفشي الشاعر الأمريكي سراً في شأن حلم حقيقي له، بقوله “في حلمي، ركبت سيارة الأجرة إلى الصين كي أرى السور العظيم”.
عن “الأندبندنت عربية”